أصدرت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بالقيروان، يوم 11 نوفمبر 2024، أربع بطاقات إيداع بالسجن في حقّ الكاتب المحلّي لاتحاد الشغل بالسبيخة التابعة لولاية القيروان وثلاثة عمّال من مصنع ريتون للجلود والأحذية، على خلفيّة حراك احتجاجي خاضه العمّال بسبب طرد تعسّفي طال زملاءهم في المصنع ذاته، وتدخّل فيه ممثل الاتحاد المحلي للشغل للتفاوض حول ملفّهم الشُّغلي. ترتّبت عن هذه البطاقات تحرّكات احتجاجيّة في المنطقة شارك فيها عدد من العائلات والنقابيين والمكوّنات المدنيّة أمام المحكمة الابتدائية بالقيروان، ونفّذت اليوم الأربعاء 13 نوفمبر مكونات مدنية بمنطقة السبيخة تجمّعا احتجاجيا أمام مقر الاتحاد المحلي للشغل لللمطالبة بإطلاق سراحهم.
في شهر أكتوبر الفائت، توجّه عدد من العاملات والعاملين إلى مقرّ عملهم بمصنع ريتون RETUN للجلود والأحذية الواقع بمنطقة المتبسّطة التابعة لولاية القيروان، لكنّهم فوجئوا بحراك احتجاجي في إحدى المناطق، أغْلَقَ على إثره المحتجّون الطّريق الرئيسية، ممّا حال دون وصولهم إلى مقرّ عملهم. فَرَضت إدارة المصنع على العمَلة والعاملات المتغيّبين لظروف خارجة عن نطاقهم تعويض ساعات العمل الضائعة بسبب غيابهم، مع اقتطاع يومَيْ عمل. تَنقُل ماجدة مستور المحامية ورئيسة فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالقيروان للمفكرة القانونية عن العَملة أنّ صاحب المصنع لم يتفهّم مُطلقًا أنّ غلق الطريق المؤدّية إلى المصنع لم يتسبّب فيه العَمَلة، حتّى أنّه قال لهم “بإمكانكم التنقّل على البغال للوصول إلى العمل”.
ريتون هو مصنع سويسري ألماني، منتصب بمنطقة السبيخة بالقيروان، ويشتغل في مجال دبغ الجلود وصناعة الأحذية، وهو شركة مُصدّرة كُليًّا. ساهمت حادثة اقتطاع أيام العمل في تأجيج الأوضاع المشحونة بطبعها في ذلك المصنع، إذ طالما اشتكى العمّال من غياب وسائل الحماية، مثل الأقنعة الواقية والقُفّازات، خاصّة وأنّهم يستخدمون الغراء الصناعي الّذي تسبّب لعديد منهم في مشاكل تنفّسية وجلديّة وأورام خبيثة، حتى أنّهم قالوا إنّ آخر عهد لهم بالأقنعة كان خلال استفحال وباء كورونا. بالإضافة إلى غياب الحماية، فإنّهم يشتكون من المعاملة غير الإنسانية وغير اللائقة الّتي يتلقَّونها في المصنع، ومن ظروف العمل التي لا تحترم الكرامة الإنسانية.
غضب عُمّالي متعدّد الأبعاد
اجتمعَت عوامل مختلفة لتؤجّج غضب العمّال هناك، فقرّروا خوض إضراب عن العمل يوم 18 أكتوبر الفارط، ليتدخّل الوالي بعد عشرة أيام بحضور ممثّلين عن المكتب المحلّي لاتحاد الشغل بالسبيخة، الّذي تعهّدَ بإيجاد حل لملفّهم. تقول ماجدة مستور للمفكرة القانونية إنّ الوالي طلب من العَملة أن يستأنفوا عملهم بشكل طبيعي ووعدَهم بألاّ تُقتَطع أيام الإضراب عن العمل من أجرهم الشهري، وتعهّد أيضا بتحسين ظروف عملهم. ومع امتثال العَمَلة إلى هذا الاتّفاق، عادَ سير العمل بشكل طبيعي، إلا أنّ إدارة المصنع قرّرت الإغلاق لمدّة عشرة أيّام، ليُفاجَاَ العُمّال فيما بعد بتقديم شكايات جزائيّة ضدّ عدد منهم إلى جانب طرد ثمانية وعشرين منهم، وفق ما ذكره رمضان بن عمر، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمفكرة القانونية: “بعد أن عُقدت جلسة صُلحيّة في مقرّ الولاية لتجاوز الإشكال وبعد تدخّل الكاتب العامّ للاتحاد المحلّي للشغل بالسبيخة، مرجع نظر المصنع تُرابيًّا وإداريًّا، فوجئ العَمَلة باتّخاذ قرار طرد تعسّفي طال ثمانية وعشرين منهم، وتسارعت الأحداث إلى أن حصلت إيقافات ليلة 09 نوفمبر الماضي ضدّ من احتجّوا على قرار الطّرد من بقيّة العَملة والعاملات”، مؤكّدًا أنّ الكاتب العام للاتحاد المحلّي للشغل أبدى مرونةً كبيرة في التفاوض وفي تجاوز الإشكال، “من منطلق الحفاظ على المؤسسة”، فيما تضيف ماجدة مستور أنّ العَمَلة والعاملات بمصنع ريتون طلبوا تدخّل اتحاد الشغل للتفاوض حول مطالبهم الشغلية بسبب ضعف الهياكل النقابية داخل المصنع.
