بوابات الزنزانات مفتوحة في سجن صيدانا (تصوير إيناس شري)
“اعتقلوني وقت كان ابني عمره 6 سنين، ضهرت عمره 26، ما عرفته، خسرت عمر بحاله، خسرت لحظات ما بتتعوّض”، هكذا عبّر جمال نبعة، المعتقل المحرّر من السجون السورية بعد سقوط نظام الأسد، عن قهره ولوعته من ضياع عمره ظلمًا في أقبية السجون السورية. وما قصّة نبعة إلّا نموذجًا عن إهمال الحكومات اللبنانية المتعاقبة إيجاد حلّ لقضية اللبنانيين المعتقلين والمفقودين والمخفيين قسرًا في السجون السورية.
وكان سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024 وفتح المعتقلات والسجون وتحرير من فيها، شَكل بارقة أمل لأهالي المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سورية البالغ عددهم حوالي 622 شخصًا، بحسب رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، علي أبو دهن، الذين كانوا ينتظرون هذه اللحظة، بعضهم منذ أكثر من أربعين عامًا، لمعرفة مصير ابنائهم، إلّا أنّ آمال غالبيّهم خابت لعدم الكشف عن مصيرهم لغاية الآن.
فعلى الرغم من مرور خمسة أشهر على الحدث، إلّا أنّ المعلومات بشأن المعتقلين المحرّرين لا تزال غير متوفّرة، ولغاية اليوم ليس لدى الجهات المعنية أي رقم دقيق عن عدد المعتقلين الذين خرجوا من السجون السورية بعد سقوط الأسد، ما خلا اللائحة التي أعلن عنها وزير الداخلية السابق بسام المولوي في كانون الأوّل الماضي والتي تضمّنت 9 أسماء.
كتابات على أبواب المهاجع في صيدنايا بعد تحرير المعتقلين (تصوير إيناس شري)
وفي حين ذكرت جريدة “الشرق الأوسط” أنّ عدد المعتقلين المحررين الذين عادوا إلى لبنان يبلغ حوالي 23، أشارت مصادر مطّلعة لـ “المفكرة” إلى أنّ العدد قد يناهز الأربعين. وقد تمكّنت “المفكرة” من إحصاء 15 اسمًا لمعتقلين محرّرين، جمعتها من مصادر عدّة منها المقابلات الصحافية التي أدلوا بها بعد خروجهم، ومن خلال ناشطين متابعين للقضية.
وقد التقت “المفكرة” ثلاثة منهم هم: سهيل حموي الذي اعتقل في العام 1992 وهو سوري ولد في لبنان وعائلته تحمل الجنسية اللبنانية، وجمال نبعة ومعاذ عبد الرزاق مرعب اللذان اعتقلا في العام 2006، وقد حاولنا إجراء لقاءات مع معتقلين آخرين بينهم نساء، لكنهم رفضوا إجراء أي مقابلات صحافية.
هؤلاء دخلوا المعتقلات وهم شباب قادرون على العمل ولديهم أعمال ومصالح، خرجوا عجزة ومرضى، وهم يطالبون عبر “المفكرة” الدولة اللبنانية والجمعيات الالتفات إلى حالهم. ويطالب أبو دهن، المحرّر من السجون السورية في العام 2000، عبر “المفكرة” الدولة اللبنانية مساواة المعتقلين السياسيين المحرّرين من السجون السورية سابقًا، وعددهم 121 أفرج عنهم في العام 1998 و54 أفرج عنهم في العام 2000، بالمعتقلين المحرّرين من السجون الإسرائيلية، والذين تم دعمهم في حينها من خلال تغطية وزارة الصحة وتأمين فرص عمل لهم في المؤسسات الرسمية وغيرها.
