من يقرأ التصاريح الإعلامية في ربيع عام 1956، غداة كارثتي فيضان نهر أبو علي، والزلزال الذي ضرب قرى الشوف والجنوب، يظنّ أنّ لبنان نجح في تحويل هاتين الكارثتين إلى فرصة نحو نهضة عمرانية حداثوية تؤدي إلى منح كل ذي حاجة حقه. وعلى أثر الدمار الذي حل بالبيوت، أنشأت الدولة اللبنانية ما عُرف حينها بـ “مصلحة للتعمير”، للمباشرة بإعادة الإعمار وخصص أموالاً طائلة لها. كان الحديث بدايةً عن 30 مليون ليرة ثم ارتفع الرقم إلى 64 مليون، ثم إلى 113 مليون. والأموال التي جرى استثمارها في مخصّصات التعمير تركت عبءاً كبيراً على خزينة الدولة. وقد تم تأمين الجزء الأكبر من هذه الأموال من خلال ضريبة فرضت خصّيصاً لهذه الغاية وهي “ضريبة التعمير”، فيما توفّر الجزء الآخر من تبرعات وردت إلى خزينة الدولة من مصادر عديدة. يضاف إلى ذلك اللجان التي تشكلت في المناطق المختلفة للتعاون مع الدولة وعرض نقابة الهندسة والخبراء المحليين والخارجيين للمساعدة… فضلاً عن اقتراحات بإلزام شركات الترابة بتأمين أسعار خاصة للترابة لمشروع التعمير هذا[1]. لكن من يغوص في تفاصيل عملية إعادة الإعمار هذه، سرعان ما يكتشف أنها لم تكن معبّدة بالورود بل كانت تتم على وقع تنازع المصالح، مما ترك أثراً بليغاً على عملية إعادة الإعمار. وهذا ما سنتناوله بإسهاب في هذا المقال.
ولادة مصلحة التعمير
في 16 آذار 1956، تعرّض لبنان لثلاث هزّات أرضية[2]، واستفاق اللبنانيون في اليوم التالي على كارثة. الزلزال الذي شمل مجمل ساحل المتوسط الشرقي (لبنان، فلسطين، سوريا)، كان مركزه الشوف وتحديداً عند الروافد السفلية لنهر بسري. وقد أسفر عن وقوع 122 ضحية في 33 قرية[3]. وعلى الفور، قامت وزارة الداخلية بإرسال “مفارز من المهندسين لتكشف على الأبنية المتداعية والواجب إخلاؤها”. ولكنّ الوزارة لم تكن جاهزة لإدارة أزمة مماثلة، فاستعجلت أعمال التخمين والإحصاء ولم تستطع تأمين العدد الكافي من المهندسين للكشف على الأضرار. فأتت نتائج إحصاء الأبنية المهدّمة غير دقيقة. وكان الدمار واسعاً في قرى الجنوب والشوف ولم يسلم حتى قصر بيت الدين ودار المختارة من التصدّعات في الجدران[4]، فتعدّى عدد البيوت المتصدعة 12000 وتهدم ما يقارب 7000[5]. وكان سبق الزلزال كارثة أخرى حيث فاض نهر أبو علي في طرابلس وأدى إلى وقوع ضحايا وإلى تشريد الآلاف من سكان المدينة. وعليه، اتخذت الحكومة قراراً قضى بإنشاء “المصلحة الوطنية للتعمير” التي تعدّ أول محاولة لإنشاء مؤسسة إسكانية أو إعادة إعمار في لبنان.
في اليوم عينه من وقوع الزلزال، فاز عبد الله اليافي في معركة الإستشارات النيابية لرئاسة الوزراء[6] فكلّفه رئيس الجمهورية كميل شمعون بتأليف الحكومة. ولم يمضِ يوم على الزلزال حتى بدأت المساعدات للمنكوبين ترد من لبنانيين في الداخل والخارج ومعهم دول عربية وأجنبية. كما تقدم في اليوم التالي النائب نعيم مغبغب بمشروع قانون لإنشاء صندوق مستقل لتعمير المدن والقرى المنكوبة بالزلزال. وبعد ذلك بيومين، ولدت الحكومة[7] وولدت معها “لجنة الإغاثة والتعمير” برئاسة وزير الدولة صائب سلام وعضوية وزير الأشغال إميل البستاني ووزير الصحة نزيه البزري[8]. وعدا اللجنة والصندوق، تقدم النائب نعيم مغبغب في 19 آذار باقتراح قانون لإنشاء مصرف عقاري للمساهمة في التعمير[9]. لا شك، تميّزت ردة فعل السلطات العامة في لبنان بالسرعة القصوى. ولكن، هذه الاستجابة السريعة فتحت أيضاً الباب أمام إشكاليات عدة حول كيفية الاعمار والجهات المسؤولة عنها.
