منذ أكثر من خمسين سنة والحديث يتجدد عن تشغيل مطار القليعات من دون أية نتيجة. أكثر المطالبين به هم نواب عكار، بوصفه مشروعاً إنمائياً ضخماً للمنطقة، لكنه مطلب تدعمه ودعمته الكثير من الكتل في المجالس النيابية المتعاقبة، بوصفه حاجة وطنية، إذ لا يوجد دولة في العالم يعمل فيها مطار واحد. يضاف إلى ذلك أنّه يشكّل فرصة لتفعيل الاقتصاد وزيادة الدّخل الوطنيّ بنحو 500 مليون دولار، ويؤمن نحو 5000 وظيفة، وفق تقديرات كتلة الاعتدال الوطني. واليوم أيضاً لا تزال هذه الإيجابيات حاضرة، لا بل أضيف إليها عنصر جديد في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان وعلى غزة. فهو قد يكون خياراً احتياطياً أو بديلاً لمطار بيروت، المهدد في كل يوم بالتوقف عن الخدمة، نتيجة احتمال قصفه من قبل إسرائيل أو نتيجة المخاطر المتزايدة عليه من جراء القصف الذي يطال محيطه، والذي أدى عملياً إلى توقّف كلّ شركات الطائرات العالمية عن تسيير رحلات منه وإليه، تجنّباً لأيّ خطر محتمل، واقتصار العمل فيه على طيران الشرق الأوسط فقط.
في الاحتمال الأول، أي تعرضه للقصف، يدرك كثيرون أنّه في حال وصل العدوان الإسرائيلي إلى حدّ قصف المطار، فهذا سيعني أنّها قرّرت عزل لبنان عن العالم وحازت موافقات دولية على ذلك. وبالتالي، فإن وجود مطار ثانٍ أو ثالث لن يعيق مخطط العزل، حيث سيكون احتمال قصف أي مطار آخر مرجحا. لكن في الاحتمال الثاني، المتعلق بتجنب الخطر المحيط بمطار بيروت، فهو قد يكون حلاً ممكناً لتشجيع شركات الطيران التي توقفت عن العمل في مطار بيروت على إعادة رحلاتها إلى لبنان، بعيداً عن الخطر الناتج عن قصف الضاحية الجنوبية.
الحكومة: المطار غير مطروح حالياً
لكن هل فعلاً ثمة توجه جدي لطرح الأمر على سكة التنفيذ من خلال إقرار المراسيم اللازمة وتحديث الدّراسات الخاصة به أو حتى طرح مسألة تمويله؟ جريدة الديار كانت أشارت، في 16 تشرين الأول 2024، إلى أنّ “الحكومة ستتخذ في الأسابيع المقبلة قراراً بتشغيل المطار ضمن الإمكانيات المتوفرة”. لكن مصادر رئاسة الحكومة أكّدت ل “المفكرة القانونية” أن لا شيئا مطروح من هذا القبيل.
وعليه، فإن الحديث عن تشغيل المطار لا يعدو حتى اليوم كونه مطالبات ومساعي تقوم بها أكثر من كتلة، من دون أن تصل المسألة إلى أي نقطة إيجابية. كتلة الاعتدال كانت أول من أعاد طرح المسألة بوصفها مسألة حيويّة لعكار وللبلد. كتلة تجدد أيضاً كانتْ طالبت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في زيارة له بعيد عملية 7 أكتوبر، بتجهيز مطار الرئيس الشهيد رينيه معوض في القليعات، لفتحه أمام حركة الطيران المدنيّ، في ظلّ حالة الطوارئ التي يعيشها لبنان. ميقاتي قال حينها للوفد إنه يسعى بكلّ جهده للقيام باللازم. ومؤخّراً، قدّم النائب سليم الصايغ سؤالاً إلى الحكومة عن موانع عدم فتح المطار.