في هذا التحقيق سنروي قصص المحرّرين الثلاثة للوقوف عند ظروف اعتقالهم ومحاكمتهم الميدانية الصورية والتهم الجاهزة التي وجّهت إليهم: تعامل مع العدو، انتماء إلى جماعة محظورة، وإخفائهم لسنوات طويلة من دون التواصل مع أهاليهم، والتعذيب الذي تعرّضوا له والذي يقول أحدهم إنّه كان يشتد أحيانًا إلى درجة يتمنى لو يقتلوه ويريحوه، وخوفهم من تصفيتهم في حال طالبوا بإطلاق سراحهم بعد انتهاء محكوميّتهم، وأخيرًا لمنحهم الفرصة لرواية لحظة خروجهم إلى الحرّية. كما نقف عند التقاعس الرسمي اللبناني والخطوات الخجولة في التعامل مع ملف المعتقلين اللبنانيين في سورية والذي أدّى إلى تعميق مأساتهم خصوصًا من خلال إنكار وجودهم.
“الشعب السوري ما بينذلّ” كتبت على باب مهجع في صيدنايا بعد تحرير المعتقلين (تصوير إيناس شري)
سهيل حموي: 33 عامًا في الغياب
“فتت على المعتقل عمري 27 سنة، ضهرت عمري 60، 33 سنة بين الحيطان شو بدّك تعوّضي لتعوّضي”، بهذه العبارة يختصر المعتقل السابق في السجون السورية سهيل حموي غصّته وحزنه على ضياع “سنوات حياته”. لم يتمكّن حموي، وهو أقدم معتقل عاد إلى لبنان بعد تحريره من السجون السورية إثر سقوط النظام، من التواصل مع ذويه خلال الأعوام الـ 18 الأولى لاعتقاله، ما قاد إلى اعتباره في عداد المفقودين. ويقول إنّ الخروج من المعتقل كان بالنسبة إليه بمثابة المستحيل.
يروي حموي أنّه اعتقل على أيدي عناصر من المخابرات السورية من منزله في شكا في 3 كانون الأوّل 1992 “كنا عم نحتفل بعيد البربارة، إجا 12 عنصر منهم المقدّم “محمد الشعار” من المخابرات السورية بطرابلس أخدوني من البيت على فرع الأمريكان بطرابلس، بعدين على منطقة عنجر بعدين على سورية، قعدت بفرع فلسطين 5 سنوات إفرادي”. وكانت تهمته بحسب قوله، انتماءه للقوّات اللبنانية. “عند السوريين ما في محاكمات، التهم بتجي جاهزة، أنا من لبنان تهمتي قوات لبنانية، لي من العراق بتكون تهمتهم الانتماء لحزب البعث العراقي، من الأردن تهمتهم الانتماء للإخوان المسلمين”.
يؤكّد حموي أنّه خضع لمحاكمة ميدانية على يد أحد الضباط في فرع فلسطين، واستمرت “محاكمته” لمدة دقيقتين وجه له الضابط فيها سؤالًا عن أسماء أقاربه وأصدقائه، وحكم عليه بالسجن المؤبّد لتبدأ بعدها رحلة التعذيب “ما بيحطولك محامي، ما بيقولولك انت بشو متّهم أو قديش مدة حكمك، ومن الخوف ما فيك تحكي، من كثر التعذيب تتمني يقوصوكي وتخلصي”.
تنقّل حموي كما معظم المعتقلين المحرّرين الذين تواصلت معهم “المفكرة” بين سجون عدة، فأمضى 5 سنوات في فرع فلسطين (وهو سجن للمخابرات السورية في دمشق) حيث تعرّض لشتى أنواع التعذيب والضرب، مضيفًا أنّ معظم سجناء فرع فلسطين هم من المعتقلين السياسيين الذين غالبًا ما تُوجّه إليهم تهم “إرهاب” أو “تعامل مع العدو”.
