حين لجأ مصطفى جهاد حمّود (20 عامًا) المشخّص بالتوحّد، مع عائلته إلى مركز الإيواء في مجمّع بئر حسن المهني في الجناح، كان عليه التعامل مع أشخاص غرباء بالنسبة إليه، وهو ما سيدفعه إلى الانسحاب أكثر إلى عالمه الخاص، ويزيد من صعوباته السلوكية وانفعالاته.
في هذا المكان، يلملم مصطفى نفسه من الفزع، يتحرّك بسرعة بحثًا عن غرفته الخاصّة الآمنة، خصوصًا لدى سماعه أصوات الغارات التي تصل بوضوح وقوّة إلى مكان نزوحه وعائلته في مركز إيوائه. يضع مصطفى يديه على رأسه ثمّ أذنيه، ويركض صوب باب الغرفة، حاملًا حقيبته، ويتمتم بكلمات لا تفهمها سوى والدته: “بيت بيت”.
تقول الوالدة لـ “المفكرة” إنّ “معاناة مصطفى تزيد من معاناتنا في مركز الإيواء في المجمّع، فهو معتاد على بيته، لا يفارق أغراضه، يلتهي بالإنترنت ولا يضطرّ لرؤية غرباء، أمّا هنا في مركز الإيواء، حيث لا يوجد إنترنت، فيشعر بالوحدة والعزلة أكثر وأكثر. وفي معظم الأحيان يضطرّ للقاء الكثير من النازحين مثلنا، فيهرب إلى نفسه ليزداد انعزالًا عن محيطه”. تروي الوالدة أنّ مصطفى قبل الحرب، كان يرتاد قسم العلاج الانشغالي في مؤسّسة الهادي التابعة لجمعية المبرّات الخيرية، وقد أظهر الكثير من التحسّن، أما اليوم فحالته تتدهور. وتضيف: “ليس بيدي حيلة لتغيير وضعه في ظلّ هذه الظروف الصعبة”.
وتتمنّى أم مصطفى لو أنّ خطة الطوارئ لحظت هذا الأمر وأمّنت مراكز خاصة لإيواء من هم في مثل حالة ابنها.
مريم النازحة من البقاع مع ابنها المشخّص أيضًا بالتوحّد، لم تتمكّن من البقاء في مركز إيواء لأنّ النازحين كانوا ينزعجون من صراخه فاضطرّت لاستئجار شقة رغم صعوبة وضعها المادّي.
قصة مصطفى وتدهور حالته نتيجة النزوح إلى مكان غير صديق لحالته، وقصة مريم واضطرارها لتكبّد كلفة الانتقال إلى شقة على حسابها من أجل تأمين بيئة مريحة لابنها، قصّتان من بين عشرات لا بل مئات القصص لأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة الذين اضطرّوا إلى النزوح من منازلهم إلى أماكن لا تراعي أوضاعهم.
وهؤلاء يشكّلون اليوم الفئة الأكثر هشاشة بين النازحين. وتظهر معاناتهم بشكل واضح في مراكز الإيواء في المدارس الرسمية، التي جالت “المفكرة القانونية” في عدد منها، ولاحظت غيابًا تامًا فيها لأيّ تجهيزات خاصّة دامجة للأشخاص المعوّقين. فهي تفتقر إلى الحدّ الأدنى من التجهيزات الأساسية اللازمة لتلبية احتياجاتهم التي تراعي حالاتهم وأدواتهم المعيّنة لهم للتحرّك باستقلالية وحرّية، على سبيل المثال: غياب المنحدرات (الرامب) للكراسي المدولبة والـ “ووكر”، قلّة عرض بوابات المداخل الداخلية، حيث لا تتّسع لدخول الشخص المعوّق حركيًا بكرسيّه باستقلالية، صغر مساحة الحمّامات وكرسيّها، إذ إنّها مجهّزة لأجساد صغيرة (الطلاب) وليست للكبار، عدم توفير التيار الكهربائي والمصاعد وغياب المياه والصرف الصحّي وغيرها.
