“
في جعبة المدير العام لمصلحة الليطاني د سامي علوية الكثير الكثير. فالرجل الآتي من خارج طاقم الخبراء البيئيين، يتسلح بالقانون و”بدور القضاء في حماية حق الناس بالصحة المعافاة والبيئة السليمة ومصادر الرزق والحياة”.
“عن أي نهر نتكلم؟”، يقول، “هل الليطاني اليوم هو معمل فرز نفايات أو محطة تكرير أو قنبلة بيولوجية أو مجرور أو مخيم للنازحين؟ هو كل هذا، وهو مصنع ملوث، بلدية مهملة، مواطن غير مسؤول، دولة مفقودة، بيئة معدومة، ثروة حيوانية مهدورة، هدر للمال العام، والليطاني صورة مصغرة عنا وعن أزماتنا وعن انهيار الاقتصاد في الحوض الأعلى صناعيا واقتصاديا وزراعيا وإنسانيا وصحيا مما يؤدي إلى تهجير السكان بسبب الأمراض السرطانية. اليوم يموت في حوض ليطاني البقاع ثلاثة أشخاص بالسرطان من أصل كل خمس وفيات بسبب السرطان”، وفق ما يؤكد.
بعد هذا التقديم للنهر، والذي خرج به علوية اليوم، وبعد تسلمه مهامه في آذار 2018، يطالب الدولة أن تجري “مسحا دقيقا لحال الناس الصحية عامة وإصابات السرطان خاصة، ليعرف الجميع حجم الكارثة”.
الليطاني “شريان الحياة في كل لبنان، سواء في حوضه أو للمستهلكين من منتجاته واقتصاده وصحة ناسه”، كما يصفه علوية، وصل إلى هنا “لأن هناك من أدار الظهر عنه بعيدا عن أي مفهوم للتنمية المستدامة. أقمنا شبكات الصرف الصحي من دون محطات تكرير، واستغرق الشروع الجدي في تنفيذها منذ أوائل التسعينات (تاريخ إنشاء شبكات الصرف الصحي) إلى 2018، تاريخ البدء بتفعيل إنشائها وتشغيلها، أي 28 عاماً من ترك الصرف الصحي والنفايات الصناعية تصب في النهر من دون أي معالجة.
أوصلنا الجشع أيضاً إلى الكارثة: دعمنا الصناعة بغض النظر عن تطبيق القوانين ومن خلال التضحية بالبيئة. دعمنا المزارع عبر رشوة حفر بئر ماء خاص به على حساب المياه الجوفية وروافد الليطاني. سمحنا لمصلحة مياه البقاع بتركيب مضخات عملاقة على روافد وينابيع الليطاني فسحبنا مياهه الجارية. وبنيت الحلول التقليدية على مقابلة الطلب بزيادة العرض بعيداً عن التنمية المستدامة ومفاهيمها وفي غياب التخطيط للأمن الإجتماعي والإقتصادي للمواطن والتنظيم المدني وثروتنا المائية في لبنان”. يرى علوية أن الليطاني قدم كل شيء للبنانيين وقدموا له الصرف الصحي والصناعي القاتليّن. و”الصرف الصناعي أخطر لأنه جريمة ترتكب بالتواطؤ والإهمال”.
حسب الإحصاءات الرسمية هناك 227 مؤسسة صناعية مرخصة في البقاع، ولكن الترخيص، وفق علوية “لا يعني أنها ملتزمة بيئيا وتستوفي الشروط، بينما هناك نحو 400 إلى 500 مؤسسة صناعية أخرى غير مرخصة”. يقول أن هناك “أشخاصاً سيئي النية في الإدارات العامة وفي السوق من المؤسسات غير المصنفة صناعية. مثلاً تحصل محلات حدادة وبويا وتغيير زيت سيارات أو ملحمة وغيرها على رخصة من المحافظ، وتكون غير مشمولة بالتصنيف الصناعي وهنا المصيبة. فمحل تغيير زيت السيارات يقضي على كل عمل محطة التكرير ويعطلها وهو غير مصنف برخصة صناعية وغير مشمول بالإحصاء”.
ويصوّب علوية على مؤسسات المياه ليعتبر أنها ب “الكوما، إسمها مؤسسات مياه وصرف صحي وهي تشتغل بالمياه وتنسى الصرف الصحي، واليوم هناك تحد كبير حتى بعد تشغيل محطات تكرير الصرف الصحي: هل ستعالج هذه المحطات مياه الصرف الصحي بشكل جيد ومن سيراقب وكيف؟”.
يطالب علوية باسم مصلحة الليطاني ب “إجراءين من مجلس الإنماء ومؤسسة مياه البقاع لمعالجة الصرف الصحي وفق نوعية المياه التي ستختلط بها بعد المعالجة، أي نهر الليطاني”. وعليه تطالب المصلحة بحقها وصلاحياتها ب “تزويدها بالفحوصات ووفق القانون 63/2016 الذي يطالب الجهات المعنية بهذه الفحوصات ونوعيتها على مسؤوليتها، لأننا سنستعملها في الري والسباحة والإستخدام وأحيانا في مياه الشفة”.