في هذا السياق، كتب غسان تويني، رئيس تحرير جريدة “النهار” والنائب آنذاك، مقالاً نشر في 22 آذار، عن وجوب حصر جميع التبرعات والإعانات في صندوق واحد وعن ضرورة قيام هيئة رفيعة مسؤولة قد يكون الوزراء الثلاثة في لجنة التعمير “خير نواة لها”. فتضع الهيئة مخططاً شاملاً يعهد تنفيذه إلى “أجهزة اقتصادية وفنية مستقلة تماماً عن الإدارات”[10]. ولم يكن تويني فيما قاله بعيداً عن الجو السياسي السائد: فقد قدّم النائب بيار إده، في التاريخ ذاته الذي نشر فيه المقال، مشروع قانون لإنشاء مصلحة خاصة للإغاثة والتعمير[11].
وفي اليوم التالي، عقدت لجنة الإغاثة إجتماعاً واتفقت على إعفاء مواد الإغاثة من الرسوم وتسهيل توزيعها وإنشاء صندوق مستقل لمساعدة المتضررين على إصلاح قراهم وإعادة تعميرها وأخيراً إنشاء إدارة خاصة تتمتّع بصلاحيات استثنائية لاتخاذ التدابير الضرورية التي تطلبها أعمال التعمير والإغاثة[12] بصورة سريعة ومجدية. في 24 آذار، تقرر تأليف 24 مركزاً للمساعدة في مناطق الزلزال كانت مهمتها إحصاء المنكوبين وتقديم المساعدات المستعجلة لهم[13]. وبالتالي، ونظراً لحالة الطوارئ التي فرضها الزلزال، تقدمت الخطط الإعمارية ضمن أولويات الحكومة على قضايا أخرى كانت مطروحة حينها، مثل: قانون الانتخاب، مشروع تنظيم القضاء وخطة إصلاح الإدارة. وقد طرحت هذه الأمور بشكل مقتضب خلال مناقشة البيان الوزاري في 29 آذار. وولدت حكومة تسعى للتوفيق بين سياستي إسكان، في الظاهر متقاربتين، ولكنّ الأولى تغلّب مبدأ “الدولة تعمّر”، أما الثانية فتدعو إلى منح الناس الأموال اللازمة، أو تسليفهم هذه الأموال ليتولّوا مسألة الإعمار بأنفسهم.
وبعد نيل الحكومة الثقة، انعقد مجلس الوزراء لوضع مشروع قانون مستعجل لإنشاء “مصلحة الإغاثة والتعمير” وغايتها “تقديم المساعدات لمنكوبي الزلزال ووضع تصميم لتعمير القرى والمنازل المهدّمة، واستملاك العقارات اللازمة للتعمير بما فيها المشاعات، والإشراف على التعمير وتنظيم التسليف له، وإعداد الدروس وتقديم الإقتراحات للحصول على المال اللازم لتحقيق غاية المصلحة.”[14] وتم الإتفاق على تمويل “الصندوق المستقل” من خلال التبرعات والإعانات الواردة إليه، إضافة إلى ضرائب ورسوم جديدة[15]. كما أجيز للحكومة تسليف الصندوق 8 ملايين ليرة من أموال الخزينة العامة، ومليوني ليرة من احتياطي مكتب القمح، على أن تسدد هاتان السلفتان من واردات الصندوق المحددة فيما سبق.
وبالفعل، أنشئت “مصلحة الإغاثة والتعمير”– غير اللجنة – وترأسها إميل البستاني، وزير الأشغال العامة ومؤسس شركة المقاولات العالمية “كات” (CAT)، وصاحب الدور السياسي والدبلوماسي المثير للجدل[16]. وخلال جلسات مناقشة لمجلس النواب، برز رأيان حول التعمير وكيفية تقديم المساعدات، الأول هو رأي حظي بإجماع أعضاء المجلس النيابي والذي لخّصه النائب مارون كنعان بالتالي: “لا نريد من المنكوبين أن يفتحوا من الآن باب التخمين، بل نرجو من الحكومة أن لا ترسل لجاناً للتخمين إذ نحن نريد أن تبنى البيوت المهدومة، لا أن تدفع تعويضات لأصحابها[17]“. أما الرأي الآخر، الذي رفضته المصلحة، فقد عبّر عنه النائب نعيم مغبغب وهو يميز بين القرى المهدّمة بالكامل (وهي تتراوح بين 30 و50) ومئات القرى التي تضرر عدد من مساكنها، بحيث يرى أن انتهاج طريقة الأمانة أو الاتفاق الرضائي هو الأنسب بالنسبة إلى إعادة الإعمار في القرى الأخيرة[18].