وإضافة إلى هؤلاء، ثمّة من فضّلوا البقاء في بيوتهم تحت الخطر لأنّ فيها كلّ ما يحتاجه ليعيش باستقلالية وكرامة، منهم شخص مصاب بإعاقة حركية لم يترك بيته في الكيّال في بعلبك بينما نزحت عائلته إلى طرابلس خوفًا من عدم إيجاد مراكز مجهّزة.
أصل زحفًا إلى الحمّام
في مجمّع المدارس مقابل المدينة الرياضية، التقت “المفكرة” بالرجل الستّيني علي داوود ممدّدًا في ركن من زوايا أرض الملعب، وقربه كرسيّه المدولب. أصيب علي في عموده الفقري في غارة خلال الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 سبّبت له شللًا في جزئه السفلي، وبالتالي إعاقة دائمة في الحركة. يقول علي إنّه كان قد تصالح مع وضعه إلى أن نزح من بيته في عين السكّة في الضاحية الجنوبية، إلى الطابق الثاني في مركز إيواء. فهو اليوم يعاني من أزمة نفسية كبيرة لأنّه ينام على فرشة على الأرض ويتعذّب للوصول إلى كرسيّه المتحرّك، ويضطرّ لطلب المساعدة كلّما أراد دخول الحمّام أو النزول إلى الطابق الأرضي. وأكثر من ذلك، حين لا يكون هناك من يساعده، يضطرّ علي للزحف إلى الحمام لأنّ كرسيّه لا يدخل من الباب. وكلّ ما يطلبه اليوم، إنزاله إلى الطابق الأرضي وتأمين سرير له، ويسأل “هل هذا كثير؟”.
ومثله، في المركز نفسه، التقينا سهام السبعينية المقعدة أيضًا والمصابة بفشل كلوي وتخضع لغسيل الكلى باستمرار. لدى زيارتنا غرفتها، كانت سهام مستلقية على فراش اسفنجي وإلى جانبها كرسيّها المدولب، وقد بدا عليها الإنهاك. كانت سهام قد عادت للتوّ من جلسة غسيل كلى في مستشفى الزهراء.
لم ترغب سهام في التحدّث إلينا، فتولّى ابنها غسان (اسم مستعار) الحديث عن معاناتها، لا سيّما خلال نزوحهما معًا من بلدة شيحين في الجنوب إلى برج البراجنة في الضاحية الجنوبية ومن ثمّ إلى الشارع بالقرب من مستشفى الزهراء حيث قضيا 4 أيام، قبل أن ينتقلا إلى مركز الإيواء في الجناح.
ويضيف: “أمي، لم تكن لتتخيّل أنّها في يوم من الأيام ستضطرّ وهي في هذا السن، وعلى هذه الحال إلى الهرب من الغارات ووحشيّتها على كرسيّها المدولب، تاركة خلفها منزلها الدافئ وأدويتها، لأنّنا اضطررنا للهرب بسرعة بعد تصاعد الغارات على الضاحية. اصطحبت والدتي، هي على كرسيّها وأنا سيرًا على الأقدام، الى أن وصلنا إلى جانب مستشفى الزهراء، بقينا هناك على جانب الرصيف المقابل للمستشفى 4 ليال، إلى أن حصلت الغارة بالقرب منّا، فانتقلنا إلى هذا المكان بعد أن تمّ تأمين غرفة لنا في مركز الإيواء”.
يشير غسان إلى أنّ والدته تحتاج إلى أدوية ضرورية لحالتها طلبت تأمينها لدى وصولهما قبل 10 أيام، ولم يتمّ تأمينها حتى اليوم، عدا عن أنّه يجب حفظ الأدوية في الثلاجة وهو غير ممكن في مركز الإيواء.
محمد (اسم مستعار) مصاب بشلل رباعي، نزح من قريته على الحدود مع فلسطين المحتلة، وحين وصل إلى أحد مراكز الرعاية الاجتماعية في صيدا رفضوا استقباله لعدم قدرة المركز على تأمين مساعد له، فتدخّل الاتحاد اللبناني للمعوّقين حركيًا وأمّن له مكانًا في مركز إيواء في صيدا، ومساعدًا مقابل بدل مالي لرعايته وتلبية احتياجاته.