بعد فرع فلسطين، انتقل حموي إلى سجن صيدنايا حيث يقول إنّه توفي معه معتقل لبناني. “ضلّيت من سنة 1997 لسنة 2011 بسجن صيدنايا ولما بلشت الثورة السورية نقلونا على سجن عدرا”. مع انتقاله إلى سجن عدرا الذي يعتبر سجنًا مدنيًا تابعًا لوزارة الداخلية في منطقة دمشق، تمكّن حموي للمرة الأولى ومنذ 18 عامًا، من الاتصال بزوجته.
“بعد شي 18 سنة، تقدّمت بطلب للمخابرات للزيارات فوافقوا، اتصلت بزوجتي ما كانت تصدق إنّي عايش وبعدها زارتني بسجن عدرا”. ويوضح حموي أنّ معظم من كانوا في سجن عدرا هم من الأجانب المعتقلين بتهم سياسية وأنه التقى هناك بعدد من اللبنانيين.
زنزانة ترك فيها المعتقلون المحررون أمتعتهم (تصوير إيناس شري)
بقي حموي في سجن عدرا أربع سنوات، نقل بعدها إلى سجن اللاذقية الذي يقول إنّه سجن مدني يسمح فيه للسجناء باستخدام الهاتف النقّال.
يقول حموي إنّه خلال سنوات الاعتقال الأولى كان المعتقلون اللبنانيون يتعرّضون لحملات من التعذيب والعقاب إذا ما خرج مسؤول لبناني وطالب بتقرير مصيرنا “أوّل مسؤول حكي عن الموضوع كان عون بفرنسا، يومها أكلنا قتل ليوم القتل”. ويكشف أنّه في سجن اللاذقية توفي معه معتقل لبناني وأنّه خرج برفقة معتقلين لبنانيين.
33 عامًا عاشها حموي في حالة يأس من الخروج، إلى أن سقط النظام السوري “عرفنا إنّه السجّانين تركوا السجن، بلّشنا نكسّر الحيطان والأبواب وطلعنا، الساعة 6 وربع فجرًا كنت واقف على الأوتوستراد بعد 33 سنة من السجن، ضهرنا كنّا عم نمشي بين القواص، مشيت 20 كلم لحتى وصلت عند بيت رفيقي، وبعتتلي مرتي تاكسي لوصلت على لبنان”.
خرج حموي ليجد ابنه الذي تركه وهو في عمر العشر سنوات أصبح رجلًا وأبًا لولدين، “مين قال إنّه كلّ شي بيتعوّض، مين بيعوضلك العمر والحياة والسنين الحلوة. أنا كنت قاطع الأمل إنّي إضهر، ملفّي مختوم بالشمع الأحمر ولا ممكن ارجع”. اليوم عاد حموي إلى حضن عائلته وذويه الذين حصلوا على الجنسية اللبنانية وهو داخل المعتقل، أما هو فلا يزال يحمل الجنسية السورية ما يعني أنّه كان معتقلًا سياسيًا في وطنه وحاملًا جنسيته ومتهمًا بالعداء له.
المعتقل المحرر سهيل حموي
معاذ عبد الرزاق مرعب: “الامل سر الصمود”
“كنت عايش يوم بيوم، ما بعرف أبدًا شو مصيري ولا ناطر شي، فلسفة الموضوع إنّك تتعايش وتقبل الفكرة ويضلّ عندك أمل ومعنويات، والشخص في دور مهم بيلعبو بالسجن، في ناس مريضة وتعيسة ممكن يساعدها ويخفف عنها، هيدا بيعطيك أمل بالحياه، بيخلّيك تحس إنك إلك فائدة”. على الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على سقوط نظام الأسد وخروج المعتقل في السجون السورية معاذ عبد الرزاق مرعب الذي اعتقل في 20/7/2006 في دوما بريف دمشق، إلّا أنّه إلى اليوم غير قادر على العودة لحياته الطبيعية. “بعدني ما عم بعرف اتأقلم، ضايع، ما عم بعرف اعمل روتين لحياتي”، يقول في شهادته إلى “المفكرة”.