في 4 نيسان، عقدت اللجنة الفرعية المكوّنة من خمسة أعضاء والمنبثقة من لجنتي العدلية والمالية جلسة جرى فيها مناقشة اسم المصلحة. فاقترح إثنان منهم تسميتها “المصلحة الوطنية للإغاثة والتعمير”، فيما رأى الثلاثة الآخرون أن الحكومة لن تستمر في إغاثة المنكوبين فاقترحوا تسميتها “المصلحة الوطنية للتعمير”[19]. وكأن الأمر لعبة شد حبال بين الإغاثة في التعمير والإغاثة بالتعمير، أي بين منح المال للناس ليقوموا هم بالبناء وبين المباشرة الفورية بالبناء. كان الإنقسام بهذا الشأن حاصلاً سواء داخل الحكومة نفسها أو داخل اللجان المعنية بالتعمير أو داخل مجلس إدارة المصلحة أو داخل مجلس النواب. وقرر مجلس الوزراء تأليف مجلس إدارة للمصلحة برئاسة إميل البستاني وعضوية رشيد بيضون، وفيق القصار، جاك نصر، أمين البزري.
ويتولّى مجلس الإدارة بعد مسح الأضرار وضع منهاج عام لتنفيذ أعمال التعمير، وله أن يقوم بتنفيذها بطريقة الأمانة أو التلزيم أو الاتفاق الرضائي وفقاً لدفاتر شروط يضعها لهذه الغاية وتخضع لموافقة وزير المالية وله أيضاً أن يضع لتنفيذها شروطاً خاصة يتفق عليها مع ذوي العلاقة. وعند هذا الحد انتهت مهمة اللجنة الوزارية للإغاثة ليبدأ عمل مصلحة التعمير[20] التي شملت صلاحيات مجلس إدارتها جميع المسائل الناشئة عن حوادث الزلزال والفيضان في طرابلس. وكان كل ما تم الإتفاق عليه حتى ذلك الوقت “هو وجوب إنشاء قرى نموذجية بدل القرى المهدمة” وفق ما أعلن وزير المالية جورج كرم رداً على إستيضاحات النواب في وقت لم تكن قيمة الأضرار والمبالغ المطلوبة للإعمار قد اتضحت[21].
ولكن هذه السرعة في العمل التشريعي أثارت تحفظات بعض النواب. فبخصوص الضرائب المفروضة، اعتبر غسان تويني أنه لا يمكن الموافقة على “ضرائب مستحدثة تنشأ ارتجالياً، إذ إن الضرائب هي أداة إنماء إقتصادي… لذلك وقبل أن يكون لدينا دراسات علمية كافية حول مدخول الضرائب الجديدة وحول أثرها في الإقتصاد اللبناني لا يمكننا أن نرتبط بإنشاء ضرائب جديدة”[22]. ومن الأمور التي أثيرت أيضاً، أهمية “عنصر السرعة” في التعمير، وهو ما تحدث عنه جورج عقل طارحاً فكرة تلزيم شامل واستخدام شركات عالمية[23]. في المقابل، طرح سامي الصلح هاجساً آخر، ذلك أن الفقراء الذين يعيشون في بيوت قذرة وهي من تنك يجب عدهم في جملة المنكوبين. يقول الصلح: “عندما أردت أن أبيّن بأن هذا المشروع يكلف البلاد 200 مليون ليرة استغرب الوزراء ذلك الأمر، لأنه حسب الدروس التي جرت منذ سنوات من أجل حلّ أزمة السكن لقينا أن الحالة تقضي بإنشاء 160 ألف بيت في بيروت، والآن الموظف الذي يتقاضى 150 ليرة في الشهر يدفع نصف راتبه للسكن، فكيف تريدون منه أن يقوم بواجباته بكل أمانة”[24]. وكان الصلح تقدم بمشروع يشمل كافة المنكوبين بقضايا التعمير.