وهنا يقول علوية أن مؤسسات المياه “عاجزة أن تدير محطات التكرير لإفتقارها للكادر المتخصص الخبير الكفؤ وللقدرات والخبرات”، لافتاً إلى أن القانون 63 نصّ على إنشاء محطات تكرير من دون كلفة تشغيلها “يعني ما عندهم مصاري يشغلوها. إذن ما زلنا نتكلم عن حلول مبتورة، وليس عن تنمية مستدامة”.
كان يجب أن يسري قانون الليطاني منذ 1/1/2017، ولكن تبين وجود خطأ مادي في القانون إذ يسري منذ 2014، تم تصليحه في 2017، وأقرت الموازنة في تشرين أول 2017، لذا فعليا يبلغ عمر القانون 11 شهراً لغاية أيلول 2018.
يقول علوية “إذا اعتبرنا أن الحل في تنظيف النهر سيسير على شاكلة ما يحصل في محطات التكرير، أقول أن الوضع إذن يثير تساؤلات كثيرة” ويسأل “ما هي الدراسات المتعلقة بمحطات التكرير؟ مدى التزام المؤسسات الصناعية باستمرار تصريفها للصرف الصناعي، حيث أن المحطات تعالج الصرف الصحي وليس الصناعي الذي من شأنه تفشيل معالجة التكرير في المحطات”.
أما وزارتا الصناعة والبيئة اللتين تقع على عاتقهما مراقبة وضبط المؤسسات الصناعية “لم يزوروا أو يراقبوا المؤسسات الصناعية منذ سنوات”، وفق علوية. ويعتبر ما حصل في المسح الذي تجريه المصلحة أكبر دليل على ما يحدث في المؤسسات الصناعية “فمن 69 مؤسسة مسحناها حتى 19 أيلول هناك 55 مخالفة ملوثة لليطاني، أما ال 14 الباقية فبعضها مقفل والآخرون لا نعرف شيئا عن نوعية المعالجة التي يعتمدونها وفعاليتها”، مؤكداً أن المصلحة ستفحص عينات المخلفات المكررة في جولة ثانية.
ويعتبر علوية أن السؤال اليوم يتمثل ب “هل حوض الليطاني هو ضمن سيادة الدولة اللبنانية أم لا؟ نعم هو ضمن سيادة الدولة، إذاً لماذا نقبض على اللص والمرتشي والجاني، ونترك الملوّث الذي يرتكب جريمة قتل مصادر المياه وصحة الناس وأرزاقهم وبيئة البلاد أيضاً؟”
ويتوقف عند نشر أخبار عن مداهمة مزارع فقير يروي مزروعاته من نهر الليطاني، ليدعو السلطات كافة إلى “مداهمة الملوث الذي لوّث المياه من مصادرها، فقد سقطت كل أوراق التوت سقطت في لبنان، يجب أن نبدأ بالقيام بواجباتنا خصوصا في مصلحة مياه الليطاني التي حملت اسمه على مدى سنوات طويلة وبقيت تقول أنا ما خصني، وتختبئ وراء المؤسسات الأخرى بحجة عدم امتلاكها للصلاحيات”. ويعتبر أن المعنيين في الإدارات “شاطرين باتخاذ الإجراءات المخالفة للقانون، وعندما يتعلق الوضع بالمصلحة العامة ومصلحة الناس نتذرع بعدم صلاحيتنا بالقانون نفسه”.
ويعود علوية إلى مستند بحوزته وفيه توصية من لجنة الأشغال النيابية والتنظيم المدني منذ 2010 تقضي بعدم منح رخصة لأي بناء من دون تركيب محطة تكرير، و”لكننا غضينا النظر عن بناء أبنية بلا تراخيص وفرضناها، أمراً واقعاً ونسينا محطات التكرير، وهكذا فعلنا حتى مع المؤسسات الصناعية المرخصة”.
هل من المعقول أن لا صلاحية لأحد بتوقيف المؤسسات الملوثة؟
يقول علوية أنه ليس لدى المصلحة أي معلومات عما تفعله وزارات الصناعة والزراعة والبيئة وغيرها من الإدارات، فنحن لم نتلقّ أي أجوبة منهم برغم الكتب التي أرسلناها”. وهو يرى أن القانون منح المصلحة صلاحية تنسيق الجهود المتعلقة بحل مشكلة الليطاني ولكن “ربما ليس هناك جهود لننسقها” كما يقول.