أكثر من 18 عامًا قضاها مرعب في أقبية السجون السورية، 18 عامًا لم يعرف ما هي جريمته، لفّقت له تهمة “الانتماء إلى جمعية محظورة” وحوكم بحسب المادتين 306 و305 من قانون العقوبات السوري على حدّ قوله. وكان مرعب يعمل كصحافي في مؤسسة إعلامية عراقية، “كنت فوت وإطلع (من لبنان إلى سوريا) بشكل نظامي فجأة أوقفوني بالطريق، كنّا بمرحلة الاحتلال الأميركي للعراق وسهل يركّبولك تهمة إرهاب”.
يروي مرعب لـ”المفكرة” إنّهم في البدء قاموا بسوقه إلى جهاز أمن الدولة “فرع الخطيب” داخل مدينة دمشق، ليحوّل بعدها إلى فرع فلسطين، بعدها تمّ نقله إلى سجن صيدنايا، حيث بقي منذ العام 2007 لغاية العام 2011. ويتابع أنّه خلال العصيان الذي وقع في صيدنايا في العام 2008، حين تمكّن المعتقلون من فتح المهاجع، لم يلتق بأي سجين لبناني قديم.
ومع اندلاع الثورة السورية تم نقله مع عديد من المعتقلين السياسيين الأجانب إلى سجن عدرا المركزي، جناح رقم 2 والمعروف بجناح السياسيين، “لمّا اندلعت الثورة فضّوا سجن صيدنايا، نقلونا نحن الأجانب على سجن عدرا، كان بدهم يفضّوا مطرح لسجناء الثورة”.
يقول مرعب إنّه في سجن عدرا كان هناك حوالي 200 سجين من جنسيات مختلفة، من بينهم سهيل حموي وجمال نبعة وربيع سيداني المعتقل الذي خرج من السجن العام الماضي أي قبل سقوط نظام بشار.
وهناك في عدرا فقط، تمكّن من الاتصال بذويه الذين زاروه في السجن: “بـ 2011 كانت أوّل مرة بشوف أهلي، لأن بسجن عدرا في إمكانية للاتصال وإجوا زاروني بعدرا للمرة الأولى”.
أما عن محاكمته، فيقول مرعب إنّ المحاكمات “شكلية والتهم ملفّقة”، “في محاكمات بس أنا كسجين سياسي بنزل نزلتين لعند القاضي بس ما حدا بيعرف شو الموضوع، هنّي بيركّبوا الملف، حكمتني محكمة أمن الدولة العليا 12 سنة”. (هي محكمة استثنائية تعتبر خارج نظام القضاء الجنائي العادي وتُستخدم لمقاضاة من يرى فيهم النظام تهديدًا له). ويتابع: “كان مفروض محكوميتي تخلص سنة 2018 بس ما سعيت إنّي إضهر بسبب وجود ورقة حفظ في ملفّي، يعني وين ما رحت على أي سجن بسورية، لمّا بتخلص محكوميتك بدك ترجع على مركز الاعتقال الأوّل وهونيك بيتمّ تصفيتك”. يقول مرعب إنّه علم أنّ رفاقه الذين أنهوا محكوميتهم وعادوا إلى مراكز اعتقالهم الأولى اختفوا من بعدها، “تصفّوا”، على حد قوله. ويضيف أنّه لهذه الأسباب كان يوصي أهله وزوجته الذين تواصل معهم بعد انتقاله إلى سجن عدرا، بألّا يسعوا لإخراجه من المعتقل بأي شكل من الأشكال خوفًا من القتل.