خيارات المصلحة: التعمير المباشر والكلفة دين على المتضررين
عقد إميل البستاني الاجتماع الأول لمجلس إدارة المصلحة وعرض إعطاء المتضررين مبالغ مالية على أساس الدين على أن يسدد في مدة تتراوح بين 10 سنوات و15 سنة أو أن تعمد الحكومة إلى بناء مساكن بتكاليف موحدّة. اعترض بيضون والقصّار على ما اعتبراه منافياً لغاية التخفيف على المنكوبين لأن الوسائل التي لجأت إليها الحكومة في زيادة الضرائب وتلقّي التبرعات توجِب مساعدة هؤلاء بكل معنى الكلمة. واقترحا أن يستند مشروع الحكومة إلى دفع قيمة الأضرار كاملة للفقير، ونسبة معيّنة (40 إلى 50%) من قيمة الأضرار للمتوسط مع تسليفه المبلغ الباقي. الأمر نفسه بالنسبة إلى الميسور على أن تخفّض نسبة التعويض إلى 20-25%.
ولكنّ البستاني أصر على موقفه وفاز اقتراحه بالأكثرية فانسحب العضوان وقدما استقالتهما[25]. بعد أيام قليلة، عيّن مكانهما كل من محمد شقير ونجيب صالحة[26]. وفي 19 نيسان، أعلن البستاني أن المصلحة “باشرت بإرسال مواد البناء والمهندسين إلى القرى التي تم فيها حتى الآن إنشاء لجان محلية لمعاونة مصلحة التعمير في أعمال ترميم المنازل المصدعة وإعادة بناء المنازل المتهدمة. وبانتظار تشكيل مثل هذه اللجان في القرى الأخرى المنكوبة سيصار إلى مباشرة العمل فيها على نطاق واسع”[27].
خلافات واتهامات تظلّل عملية الإعمار
خلال فترة عمل مصلحة التعمير، ساد تراشق اتهامات بسوء الإدارة والتدخل بين المصلحة والمعترضين على عملها. واشتدّ الخلاف الذي برزت ملامحه في جلسة مناقشة[28] البيان الوزاري حول سياسة التعمير، بعد تعيين إميل البستاني رئيساً للمصلحة، لتنقسم حوله تكتلات النواب ويتحوّل الأمر تارة إلى خلاف شخصي مع البستاني وطوراً إلى خلاف انتخابي بين نواب الشوف[29]، وتارة أخرى إلى اعتراض بعض النواب على تهميش مناطقهم في سياسة التعمير. وتطورت الإتهامات ضد مصلحة التعمير من سوء الإدارة وعدم التقدير الصحيح لكلفة المشروع وبطء العمل على حساب المنكوبين الذين هم بحاجة إلى إغاثة سريعة، إلى تهم فساد من توظيفات وهدر أموال واستغلال المصلحة في الانتخابات، ومخالفة القانون.
وانتقد نعيم مغبغب، في جلسة 31 أيار في خطاب مطوّل تحوّل إلى استجواب، طريقة عمل المصلحة. وبعد لحظه أهمية بعض الخطط الاجتماعية للمصلحة في بناء مدارس ونوادٍ، عقّب قائلاً “ما الفائدة من الكلام عن المركز الاجتماعي وعن النادي وعن المدرسة إذا لم يبق في القرية صاحب بيت يستظل بسقف بيته؟” وذلك في إشارة منه إلى عدم قدرته على إتمام المخطط بوقت قصير لإسكان المنكوبين وأنه يجب إعطاء الأهالي المال ليبنوا منازلهم بأنفسهم كسباً للوقت. فيما انتقد النائب كاظم الخليل التوظيفات في المصلحة فكشف عن أسماء موظفين من عائلة البستاني.
أما النائب غبريال المر فرأى أن قانون مصلحة التعمير نص على أنه: “…لا يجوز اختيار أعضاء مجلس الإدارة من الموظفين ولا من رجال الأعمال الذين لهم فائدة ما من مشروع أو مقاولة تجري مع المصلحة أو لحسابها”. واعتبر أن القانون لا يحدد نوع الفائدة، فيما أن وزير الأشغال سيرشح نفسه عن إحدى المناطق المنكوبة في الانتخابات المقبلة. “وهذا يعتبر فائدة”. وفيما ذكّر رئيس الحكومة بأن “البستاني مشهور عنه أنه منذ أن دخل الحياة النيابية منع شركته الكبيرة أن تتدخل في أي التزام أو مقاولة يكون للحكومة علاقة بهما” وأنه “تنازل عن راتبه في النيابة وفي الوزارة”، لمّح البستاني إلى أن الغاية من انتقاده كانت بسبب اتخاذه تدبيراً في وزارة الأشغال العامة بمنع النواب من الاتصال بالموظفين، كي تكون صلة النائب بالوزير مباشرة وهو ما أثار استياء الكثير من النواب. ومن خارج المجلس أيضاً، هاجم فؤاد عمون المرشح في وجه البستاني أداء هذا الأخير مدّعياً أن “أصابع التعمير (امتدّت) إلى صناديق الإقتراع” حيث “كانوا يساومون على الاتفاقيات على عتبة الأقلام قبيل دخول الناخب إليها”[30] وكان البستاني ينفي مراراً كل هذه التهم ويردّ الهجمة عليه لأسباب أخرى، ثم يعطي معلوماته الخاصة عن عمل المصلحة.