الخطوة الأبرز أتت من المحامي مجد حرب الذي أعدّ اقتراح قانون لافتتاح عدد من المطارات، معتبراً أن “القدرة الاستيعابية لمطار بيروت لم تعد كافية وفتح مطارات أخرى من شأنه توفير فرص عمل للشباب”. ثم جال على عدد من الكتل النيابية عارضاً اقتراحه، وداعياً إلى توقيعه. وقد نص هذا الاقتراح المؤلف من مادة وحيدة على تخصيص اعتماد بقيمة 5 ملايين دولار لإجراء دراسة حول توسيع وتطوير مطار الشهيد رينيه معوض في القليعات، بالإضافة إلى مطار حامات ومطار رياق، وتحويلها إلى مطارات مختلطة عسكرية ومدنية وتأهيلها لاستقبال الركاب والبضائع خلال مهلة أقصاها 3 أشهر، على أن تصرف بناء على هذه الدراسة المبالغ اللازمة لتنفيذها من الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان في حال لم تكن الحكومة قد نفذت قبل انتهاء هذه الدراسة قوانين الخصخصة وتنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وبالفعل وُقّع الاقتراح من عدد من الكتل منها: “الاعتدال الوطنيّ” و”تجدّد” و”الجمهوريّة القويّة”. إلا أنّه لم يقدّم رسمياً بانتظار المزيد من التّواقيع، مع احتمال إجراء تعديلات عليه. علماً أن كتلة الاعتدال كانت ربطت توقيعها بإعطاء الأولوية لمطار القليعات، على اعتبار أن دراساته جاهزة ولا تحتاج سوى إلى التحديث، بخلاف الدراسات المتعلقة بالمطارات الأخرى. وبالفعل أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار.
وعلى الرغم من خروج رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل، النائب سجيع عطية، مؤخراً ليؤكد “أن لا مشاكل لوجستية وفنية تحول دون تشغيل مطار القليعات”، فإنه لفت إلى أن “الملفّ جاهز ومكتمل على طاولة وزير الأشغال علي حمية، وأن الهواجس لدى الفريق السياسي الممانع تحول دون العمل على تنفيذه”. إلا أنه لم يصدر عن الوزير المعني أو عن “حزب الله” أو حركة “أمل” أيّة إشارات إيجابية تفيد بالموافقة على مطلب إعادة تشغيل مطار القليعات. وهذا الأمر عبّر عنه وزير الأشغال بشكل واضح في إشارته، في مقابلة مع قناة ال بي سي، إلى أن المطار بحاجة إلى دراسات صريحة، معتبراً أن عوائق عديدة تحول دون السير بالمشروع، منها أن القليعات تبعد عن الحدود السورية 7 كيلومترات. وهذا يعني الحاجة قبل البدء بأيّ خطوة إلى عقد اتفاق مع الدولة السورية. ليعود ويؤكّد أنّ الأولويّة اليوم هي لوقف الحرب وحماية المدنيين، مضيفاً: فلتستقرّ الأوضاع أولاً، ثم ندرس الأمر بشكل هادئ وعملي. وذكّر أن من يطرح هذا المطار كبديل عن مطار بيروت في حال تعرض لأي اعتداء لا يدرك أنه يمكن أن يتعرض للاعتداء أيضاً. وعلى سبيل رمي المسؤولية عنه، قال إن هذا الأمر في صلب أولويات رئيس الحكومة ورئيس لجنة الاشغال سجيع عطية، آملاً إجراء مخطط توجيهي لكل المطارات.
عدم موافقة حمية على طرح الموضوع حالياً يعني أن الحكومة لن تكون قادرة على درسه بشكل عملي. إذ أنّ أيّ اقتراح يجب أن يأتي من وزارة الأشغال، علماً أن موقف حميّة لم يكن مفاجئاً. فقد سبق أن سمعت كتلة الاعتدال الموقف نفسه من رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد الذي أشار إلى أن الوقت ليس مناسباً لطرح الأمر، وكان ذلك قبل بدء الحرب الإسرائيلية الشاملة على لبنان.