ويستفيض مرعب بالحديث عن التعذيب “إنت معرّض بأي لحظة إنك تتصفّى، ما في شي اسمه محكمة وقضاء، في تعذيب كثير لأن بدهم منك معلومة، أما في سجن صيدنايا فالتعذيب ممنهج”. ويشرح أنّ رحلة سجن صيدنايا تنقسم إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل الثورة حيث الضرب والتعذيب قاسيان، أما مرحلة ما بعد الثورة وبعد أن تمّ تخصيص السجن لمعتقلي الثورة فأصبح السجن مقبرة. “فضّوا السجن من المعتقلين القدامى وصاروا يستقبلوا بس معتقلي الثورة، هول جايبينهم ليموتوا، كل يوم الصبح في 70 شخص بدهم ينعدموا، حتى بالمهاجع كل يوم عشرات بيموتوا من الضرب”، ينقل مرعب عن بعض المعتقلين الذين نقلوا بعد الثورة بالواسطة من سجن صيدنايا إلى سجن عدرا.
يتابع مرعب أنّ سجن صيدنايا ينقسم إلى ثلاثة كتل هي (أ – ب – ج) وفيها عدد من المهاجع، حيث يقوم السجانون يوميًا بالمرور لنقل الجثث وإذا لا يوجد موتى يبدأ الضرب بالمساجين على رؤوسهم “المهم يطلع جثث من المهجع”، “في مساجين بيكونوا من العسكريين الفارين هنّي بيشتغلوا سخرة بينقلوا الجثث ما منعرف لوين”.
وعبّر مرعب عن امتعاضه ممّا جاء على لسان الرئيس السابق ميشال عون حين أنكر وجود معتقلين لبنانيين في سورية، “كان لازم يكون في شوية إصرار، على القليلة يطالب بالعساكر، إذا كانوا مصفّايينهم، يطالب بالرفات أو بالجثث على الأقل”.
يصف مرعب يوم سقوط النظام بيوم الولادة من جديد، يروي أنّهم قبل أسبوع من سقوط النظام كانوا يشاهدون الأخبار ولكن عبر “قناة سوريا” وهي القناة الرسمية التي تبث أخبار النظام، وكانت المعلومات ترد وكأنّ ما يحدث هو مجرّد معارك صغيرة يتمّ قمعها. ولكن مع اقتراب الأحداث إلى مناطق حماة وحمص، وورود اتصالات عن فتح عدد من السجون وخروج المعتقلين منها، ساد الشعور حينها أنّ مسألة الخروج من السجن باتت أمرًا ممكنًا وواردًا، على حد قول مرعب. “قبل بيوم مما نكسر الباب، حسّينا إنّه ما في حركة إدارة بالسجن، ما حدا بيّن من السجّانين، مقّفلين علينا وهربانين، لك كسّرنا الأبواب بي 15 ثانية، غريبة كيف بتعيشي سنين مفتكرة إنّه الأبواب موصدة ومتينة، بيطلع وهم، بثواني كنّا مكسّرين أبواب السجن وطالعين عالحرية”.
المعتقل المحرر معاذ عبد الرزاق مرعب
جمال نبعة: “كنت حابب شوف أمي قبل ما تموت”
“أنا هربت من العدو (الإسرائيلي) بحرب تموز 2006 على سورية، اعتقلوني هونيك بتهمة التعامل مع العدو، ما أنا هربان، كيف بكون عميل؟”، يسخر المعتقل المحرر جمال نبعة من بلدة شبعا من ظروف اعتقاله التي أضاعت أكثر من 19 عامًا من حياته. “فتت على الحبس ابني عمره 6 سنين وابنتي عمرها 7 سنوات، ضهرت عمرهم 26 و27، مين بيعوض العمر؟”، يقول في شهادته إلى “المفكرة”.
يقول نبعة إنّه “طوال 19 عامًا كان صوت والدته في خياله وذكراها سلوى ومصدر أمانه: “انت لما تتعذبي بتقولي يا أمي وينك، لما كنت إرجع عالمنفردة وجسمي مكسّر من التعذيب، إتذكّر أمي وحنّيتها، ضهرت من السجن أمي كنت ملهوف احكيها وشوفها لقيتها بالفرشة ما بتقدر تحكي بس بتحرّك عيونها، بوّستلها إيديها وحكيتها وبعد ثلاث ايام توفّت، ما بعرف إذا عرفتني، بس قلب الأم دليلها”.