وتوضيحاً لمهام المصلحة وعملها، عقد إميل البستاني في 8 أيار مؤتمراً صحفياً قال فيه أن “المصلحة تقدم للذين يريدون ترميم بيوتهم كل مواد البناء اللازمة على أن يقوموا هم بترميم بيوتهم وتقديم اليد العاملة. وفي كل قرية، لجنة محلية اختارها الأهالي ولها الحق أن تقرر من هو فقير الحال الذي ليس بإمكانه أن يقدم اليد العاملة، وعند ذلك تدفع المصلحة أجور اليد العاملة لهذا الشخص لكي يستطيع ترميم بيته، ولكن الأجور لا تدفع له بل للعمال”. وأعلن الوزير أن هذه الأجور ليست ديناً بل سلفة فالقانون الذي أنشأ المصلحة لم يعطِها حق تقديم الهبات بل فرض عليها تنظيم التسليف وترك أمر الإعفاءات وتسديد السلفات لقانون لاحق. وأضاف أن المصلحة ستستملك في أكثر القرى أرضاً تنشئ عليها حياً جديداً بتخطيط جديد وتقيم على هذه الأقسام المنظمة بيوتاً حديثة على حساب الحكومة. وتحدث عن كيفية بناء البيوت المهدمة حيث أن “نية المصلحة الإستعانة بالبنّائين والنجارين والحدادين من جميع المناطق اللبنانية لإنجاز العمل بسرعة…[31]“
وفي جلسة 31 أيار، قدم النائب مغبغب استجواباً للبستاني كرر فيه الإتهامات السابقة،[32] تبعته استقالة كل من مجيد إرسلان وسليم لحود المعارضين لسياسة البستاني من الحكومة. وتحت ضغط البرلمان، استقال اليافي ليؤلف حكومة جديدة من دون البستاني[33]. وبالفعل، تمكّن من الفوز على سامي الصلح بأكثرية ضئيلة[34].
كما سجّل مزيد من الخلافات داخل إدارة مصلحة التعمير، فتلقّى ديوان رئيس الحكومة استقالة نجيب صالحة، ومحمد شقير من مجلس مصلحة التعمير[35]، معلّلين الأمر بـ”أسباب صحية”. وأشار مقال في “النهار” إلى أنّ تعيينات جديدة حصلت أثناء وجود شقير خارج البلاد، فاعترض شقير لأن التعيينات من اختصاصه هو، وتضامن معه صالحة.
لاحقاً، عقد مجلس الوزراء جلسات استمع فيها إلى تقرير للجنة وزارية تم إنشاؤها لمتابعة قضية مصلحة التعمير[36] وقد عادت مسألة تسديد التعويضات للمتضررين على لسان رئيس الحكومة الذي اعترض على عدم دفع المال لمن يريد أن يتولّى بناء بيته بنفسه. وقال أن هناك من الأهالي من يطالب بأن يتولّى هو بناء بيته، سائلاً البستاني عن سبب عدم تجاوبه، فأجاب الأخير أنّ “اعتماد هذه الطريقة يفتح الباب للتلاعب والتضليل”. وزاد اليافي من حدة انتقاده لرئيس المصلحة لعقده صفقات من دون موافقة مجلس التعمير، ناعتاً إياه بالديكتاتورية. فأجاب البستاني على ذلك أنه “يعمل في ظرف استثنائي ولا يمكنه التقيّد بالروتين”[37].
كيف نظر الأهالي إلى عملية إعادة الإعمار؟
انقسم أهالي المناطق المتضررة إزاء عملية التعمير بين مؤيّد لسياساتها ومشتكٍ من التمييز والإهمال. فمثلاً رفع مئات المتضررين في جزين العرائض إلى رئيس الحكومة دعماً للخطة التي اعتمدها البستاني. وأدى ذلك إلى أن قام جزء آخر من الأهالي برفع عرائض مناهضة لسياسة المصلحة[38].