هذا ما يؤكّده النّائب السّابق هادي حبيش الذي كان في عداد الوفد، مشيراً إلى أن لا سببًا وطنيًا لعدم السير بافتتاح المطار والمعوقات الوحيدة هي سياسية، بخاصّة أن كلّ الدراسات التي أنجزت من الثمانينات وحتى اليوم تؤكّد أنه جاهز ليكون المطار الثاني للدولة، وليس مطلوباً من وزارة الأشغال سوى تحديث هذه الدراسات بكلفة زهيدة وتحديد ما إذا كان التمويل سيكون داخلياً أو خارجياً.
كلّ ذلك يقود إلى أن هذا الاقتراح مؤجل حالياً، على الأقل إلى حين تنتهي الحرب ويعود الهدوء إلى البلد. وعلى ما تؤكّد مصادر متابعة للملف، فإنّ البحث فوراً في مسألة المطار ليست أولوية كما أنّها ليست بالسهولة التي يشار إليها. فالموافقة على تمويله وتشغيله مسألة تحتاج إلى وقت وتحتاج إلى تضافر جهود عدد من الإدارات المعطلة بفعل الحرب. أضف إلى أنه يحتاج إلى سنوات لتشغيله. لكن في المقابل، يجزم المصدر أنه فور انتهاء الحرب، يفترض أن يكون هذا البند أحد البنود الرئيسية على جدول الأعمال الوطني، لما يحققه من فوائد متعددة ومتنوعة على الصعيدين الاقتصادي والإنمائي.
مع ذلك يصرّ النائب أشرف ريفي في حديثه ل”المفكرة” على مطلب بحث تشغيل المطار، معلناً عن التحضير لخطوات تصاعدية للمطالبة بتشغيل المطار. وهو يكشف أن الاعتصام أمام مدخل المطار نفسه، هو أحد الخيارات المطروحة إلا أنه يتحفظ على الخيارات الثانية.
سؤال نيابي عن الموانع القانونيّة لتشغيل المطار؟
في هذا الإطار، أعلن النائب سليم الصايغ، في 21 آب 2024، عن تقديمه سؤالاً نيابياً إلى الحكومة طلب فيه الإجابة على الأسئلة التالية:
1. ما هي الموانع القانونيّة التي تحول دون إعادة تشغيل مطار الرئيس رينيه معوّض ـ القليعات بعدما تمّ افتتاحه وتشغيله لنقل الركاب من قبل طيران الشرق الأوسط؟
2. هل صدر أي قرار يحدّ من صلاحية الناقل الوطني طيران الشرق الأوسط من استخدام هذا المطار داخل لبنان؟
3. ما هو موقف رئاسة الحكومة بالنسبة لإعادة تشغيل مطار الرئيس رينيه معوّض الذي استخدمته شركة طيران الشرق الأوسط سابقاً، بغياب أيّ قرار حكومي بإقفاله؟
علما أن الصايغ اعتبر أنّ “هذا المطار ليس بحاجة إلى أيّ قانون ويمكن الآن البدء بتنفيذ الأعمال الفورية لجعله قادرا على استقبال المسافرين فيما المعاينة الفنية له على الأرض تؤكّد أنه قادر على استقبال أنواع عديدة من الطائرات السياحية. وهذا الأمر يتعلق بقرار وزير معلق لحجة فنية منها غياب برج المراقبة، وهذه حجة لا تقوم لأن أبراج المراقبة تؤمن التغطية للقليعات من بيروت وقبرص وسوريا.
كما دعا الصايغ الحكومة لإزالة حجّة عدم الموافقة السورية على الطيران لأنها حجة غير صحيحة، لا بل أن في فتح المطار مصلحة لسوريا. وكذلك إزالة حجة التمويل لأن الدولة مليئة عندما تتوفر الإرادة السياسية. أما الحجة القانونية فاعتبر أنها غير موجودة “وإن وجدت فلتجب الحكومة على سؤالي الموجه لها في هذا الخصوص”.
هذا الموقف الذي يجمع كتل المعارضة، يرد عليه النائب فادي علامة بانتقاد ربط المطالبة بفتح مطار جديد بالخشية من ضرب مطار بيروت. كما يقول إن “موضوع فتح مطارات جديدة يفترض أن يكون في إطار خطة حكومية تحدد الفوائد وما إذا كان لدى الحكومة القدرة على إدارة هذه المطارات، على أن يحصل ذلك في ظروف مختلفة عن التي نعيشها اليوم، ومن خلال مشروع قانون يتم إرساله إلى مجلس النواب لمناقشته”.