يروي نبعة أنّه مع اشتداد وتيرة الحرب في العام 2006، سار بقطيعه هربًا باتجاه قرية بيت الجن داخل الأراضي السورية سالكًا الجبال والوديان الفاصلة بينهما، وبعد وصوله ومكوثه هناك لعدة أيام استدعته وحدة المخابرات السورية في منطقة “قطنة”، حيث قاموا بتوقيفه لمدة يومين بتهمة التعامل مع العدو. بعدها نقل نبعة إلى فرع فلسطين حيث مكث هناك حوالي ثلاثة أشهر تعرّض خلالها لشتى ضروب التعذيب: “بتقلّهم معي معزة بيقولّك لا معك رشاش”. ويضيف نبعة أنّه لم يتمكّن من التواصل مع ذويه إلّا بعد مرور حوالي السنة ونصف السنة على اعتقاله، وكان قد نقل إلى سجن صيدنايا.
يشرح نبعة أنه سيق للمرة الأولى الى المحكمة بعد مرور 53 يومًا على اعتقاله وتعذيبه، حقق معه القاضي حبيب نجمة “شو تحقيق، يعني بينزلوك أقل من دقيقة بيقولولك اسمك وتهمتك وما بيسألوك شي، وبعد نقلي إلى سجن صيدنايا مثلت هناك أمام محكمة الأمن العليا برئاسة الضابط فايز النوري، وفي العام 2008 صدر الحكم باسم الشعب السوري بالحبس لمدة 20 عامًا بتهمة العمالة”.
يصف نبعة أساليب التعذيب التي تعرّض لها بأنّها تفوق الخيال البشري، هناك مثلًا أسلوب يسمّى “بساط الريح”: “بيعلّقوك بالجنازير وبيطبقوها على بعض، إنت انسان بيكون طولك مترين بتصير كلّك عشرين سنتم مضبوب ضب على بعضك”. ويستذكر نبعة التعذيب بكابل يسمّى “الأخضر الإبراهيمي” (نسبة للمبعوث العربي والأممي إلى سورية بعد عام 2012) وهو “عبارة عن كابل عرضه 10 سنتم طوله متر ونصف، الضربة منه بتخلّيك تغيب عن الوعي”.
ويتابع أنّه من أساليب التعذيب أيضًا تعليق الشخص بالجنازير لمدة عشرة أيام، قدماه مرفوعة عن الأرض بحوالي 10 سنتم بلا طعام أو شراب، “18 يوم بتضل بلا أكل ولا شرب كرمال تعترف إنّك ارتكبت جريمة، قلتلهم جريمتي إنّي جيت على سورية، صار التعذيب يزيد”. يؤكّد نبعة أنّه عرف عن العديد من المعتقلين الذين جرى إعدامهم، وعن آخرين أحرقوا بـ “الأسيد” واختفوا من بعدها.
وأشار نبعة أيضًا إلى “ورقة الحفظ” (التي ذكرها مرعب) الموجودة في ملفّات المعتقلين السياسيين التي تفرض إعادة المعتقل السياسي الذي تنتهي محكوميّته إلى مركز توقيفه الأوّل حيث تتم “تصفيته” على حد قوله.
في سجن عدرا، نام جمال ليلته الأخيرة ليلة سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 الذي أصبح تاريخ ولادته الجديدة، استفاق عند الساعة الواحدة ليلًا على أصوات رصاص “كان في صوت رصاص وخبيط عالأبواب، قلنا ما رح نضهر على مطرح بلكي صابتنا رصاصة ما عارفين شي، بعد شوي بيجي مسجون حامل رشاش بيفتح باب المهجع ، قلنا له ما إنت سجين كيف حامل سلاح، قلّنا اهربوا ما بقى في حدا بالسجن”. ويشير إلى أنّه خرج من السجن برفقة معتقل لبناني.