ومن الشهادات الإيجابية على عمل المصلحة، ما كتبه الصحافي من بلدة قيتولي عدلي الحاج في مقال له في “النهار” في نهاية تموز، حيث تحدث عن “حلّة جديدة عادت بها القرى المهدّمة. ولكن الحديث يقتصر على بعض قرى جزين: لبعا، عازور، روم، قيتولي. إذ تحولت قرية لبعا من قرية فقيرة منعزلة إلى بلدة عصرية جميلة ترتفع فيها المنازل الحديثة”. أما روم “فتوقف الأهالي فيها عن مهاجمة البستاني”. وكذلك، تبني عازور بيوتاً عصرية ستجعل منها “بلدة جديدة”. كما بدأت “آثار الخراب تختفي من قيتولي… لترتفع مكانها بيوت جديدة”، وفق الحاج. وستكون الورش القائمة في هذه القرى منتهية في أواخر عام 1957.[39] ولكن وبانتظار انتهاء هذا العمل، اقترح رئيس بلدية قيتولي على مصلحة التعمير “أن تعمد إلى مصادرة البيوت السليمة التي لا يسكنها أحد خلال فصل الشتاء لإيواء المنكوبين الفقراء”[40].
وبالاطّلاع على أعداد “النهار” خلال هذه الفترة، يكتشف القارئ عدداً من الفضائح والشكاوى الواردة بشكل منتظم في عملية الإعمار. من الأمثلة على ذلك، فضيحة التلاعب في جداول العمال من قبل أحد الملتزمين في معاصر الشوف[41]، أو أيضاً “الشكوى التي قدمها أعضاء المجلس الإختياري في الصرفند والتي ذكروا فيها أن أحد مخاتير القرية يحصل على كميات من البناء من مهندسي التعمير لقاء هدايا وحفلات تكريم لهم[42] أو أيضاً شكوى أهالي صيدون من التخطيط الذي يصرّ عليه المهندس في قريتهم ببناء المنازل الجديدة على أرض يملكها مواطن فقير[43]. كما سجلت العديد من الشكاوى إزاء “تصرف المهندسين الدكتاتوريين”[44].
وكانت النقطة الأهم التي عبّر عنها عدد من أهالي المناطق المنكوبة، هي التمييز بين المناطق لحاجات سياسية. وقال النائب كاظم الخليل في إحدى جلسات المناقشة: “لا أدري كيف يجوز لرئيس المصلحة أن يقول بأنه يبدأ العمل في المنطقة المتضررة أكثر من سواها ويترك المنطقة الأقل تضرراً لمرحلة ثانية، بمعنى أن بلداً تهدم فيه مائة منزل وبلداً آخر تهدم فيه عشرون منزلاً، هل يصح أن يبقى أصحاب العشرين منزلاً بلا مأوى وتبنى بيوت لمأوى أصحاب المائة بيت؟ إن بيوتاً تصدّعت في شحيم وأخرى تصدعت في بنت جبيل، فلماذا ترمم في شحيم ولا ترمم في بنت جبيل؟”[45]
تشديد الرقابة على المصلحة ولجنة تحقيق برلمانية
في أواخر تشرين الأول، أرغم وزير المالية والإقتصاد جورج كرم البستاني الموافقة على إخضاع المصلحة للرقابة المالية، كشرط لصرف مبلغ 10 ملايين وضعتها الحكومة في تصرّف المصلحة”[46] [47]. وخلال جلسة مناقشة برلمانية في 30 تشرين الأول 1956، تمت الموافقة على تسليف المصلحة مليوني ليرة لبنانية فقط، رغم قرار الحكومة السابق. كما جرت المطالبة بوضع موازنة لمصلحة التعمير تتضمن تفصيل النفقات وتفصيل الواردات، وذلك عملاً بالأصول المتبعة في الدولة[48].
في 27 تشرين الثاني، تم منح الثقة لحكومة جديدة برئاسة سامي الصلح. في 18 كانون الأول، تم انتخاب لجنة برلمانية للتحقيق في قضية التعمير، تألفت من بشير الأعور وغبريال المر وسليم حيدر. وقد نشر غبريال المر في 12 تموز تقريره عن التعمير في مؤتمر صحافي، متهماً البستاني بإساءة التصرف وبهدر نحو 15 مليوناً[49].