بعد أن تمّ إيقافهم ليلة 09 نوفمبر الفارطة، وجد جمال الشريف، الكاتب العام للاتحاد المحلي للشغل بالسبيخة من ولاية القيروان صحبة مجموعة من عملة مصنع الأحذية “ريتون” RETUN أنفُسَهم إزاء بطاقات إيداع بالسجن، صدرت بشأنهم في حدود الساعة السابعة مساءً، يوم 11 نوفمبر. ووفق بيان صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ هذا الإيقاف يأتي على خلفيّة احتجاج العَمَلة على عمليات طرد تعسّفي طالت ثمانية وعشرين من زملائهم. ووفق المحامية ورئيسة فرع المنتدى بالقيروان ماجدة مستور، فإنّ الأبحاث انطلقت ضدهم خلال عطلة نهاية الأسبوع، وتمّ الاحتفاظ بستّة عَمَلة وعاملات، والاحتفاظ بستّة آخرين وإحالتهم بحالة تقديم على المحكمة، فيما تمّت إحالة البقيّة بحالة سراح: “تم عرضهم على النيابة العمومية يوم (11 نوفمبر 2024) وقررت المحكمة إصدار بطاقات إيداع ضد 03 عمّال وضدّ الكاتب العام للاتحاد المحلّي للشغل بالسبيخة، جمال الشريف، وأفرجت عن البقية، على أن تُعيَّن جلسة يوم الخميس 14 نوفمبر للنظر في القضيّة. مبدئيًّا لم أطّلع على قرار النيابة العمومية ولكن على الأرجح فإنّ الإحالات تتعلّق بتعطيل حرية العمل والتحريض على الصد عن العمل”.
تضامن مدني ونقابي
وقد تفاعلت المكوّنات المدنية والنقابية مع حادثة الطرد التعسفي والإيقافات التي تُجرّم الحَراك الاحتجاجي، حيث أصدر عدد من المكاتب المحليّة والجهوية للاتحاد العام التونسي للشغل بيانات مساندة للعَمَلة ولكاتب عام الاتحاد المحلي للشغل، و استنكرت تجريم العمل النقابي والحراك الاحتجاجي، فيما أصدر المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل بيانًا عبّر فيه عن مساندته المطلقة لعاملات وعمال شركة ريتون للأحذية في دفاعهم عن كرامتهم وعن مطالبهم المشروعة وفي حقهم في اختيار نقابتهم باستقلالية ودون وصاية أو تدخّل من السلطة أو من الإدارة، رافضًا تحويل النزاع الشغلي إلى موضوع قضائي يُحاكَم فيه النقابيون والعمّال لأنهم دافعوا عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يتقاطع مع موقف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حيث يقول رمضان بن عمر إنّ السلطات ذهبت في منحى الاصطفاف مع صاحب رأس المال، ليتدخَّل الأمن ثم القضاء في ملف اجتماعي، وهو ما يُعدّ ضربًا للحق النقابي: “بالنسبة إلينا هذا مؤشر خطير لأننا نتعامل مع مطالب اجتماعية ونقابية بالقضاء والأمن. بالإضافة إلى عودة سياسة تجريم الحراك الاجتماعي فإننا أصبحنا اليوم إزاء ضرب ممنهج للحق في العمل النقابي الذي أصبح وكأنه مجرَّم، في الوقت الذي تتبنّى فيه السردية السياسية حقوق العمال ومكافحة التشغيل الهش وحماية حقوق العاملات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنّ الممارسة على النقيض من ذلك. إذ يتمّ التنكّر لهذا الحقّ من خلال اللجوء إلى الأمن والقضاء”، يقول رمضان بن عمر عضو المنتدى للمفكرة القانونية، داعيا إلى إطلاق سراح كل الموقوفين لأنهم طالبوا بحقوق مشروعة مضمنة بالدستور وأن تكف السلطة عن هذا التجريم المنهج الذي استعملته الحكومات السابقة منذ ما قبل الثورة والمتواصل إلى حد الآن، “في استعادة للممارسات الممنهجة التي تستهدف الحراك الاجتماعي وضرب الحق النقابي، وهو ما من شأنه أن يُعمّق الغضب داخل فئات واسعة من المجتمع التونسي الذي قد يكون علّق آمالاً على الخطاب السياسي الّذي يدّعي أنّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقع في أعلى سُلّم أولوياته”، وفق تعبيره.
كما أصدرت المكاتب الجهوية لكلّ من الاتحاد الجهوي المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بالقيروان بيانًا مشتركًا، عبّرت من خلاله عن مساندتها المطلقة للعَمَلة والعاملات بمصنع ريتون ودعمها لأمين عام الاتحاد المحلي للشغل بالسبيخة، داعية إلى إطلاق سراح كلّ المحتفظ بهم وإيجاد حلول للوضع المتأزّم بالمصنع المذكور.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.