هكذا خرج نبعة من السجن المؤبّد إلى الحرية “على باب المعتقل كانت البدلات بالأرض، الشارات، والرتب مكبوبة”، “الناس عالطرقات حاملين سلاح، ناس عم تهرب من الشام”. اتّصل نبعة بأحد أصدقائه الذي أمّن له الانتقال إلى قرية بيت الجن وكما سار من شبعا إليها في العام 2006 عبر الجبال هربًا من العدوان الإسرائيلي، سار منها عائدًا إلى شبعا في العام 2024 سالكًا الطريق نفسه.
يعتب نبعة على الدولة اللبنانية التي كان من المفترض أن تتابع قضايا المعتقلين المنسيين في السجون السورية، “المفروض دولتنا هيّ اللي تحاكمنا، كان لازم يسلّمونا لدولتنا ونتحاكم ببلادنا إذا علينا شي”.
اليوم يعيش نبعة في قريته شبعا حيث يحاول التأقلم من جديد وإيجاد عمل يعيله، ويطالب الدولة اللبنانية بإيجاد حلّ يعوّض له ولغيره من السجناء السياسيين الذين اعتقلوا ظلمًا “يحسبونا معتقلين بالسجون الاسرائيلية ويهتمّوا فينا، أنا هلّق عمري 60 سنة شو بعد بدي اشتغل مش عارف”.
المعتقل جمال نبعة قبل اعتقاله وبعد تحريره
ما بعد سقوط النظام كما قبله: لا منهجية ولا جدية في العمل
يظهر استطلاع للرأي أجرته الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا شمل 2949 شخصًا، 85% لبنانيون و15% فلسطينيون، أنّ قضية المفقودين “لا تزال حية في وعي المواطنين بشكل عام ولا تقتصر على عائلات الضحايا”. ووافق 84% من المستفتين على أنّ كشف المصير هو حق للعائلات، بينما اعتبر 70% أنّه حق لا يمكن التنازل عنه، و14% اعتبروه حق للعائلات فقط. كذلك اعتبر 41% من المستفتين أنّ من فوائد كشف مصير المفقودين فيه مصلحة فردية للعائلات، و53% أنّ فيه مصلحة وطنية، و16% اعتبروا أنّه يقوم بتحصين السلم الأهلي، و15% اعتبروه ضرورة لطي صفحة الماضي بشكلٍ ملائم.
وتشير هذه البيانات إلى الهوّة العميقة الفاصلة بين آراء الشعب وممارسة الحكومات وتعاطيها مع هذا الملف. فمن جهة أثبت خروج عدد من المعتقلين أحياء من سجون النظام السوري زيف تصريحات جميع المسؤولين الذين كانوا قد أعلنوا عدم وجود معتقلين قدامى في السجون السورية، ضاربين عرض الحائط آمال ومشاعر الأهالي، ومنهم الرئيس السابق ميشال عون الذي قال في العام 2015 إثر زيارة إلى دمشق إنّ “لا معتقلين لبنانيين في سورية”.
كما أنّ خليّة الأزمة التي شكّلتها الحكومة وتضمّ الوزارات والإدارات المعنية إضافة إلى اللجنة القضائية و”الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرًا”، بطلب من الهيئة، لمتابعة الملف بعد سقوط النظام، اجتمعت مرة واحدة في 20 كانون الأوّل 2024، وخلصت إلى ضرورة تشكيل وفد رسمي لزيارة سورية في أقصى سرعة خلال الأيام القليلة التالية، للبحث في هذه المسألة، إلّا أنّه لغاية اللحظة لم يصَر إلى تشكيل هذا الوفد.