كما تحركت هيئة تفتيش الدولة[50]، إلا أن البستاني رفض السماح لمفتشي الدولة بتفتيش دوائر المصلحة. وطلب في المقابل من ديوان المحاسبة إخضاع المصلحة للرقابة المسبقة اختيارياً.[51]
وفي مقال أرسله إميل البستاني لـ”النهار”، نقرأ أنه حتى نيسان 1957 تم بناء “ما يزيد على 8000 بيت جديد وتصليح ما يزيد على 13000 بيت آخر. وإذا قسمنا 25 مليون ليرة (التي أنفقتها المصلحة) بكاملها على 8000 بيت، يكون البيت الواحد قد كلّف ما يقارب 3000 ليرة فقط، مع أن الواقع هو أن هذا المبلغ لم يصرف على ـ8000 بيت جديد فحسب بل صرف أيضاً على ترميم 13000 بيت وعلى شق ما يقارب 180 كلم من الطرق وعلى بناء بيوت أخرى لحساب الدولة وعلى استملاكات الخ. وليس معدل تكاليف البيت الواحد الجديد أكثر من ألفي ليرة…”[52] كما قدمت المصلحة في مناسبة أخرى (21 آب 1957) جردة لما أنجزته في صيدا[53].
وبالرغم أنه لم تتم إقالة البستاني من قبل الحكومة الجديدة، لكن تم تعطيل عمل المصلحة، من خلال المماطلة في منحها الأموال المطلوبة لاستكمال عملها. فتوقفت أعمال التعمير في 24 أيلول في مختلف المناطق اللبنانية.[54]
المصلحة و”المنكوبين” وأبو علي يفوض من جديد
منذ الأشهر الأولى لسنة 1956، نشرت “النهار” عدداً من شكاوى للمنكوبين في طرابلس[55]. وقد خرج البستاني مراراً للدفاع عن المصلحة وتوضيح إطار عملها معتبراً أنّ الانتقادات الموجّهة إليه تهدف إلى تحقيق مصالح خاصة وليس عامة[56].
وفي بداية تشرين الأول 1957، فاض نهر أبو علي مجدداً، وأدى ذلك إلى إحداث أضرار بالأشجار والماشية والمزروعات. وهو ما كان حذر منه النائب رشيد كرامي قبل سنة في مجلس النواب، إذ لفت حينها إلى أن شيئاً لم يتم عمله بصدد مشاريع توسيع مجرى النهر “مما قد يؤدي إلى مفاجآت لا ندري ما يكون مدى خطورتها”. كما أثار كرامي وجوب تسديد تعويضات للمتضررين الذين أمرت الدولة بهدم بيوتهم المتصدعة والواقعة على مجرى النهر[57].
وقد خرج إميل البستاني، بعد فيضان النهر، بمؤتمر صحافي جديد ليتحدث عن إنجازات في هذا الصدد، وعن مدينة تقيمها المصلحة في ضاحية طرابلس، وصرح أن الدوائر الفنية في المصلحة رأت “أن تتألف هذه المدينة من 75 عمارة، كل واحدة منها تتألف من 6 وحدات سكن مستوفية الشروط التي تتطلبها مقتضيات الحياة في القرن العشرين. وأوشك بناء 30 عمارة على الإنتهاء وهي قادرة على استيعاب 1200 شخصاً تقريباً”.
مشكلة التعمير لم تنته
يبقى أن نقول أن الخلافات والمناكفات بقضايا التعمير بقيت واستمرت حتى بعد أن قدم البستاني استقالته[58] في 7 تشرين الأول وذلك بعد بحث المسائل الفنية المتعلقة بمعالجة مشكلة نهر أبو علي[59]. ولاحقاً تم تكليف جوزف شمعون برئاسة التعمير “إلى أن يتم تصفية أعمالها بصورة نهائية”،[60] الأمر الذي كان يجب أن يحدث في نهاية عام 1957. لم تتمكن المصلحة من تحقيق أهدافها كما أنها لم تسعَ إلى وضع خطة إسكانية شاملة أو حتى بناء مساكن لغير المتضررين من الزلزال والفيضان. لكنها استمرت في عملها خلافاً لقانون تأسيسها، فتم “تكليفها بمهمات إضافية غير مرتبطة بنتائج الزلزال”. وفي عام 1959، صدر المرسوم الاشتراعي الرقم 15/59 بإلغاء المصلحة وإنشاء إدارة التعمير التي تم استبدالها في 1964، بـ “المصلحة الوطنية للتعمير” التي استمرت قائمة حتى إلغائها في 1977. ولكن بقيت الدولة تفرض ما يعرف برسم التعمير المتعلق بواردات الصندوق[61].
- نشر هذا المقال في العدد | 60 | حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
منحة السكن ومحنته
[1] جلسة مجلس النواب 5 نيسان 1956
[2] وقوع ثلاث هزات أرضية في لبنان والمتوسط الشرقي. جريدة النهار، 17 آذار 1956
[3] A. S. Elnashai, Ramy El-Khoury. Earthquake Hazard in Lebanon. Imperial College Press, 2004
وتشير جريدة النهار إلى عدد آخر للضحايا الذين سقطوا متحدثة عن”ارتفاع عدد الضحايا إلى 134″.