ويشير إلى أن مدير عام وزارة الصناعة أبلغه بأن لا صلاحية للمحافظ بإقفال مصنع، ردا على طلب المصلحة بذلك، مؤكداً أنه يوجد إستشارة من هيئة التشريع في وزارة العدل تؤكد أن المحافظ مختص بالإقفال في حال الطوارئ. ويسأل “هل من المعقول أنه في القرن ال 21 ودولة المؤسسات والقانون لا يوجد جهة يمكنها وقف تلويث النهر والبيئة؟ أو أن تأخذ قرارا بتوقيف المؤسسات الملوثة. ليس لدينا أي إجراء جدي من أي جهة. أنا اليوم أرى، وبما أن القضاء يصدر أحكامه باسم الشعب فهو المختص والمسؤول عن اتخاذ الإجراءات والقرارات”.
يعطي علوية نماذج عن التعديات على نهر الليطاني والتي يعود بعضها إلى نحو خمسين عاماً”. بلديات تصرّف مجاريرها (منذ التسعين) إلى النهر وقنوات الري في المصلحة، وتبني البلديات أيضاً أكشاكا وتؤجرها على أملاك المصلحة. كسارات ومرامل في أملاكنا. لدينا مئات الدونمات التي حولتها بلديات عدة إلى مزابل، ومنها مكبات على طول مجرى قناة القاسمية للري. هناك مناطق يفرغ أهلها صهاريج الصرف الصحي في النهر، وآخرون لديهم مغاسل رمول ومقالع يصرفون فضلاتها في الليطاني، ومواطنون يستبيحون أملاك المصلحة ويبنون عليها منشآت سياحية، وبلديات تنشئ حدائق. الجميع يتواطؤون لإنشاء مخيمات النازحين على مجرى النهر مع تسليط صرفها الصحي إلى مجراه وكذلك نفاياتهم الصلبة والعضوية”.
ومع ذلك، يشير علوية، إلى أنه قامت قيامة بعض البلدات وبلدياتها عندما أنذرتها المصلحة بضرورة رفع تلويثها للنهر ووضع حد له. “هناك من يصف الإجراءات بالتعسفية أو يقول أنها تستهدف هذا الفريق دون ذاك، وهذا مؤسف لأننا نشرنا أسماء كل المعتدين الذين قمنا بمسحهم لغاية اليوم وبينهم مستشفيات تسلط نفاياتها الطبية القاتلة إلى النهر وإلى مجاري الصرف الصحي”.
أي حلول؟ بين توصيات مصلحة الليطاني ولجنة الإدارة والعدل
يتوافق النائب علي فياض مع علوية على التوصيات التي أقرت في المصلحة ولجنة الإدارة والعدل النيابية والتي تقول ب:
1-المباشرة فورا بإزالة التعديات عن نهر الليطاني والمتمثلة ب:الصرف الصناعي والصرف الصحي والمزابل ومخيمات النازحين السوريين.
2- تنفيذ القانون /2016/63 وتنفيذ شبكات الصرف الصحي وتشغيل المحطات وفق المعايير السليمة المطابقة للمواصفات
3-إيجاد حلول في كل البلدات لناحية المباشرة فورا إلى إقامة أراضي رطبة، وهي مؤقتة ومستدامة لمعالجة الصرف الصحي وبديلة عن محطات التكرير، كما هو موجود في خربة قنافار. أو استحداث حفر الترقيد لتكرير الصرف الصحي بكلفة لا تتجاوز آلاف الدولارات.
4- تسريع تنفيذ محطات التكرير وكل تمديداتها وإنشاءاتها حتى إن اضطر مجلس الإنماء والإعمار إلى توظيف فريقين بدوامين.
5- إزالة التعديات على استملاكات مصلحة الليطاني بصورة قاطعة
6-تزويد مؤسسات المياه ومصالحها في البقاع والجنوب بالإمكانيات المالية والبشرية لإدارة المحطات وتشغيلها.
7- إبعاد مخميات النازحين السوريين عن مجرى النهر، وتمديد محطة التكرير لكل مخيم.
8-ضبط تلوث المصانع الملوثة وإلزامها بتكرير نفاياتها قبل تحويلها إلى شبكات الصرف الصحي.
9-حل مشكلة النفايات الصلبة والمكبات على مجرى النهر، وأهمها النفايات الطبية العائدة للمستشفيات وإلزامها بمعالجتها بطريقة سليمة.
10- تفريغ عدد من النواب العامين البيئيين حيث ينص قرار مجلس الوزراء على وجود 14 نائب عام بيئي في لبنان . والبقاع والجنوب وحدهما بحاجة ل 4 نواب عامين بيئيين ينصرفون لقضايا الليطاني والبيئة.
خاتمة
مؤشرات عدة على أن مصلحة الليطاني تستيقظ مع مديرها العام الجديد. لكن الأمل أن تلقى طلباتها وشكاويها أذنا صاغية لدى سائر الإدارات العامة، وخاصة القضاء وفي مقدمته المدعين العامين البيئيين. الدولة لن تنجح في حماية بيئتها إذا بقيت عاجزة عن فرض سيادتها في مواجهة من ينتهك هذه البيئة.
مقالات ذات صلة:
ألف ومئة مليار ليرة لليطاني وناس النهر لم يروا شيئاً: من أوقف دراسة توثيق جريمة إصابة أهل البقاع بالسرطان؟
“