وإذ أعاد سقوط النظام السوري الأمل في إمكانيّة تفعيل عمل الهيئة الوطنيّة للمفقودين وتأمين الموارد التي قد تحتاجها للقيام بعملها، عمدت الحكومة إلى إعادة تفعيل عمل لجنة حكومية كانت أنشئت في 2005، وهي “لجنة معالجة قضية المعتقلين في سورية” والتي كان يفترض أنّها زالت من الوجود بعدما أقرّ البرلمان ضرورة إنشاء الهيئة الوطنية كـ “مؤسّسة مستقلة” تتمركز لديها جميع الصلاحيات والبيانات من أجل تحديد مصائر المفقودين والمخفيين قسرًا.
وتقوم اللجنة برئاسة النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر، وعضوية القاضي جورج رزق إضافة إلى العميد في قوى الأمن الداخلي علي طه، باستدعاء المعتقلين المحررين تباعًا للاستماع إليهم وأخذ إفاداتهم.
وبرأي وداد حلواني رئيسة جمعية “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان”، إنّ “الدولة اللبنانية أثبتت مجددًا أنها غير مسؤولة عن أبنائها، فلم يتشكّل وفد للذهاب إلى سورية فور سقوط النظام لمساعدة المعتقلين المحرّرين، “بلكي في ناس اختطفت عالطريق، بلكي كان في ناس مرضى عجزة ما قادرين يرجعوا”. وتؤكد حلواني أنّ للأهالي الحق في معرفة مصير ذويهم، “اعطيهم عظام ورفات يدفنوها وتكون خاتمة أحزانهم، وتكون مدخل إلى سلم حقيقي”. وتضيف في حديث مع “المفكرة” أنّ “آمال الأهالي بعد سقوط النظام كانت كبيرة جدًا، على الرغم من أنّ العدد الأكبر من المخفيين قسرًا والبالغ عددهم 17000 مفقود اختطفوا على أيدي ميلشيات الحرب على حد قولها وليس في سورية”.
وتؤكد حلواني التي التقت كارلا كنتانا، رئيسة “المؤسسة الأممية المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا” التابعة للأمم المتحدة والتي تشكلت في العام 2023 بهدف العمل على ملف المفقودين في سورية بغض النظر عن جنسياتهم وانتماءاتهم، أنّ الجميع اليوم يعوّل على عمل هذه المؤسسة الأممية والتي من صلاحياتها التقصي عن المقابر الجماعية “الملف مترابط بين البلدين، بدها تنفتح المقابر بسورية وبدها تنفتح بلبنان”.
ممر الزنزانات في سجن صيدانا (تصوير إيناس شري)
واقتصر التواصل الرسمي اللبناني مع الجانب السوري في هذا الملف على لقاءات على مستوى رئيسي الوزراء السابق نجيب ميقاتي والحالي نوّاف سلام مع قائد الإدارة الجديدة السورية أحمد الشرع الأول في 11 كانون الثاني الماضي والثاني الإثنين في 14 نيسان.
وأعلن ميقاتي في مؤتمر صحافي تلا اللقاء أنّ “الجانب السوري يقوم بدوره كاملًا في إنشاء هيئة خاصة للأمور الجنائية والبحث عن كل المفقودين مع اللوائح، ونحن سنزوّد الإدارة السورية الجديدة باللوائح الكاملة بأسماء المفقودين، وربما تكون هناك حاجة للقيام بفحوصات جنائية وفحوصات الحمض النووي”. وكان وزير العدل السابق هنري خوري، زوّد ميقاتي بقائمة أسماء المفقودين اللبنانيين في السجون السورية قبل أيام من زيارته سورية. إلّا أنّه لم يتمّ الإعلان رسميًا عن تزويد الإدارة السورية بقائمة الأسماء.
أمّا نوّاف سلام فقد أعلن أنه بحث مع الشرع في مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سورية، ولكن لم يعلن عن نتيجة هذه المباحثات أو الخطوات التي ستتخذ للوصول إلى حلّ للقضية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.