استنفار ميداني ولا خطط
على الرغم من استنفار وزارة الشؤون الاجتماعية فريق عملها الميداني من الموظّفين والعاملين في الوزارة والمشاريع الاجتماعية ومراكز الخدمات الإنمائية لتجميع بيانات عن أعداد النازحين ومنهم الأشخاص المعوّقين واحتياجاتهم إلّا أنّه حتى كتابة هذا التحقيق، لم يكن لدى الوزارة تقدير بالأعداد، وفق ما أفادت به “المفكرة”.
ولكن يبدو أنّ الوزارة حدّدت 5030 شخصًا من المستفيدين من برنامج البدل النقدي للأشخاص ذوي الإعاقة من: محافظة الجنوب، محافظة النبطية، محافظة بعلبك الهرمل، وقضاء بعبدا وضاحية بيروت الجنوبية، وهي مناطق متضرّرة من الحرب الإسرائيلية، لمنحهم 100 دولار كمساعدة استثنائيّة طارئة بتمويل خاص من اليونيسيف ومنظمة العمل الدولية، وفق ما أفاد مكتب الوزير هكتور الحجّار “المفكرة”.
بالتوازي، وفي إطار برنامج البدل النقدي للأشخاص ذوي الإعاقة الذي أطلق في 26 نيسان 2023، تمّ تحويل المساعدات باكرًا لشهر تشرين الأوّل وتشمل 12,624 شخصًا من حملة البطاقات الصادرة عن برنامج تأمين حقوق المعوّقين ضمن الفئة العمرية المستهدفة والذين تمّ تحديث بياناتهم وإدراجهم في البرنامج لتاريخه.
وتبلغ قيمة الأموال التي تمّ تحويلها 528,760 دولار أميركي. وتجدر الاشارة إلى أنّ هذه الدفعة هي التاسعة عشرة وقد تمّ تقديم تاريخ الدفع من 15 إلى 2، 3، و4 تشرين الأوّل نظرًا للظروف الراهنة.
من جانبه الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركيًا لم ينجز إحصاءه بعد، ويعود ذلك وفق جهاد إسماعيل من الاتحّاد إلى كون “عدد فريقنا في الاتحاد محدود، وغير كافٍ لمتابعة المراكز كافة”.
وبالتالي تواصلت “المفكرة” مع مندوبي الاتحاد في المناطق للحصول على أعداد تقديرية في المراكز التي تابعوها، وهي تشكّل 7 إلى 10% فقط من إجمالي المراكز في مختلف المناطق اللبنانية.
فقدّر مندوبو الاتحاد في بيروت وجود 200 شخص معوّق يتوزّعون مع عائلاتهم على عدد من المراكز. وفي البقاع أحصى المندوبون 160 شخصًا معوّقًا، أما في عكّار وطرابلس فأحصى المندوبون 5 إلى 6 أشخاص في كلّ مركز زاروه، من دون تقدير كامل العدد.
ووثّق مندوبو الاتحاد نقصًا في العديد من المستلزمات والاحتياجات، من حليب، وحفاضات، وفوط صحية، ومواد تعقيم، وأدوية الصرع، ومواد غذائية، وفرش، وحرامات، وأسرّة، ومعينات حركية، ومواد نظافة شخصية، ومواد تعقيم، وأدوية أمراض مزمنة، وإضاءة، ومُعينات طبية مثل: الشاش المعقّم لتنظيف التقرّحات التي تسبّبها أنابيب المبولة، والأنابيب نفسها بكلّ قياساتها، والمراهم المخصّصة لهذه الحالات، أكياس البول، أدوية الالتهاب. كما رُصد في جميع المراكز صعوبة في الوصول إلى الحمامات.
وينصبّ عمل الاتحاد حاليًا على المحاور الآتية:
أوّلًا، التواصل والتشبيك مع الائتلافات المدنية والأهلية والجمعيات والمنظمات العاملة في مجال الإغاثة لتفعيل نظام الإحالة، وتلبية احتياجات الأفراد المعوقين من المواد الغذائية، والمعينات الطبية والاحتياجات العينية الأساسية خلال مرحلة النزوح. ذلك بالإضافة التواصل الدائم مع الجهات الرسمية مثل وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة ووزارة التربية، ومع المخاتير والبلديات وإدارة الطوارئ.
ثانيًا، إعادة إنتاج المواد التوعوية اللازمة المتعلّقة بكيفية إجلاء وإيواء الأشخاص المعوّقين ورصد احتياجاتهم، بالإضافة إلى المعايير الدنيا التي ينبغي أن تتوفّر في أماكن الإيواء بما لا يمسّ بكرامة النازح المعوّق. بالإضافة إلى إنتاج فيديوهات تتضمن الإرشادات اللازمة وتعرّف العاملين في مراكز الإيواء والقيمين عليها بالإعاقات والاحتياجات المختلفة وكيفية احترامها أثناء التعامل مع النازحين المعوّقين. وقد وزّعت هذه المواد على المعنيين بعملية الإغاثة في القطاعين الرسمي والمدني إلكترونيا بأشكال مختلفة.
ثالثًا، التنسيق المتواصل مع الجهات الرسمية التي تتولّى إدارة أماكن الإيواء (المدارس، المجمعات التربوية، الجامعات…)، بهدف إيواء النازحين المعوّقين وأسرهم، وإحالة النازحين إلى أماكن محدّدة في ظلّ الفوضى التي عمّت مرحلة النزوح الأولى، حيث يسعى الاتحاد إلى إيجاد أماكن نزوح لائقة للنازحين المعوّقين، وتخصيص غرف الطوابق الأرضية في مراكز النزوح لهم بشكل يحترم احتياجاتهم الإنسانية.
إلّا أنّ الاتحاد يؤكّد أنّه حتى تاريخه لم يصل إليه أي دعم مالي من المنظمات الدولية أو الجهات الممولة بشأن المشاريع التي قدّمها لها في ما يتعلق بالطوارئ والإغاثة، لذلك عمل على توفير ما أمكن من المساعدات العينية والمادية من فروعه ومكاتبه للنازحين/ات المعوقين/ات، وقضاء حاجات محدّدة ببدلات مالية من ميزانية الاتحاد. وأكثر ما يتعلّق بالاحتياجات اليوم هي المعدّات والمواد الطبية الخاصّة بالإعاقة، ومنها السرير الطبي، كرسي الحمام، الكرسي المتحرّك، الطرّاحات الطبية لمستخدمي الكرسي المتحرّك، الفرش الطبية، العكازات والووكر على مختلف وظائفها وقياساتها، وسلل المواد الطبية الخاصة بالعقور والتقرّحات، أو المتعلّقة بتحوّلات البول، إلى جانب احتياجات أخرى مثل الملابس الشتوية الخارجية والداخلية، وسلل التنظيف والتعقيم للحماية الشخصية بما فيها ادوية مكافحة القمل، وسلل العناية الشخصية الخاصة بالفتيات والنساء.
العوائق والتحدّيات
ومن أبرز العوائق، رصدت فرق الاتحاد عدم إيجاد النازحين المعوّقين مكانًا لهم في مراكز النزوح وإقفال محال المواد الغذائيّة واشتراط بعض مقدمي الخدمات الوصول إلى المراكز وهو الأمر الذي كان مستحيلًا في نطاق الأماكن الساخنة. ومن المشاكل أيضًا كان تأخّر ردّ بعض مقدمي الخدمات على طلبات الفريق بسبب الإقفال أو نزوح الموظفين فضلًا عن صعوبة دخول فريق الاتحاد إلى مراكز النزوح بسبب متطلبات التصاريح.
وفي الإطار نفسه أشارت إدارة الكوارث لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في المنتدى لـ “المفكرة” إلى أنّ أبرز التحديات التي رصدها فريق المنتدى في الشمال كانت غياب تأهيل المراكز والنقص في المعينات الحركية مثل عدم توفر الكراسي المتحركة والعكازات اللازمة بالإضافة إلى النقص في لوازم الرعاية التأهيلية ولوازم أساسيّة مثل الحفاضات والأميال وعدم توفّر الغذاء المناسب للحالات الخاصة والإقصاء الاجتماعي داخل المراكز ما يزيد من شعور هذه الفئة بالعزلة.