أميركا أيضاً تعارض المطار
تجدر الإشارة إلى أن لجنة الأشغال النيابية كانت جالت في بداية العام 2012 في المطار، وأصدرت تقريراً مفصّلاً بحالة كل مرافقه. وجاء في التقرير أن عملية التأهيل تتطلب كلفة مالية تقدر بحدود 200 مليون د.أ تضاف إليها قيمة استملاكات الأراضي اللازمة للمشروع (نحو 2 مليون مربع)، والفترة اللازمة لإنجاز العمل هي 4 سنوات. ورأت اللجنة أن تشغيل المطار للشحن الجويّ وإنشاء منطقة حرة قد تكون الفكرة الأكثر ملاءمة وأيضاً هذا الأمر يتطلب تنفيذ أشغال معينة.
“الدولية للمعلومات”، كانت في العام 2013 أصدرت بدورها تقريراً عن المطار وإمكانية تشغيله. وقد أكّدت أن توفير الحكومة لاعتماد بقيمة 200 مليون دولار لتشغيل المطار رينيه معوض قد يكون أمراً ممكناً وليس صعباً إذا ما تمّ التوافق السياسي حول هذا الأمر، بخاصة أنّ المرحلة الأولى من إعادة التشغيل لا تتطلب أكثر من 32 مليون دولار. واعتبرت أن تشغيل المطار يخفف الازدحام في مطار رفيق الحريري في بيروت ويعود بالفائدة على منطقة الشمال.
ومن اللافت أن “الدولية للمعلومات” أشارت إلى أنه بخلاف المتداول حينها، لا تأتي الممانعة من حزب الله فقط بل من الولايات المتحدة أيضاً “لأسباب غير معروفة”. علماً أنه في العام 2012 كانت الحرب السورية لا تزال في ذروتها، وبالتالي فإنه كان من الطبيعي لأميركا، التي لعبت دوراً محورياً في مواجهة النظام السوري، أن تعارض هذا الطرح، لأنّ المطار يخدم الساحل السوري كما لبنان، أضف إلى أن تشغيله يفترض حواراً مع سوريا، لأن الطائرات يفترض أن تدخل في المجال السوري قبل أن تهبط في المطار.
من الحرب العالمية الثانية إلى مطار رينيه معوض
يقع مطار القليعات على الشاطئ الشمالي على بعد نحو 7 كلم من الحدود اللبنانية- السورية و25 كلم عن طرابلس. وتبلغ مساحته نحو 5.5 ملايين متر مربع. ويعود إنشاء المطار إلى العام 1941، حيث أنشأه الحلفاء كمطار عسكري إبان الحرب العالمية الثانية.
في العام 1960، كان مطار القليعات، مطارا صغيرا تابعا لشركة نفط العراق ، وكانت تستخدمه لأغراض مدنية في حركة نقل المهندسين والموظفين والعمال، ما بين لبنان والدول العربية.
وفي العام 1966 تسلمه الجيش اللبناني وحوّله إلى قاعدة عسكرية وحظائر لطائرات الميراج الفرنسية التي اشتراها من فرنسا.
إبان الحرب اللبنانية وصعوبة الطريق بين طرابلس وبيروت عند حاجز البربارة التابع للقوات اللبنانية وبضغط من الرئيس رشيد كرامي، تمّ استخدام المطار كمطار داخلي وقامت شركة الميدل ايست خلال العامين 1988-1990 بتسيير رحلات من بيروت إليه.
وشهد المطار حدثاً تاريخياً مهماً في 5 تشرين الثاني 1989 تمثل بعقد جلسة لمجلس النواب في إحدى قاعاته تم خلالها إعادة انتخاب الرئيس حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب، إقرار وثيقة الطائف، وانتخاب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية. لذلك، أطلق على مطار القليعات اسم الرئيس رينيه معوض بعد استشهاده في 22 تشرين الثاني 1989.