ضحايا الكارثة الأحياء يوشكون أن يلحقوا بالذين ماتوا. جريدة النهار، 20 آذار 1956
[4] توازن. جريدة النهار، 18 آذار 1956
[5] وردت هذه الأرقام على لسان رئيس مصلحة التعمير في جلسة مناقشة البيان الوزاري بتاريخ 14 حزيران 1956
رغم أنه أفاد في وقت سابق بعد إحصاء أوّلي أن “عدد المنازل التي تهدمت وتصدعت بلغ 10611 منزلاً منها 3745 أخليت من ساكنيها ثم جرى هدمها لخطورة وضعها و6811 منزلاً يمكن ترميمها. وجاء في الإحصاءات الأولية هذه أيضاً أن عدد العائلات التي نكبت بهذا الزلزال بلغ 9215 عائلة عدد أفرادها 44708 أشخاص”
44708 لبنانيين شردهم الزلزال. جريدة النهار، 7 نيسان 1956
[6] نواب البقاع ونواب الجنوب يرجحون الكفة فيتلقى اليافي التكليف ويبدأ إستشاراته. جريدة النهار، 17 آذار 1956
[7] – في 19 آذار 1956، وقع كميل شمعون مرسوم تعيين عبد الله اليافي رئيساً لمجلس الوزراء. ومرسوم تعيين أعضاء الحكومة.
صائب سلام، وزير الدولة. – مجيد إرسلان، وزير للدفاع الوطني – جورج كرم، وزيراً للمالية.– جورج حكيم، وزيراً للاقتصاد الوطني والتربية الوطنية. سليم لحود، وزيراً للخارجية والمغتربين والعدلية ـ جوزف سكاف، وزيراً للزراعة.– نزيه البزري، وزيراً للصحة العامة والشؤون الاجتماعية – إميل البستاني، وزيراً للأشغال العامة والتصميم العام – محمد صبرا، وزيراً للأنباء والبريد والبرق والهاتف.
[8] تفقد المناطق المنكوبة. جريدة النهار، 20 آذار 1956
[9] قروض طويلة الأمد للقرى المنكوبة، جريدة النهار، 20 آذار 1956
[10] غسان تويني. بين الإعانة والتعمير، جريدة النهار، 22 آذار 1956
[11] النائب بيار إده يقدم مشروعاً مستعجلاً بإنشاء مصلحة مستقلة للإغاثة والتعمير. جريدة النهار، 23 آذار 1956
[12] إنشاء صندوق مستقل للإغاثة والتعمير ومصلحة ذات صلاحيات إستثنائية. جريدة النهار، 24 آذار 1956
[13] الرئيس سلام ينظم عمليات الإغاثة والتعمير. إنشاء 24 مركزاً لمساعدة القرى المنكوبة. جريدة النهار، 25 آذار 1956
[14] مصلحة الإغاثة والتعمير لإعادة بناء القرى المنكوبة. جريدة النهار، 1 نيسان 1956
[15] المادة 12 ـ تفرض لمصلحة الصندوق المستقل ولمدة تنتهي في 31 كانون الاول سنة 1958 الرسوم والضرائب الاضافية التالية:
1 – ضريبة إضافية قدرها 3 بالمئة على المتوجّب برسم ضريبة الدخل وضريبة الأملاك المبنيّة إذا جاوز المبلغ ألف ليرة لبنانية.
2 – رسم إضافي على جميع السيارات الخاصة قدره ليرتان عن كل حصان بخاري.
3 – رسم إضافي قدره خمسة وعشرون قرشاً عن كل عشرين لتر بنزين وقرش ونصف القرش عن كل لتر مازوت (كازويل) وقرش واحد عن كل لتر مازوت ( فيول اويل).
4 – طابع بريدي خاص بقيمة قرشين ونصف القرش يلصق على جميع الغلافات المقفلة باستثناء المطبوعات، من دون المساس بالاتفاقات الدولية.
5 – رسم إضافي على المراهنات في نوادي سباق الخيل وصيد الحمام قدره 3 بالمئة ورسم إضافي قدره ليرة واحدة على تذاكر الدخول في الدرجة الاولى وخمسة وعشرون قرشاً على تذاكر الدخول في الدرجة الثانية وعشرة قروش على تذاكر الدخول في الدرجة الثالثة.
6 – رسم إضافي على تذاكر الدخول إلى جميع الحفلات ذات البدل قدره: