بتاريخ 16/5/2017، أرجأت محكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضي هاني عبد المنعم الحجار، جلسة المرافعة في قضية مقتل جورج الريف إلى 13 حزيران 2017، وذلك بعدما تقدم وكيل المتهم طارق يتيم المحامي أنطوان طوبيا بتقرير طبي عن طريق محام من مكتبه، يفيد بإصابته بإلتهاب في اللوز يستدعي الراحة لمدة ثلاثة أيام. وكانت هذه المرة الثانية التي تؤجل فيها جلسة المرافعة، فقد سبق أن حصل ذلك بتاريخ 11/4/2017 لعدم اكتمال الهيئة بعد تعيين القاضية هيلانة اسكندر رئيسة لهيئة القضايا في وزارة العدل.
في 15 تموز المقبل، يكون قد مضى عامان على الجريمة المروعة التي، قضى جورج الريف على إثرها، متأثّراً بجراحه بعدما تعرّض لعدة طعنات على يد المدعو طارق يتيم على خلفية إشكال حول أحقية المرور في منطقة الصيفي في بيروت أمام أعين الناس وفي وضح النهار. وقد اهتم الرأي العام بهذه القضية بعدما ثبت أن طارق يتيم كان تورط في جرائم أخرى لا تقل خطورة من دون أن يؤدي ذلك إلى إدانته. وعليه، علقت المفكرة آنذاك على القضية بأن “التدخل في القضاء يقتل”.
المهم في هذه الجلسة ليس الذي حصل خلالها، بل الذي حصل من بعدها. فمحجّة وزارة العدل تفتح مجدداً أبوابها أمام المواطن الغاضب ووزير العدل يكرر بطولاته الإعلامية انتصاراً للعدل… “أهلا وسهلا بجميع المتقاضين في وزارة العدل”: ليس للوزير أن يتدخل في القضاء، لكن بإمكانه أن يسمع لشكاوى الناس، أن يصنف الملفات القضائية hot files للتمييز ما بينها، أن يتواصل مع جميع القضاة، أن يتصل بهم مباشرة من دون المرور بهيئة التفتيش القضائي (فلا حاجة لذلك كما لا حاجة لأي ضمانة لاستقلالية القضاء)، أن يكلمهم بنبرة مسرحية، أن “يتمنى” عليهم باسمه وباسم العهد، أن يستحضر في حديثه معه جميع الزعامات والرئاسات، أن يذكرهم بالتشكيلات، وأن يطبش يده على الطاولة لأنه يرغب بعدالة في عهده، وكل ذلك على مرأى من الجميع تكريساً لما يراه هو عدالة. بإمكانه أن يفعل كل ذلك… فلا تتردد أخي المتقاضي: جرب حظّك. وزير العدل بانتظارك.
وقائع ما قبل الجلسة
خارج قاعة المحكمة كانت تجلس زوجة جورج، رلى أبو صالح، على كرسي بإنتظار أن تبدأ الجلسات. وكما جرت العادة، تتأخر جلسة قضية جورج الريف لما بعد الواحدة والنصف. أما أهميتها فتظهر جلية على جدول الجلسات حيث تجد إسم جورج الريف مطوقاً بقلم حبر. وخلال دردشة معها، لم تخفِ رلى تأثرها. فالحديث عن زوجها يطلق العنان مراراً لدموعها. وعلى الرغم من توترها الظاهر والضغوط التي تحدثت عنها، بقيت متمسكة بالأمل: “نأمل خيراً فنحن بالنهاية، أصحاب حق ومظلومون. وكل الناس رأت هذا الأمر بأم العين. فلا شيء مخفيّ في هذه القضية: الجريمة حصلت أمام أعين الناس الذين رأوا كيف كان جورج يهرب من طارق يتيم ولم يشكل له خطرا”. وأكدت: “إن لم نأخذ حقنا في هذه القضية، لن يعود بإمكان أي مواطن أن يشعر بالأمان بالخروج من منزله. ولن تردعني الضغوطات عن الإستمرار بهذه القضية وإكمالها حتى النهاية”.
مطلب عائلة الريف هو الإعدام لقاتل إبنها (وهو مطلب تتحفظ عليه المفكرة لرفضها المبدئي لهذه العقوبة). وترى زوجته أنه “لا يمكن ترك شخص كطارق يتيم بين الناس. فإذا لم ينَل الإعدام، يقتضي الحكم عليه بالمؤبد، لأنه يرتكب جرائمه بكامل وعيه. فلجنة الاطباء كشفت عليه. وفي الجلسة السابقة، أكد أحد الاطباء أنه رغم الاكتئاب والأدوية والعلاج الذي يخضع له يتيم، فإنه كان بكامل وعيه يوم الحادثة. فقد قام بتسديد ضربات على أماكن قاتلة من الجسم وكان واعياً تماماً لما يقوم به. والذي يشرب ويتعاطى لا يكون بهذ التركيز: فمن الضربات التي وجهها يتيم الى زوجي واحدة على بطة رجله. وعندما سأله القاضي جورج رزق بالتحقيقات الأولية عنها: أجابه بأن هذه الضربة لا يحاسب عليها القانون وهذا دليل أنه يعي تماما ما يقوم به، ولديه خبرة بالموضوع”.
وأثناء الحديث مع زوجة الريف، وصلت والدته بردائها الأسود: “مهما يأتي الحكم في النهاية، فهو لن يعيد إليّ إبني”. لكن أريد “أن تكون قضية جورج عبرة لغيره وأن يكون الحكم فيها رادعاً لباقي الجرائم سيما بعد أن شهدنا حوادث قتل لأسباب تافهة”.
مناوشات على القوس
على الرغم من أنه يتمّ عادةً إحضار الموقوفين تباعاً منذ ما قبل بدء الجلسات، إلاّ أن طارق يتيم يتميز عن غيره بأنه يصل قبل محاكمته ببضع دقائق وحسب من ثم يرحل مباشرة بعدها. وقرابة الساعة الثانية إلا ربع، وصل يتيم وعلامات الإنزعاج بادية عليه، فهو عادة ما يصل باسم الثغر. إلاّ انه في هذه المرة وصل متجهماً وقد رسم صليباً كبيراً على يده “”tattoo. ثم بدأت الجلسة برئاسة القاضي هاني عبد المنعم الحجار وبحضور ممثلة النيابة العامة مايا كنعان، وقد حضر الى جانب زوجة الريف وكيلها المحامي زياد بيطار.كما مثلت الظنينة لينا حيدر، فيما غاب وكيل المتهم طارق يتيم المحامي أنطوان طوبيا وأرسل بواسطة محامي من مكتبه تقريراً طبياً بأنه يعاني من التهاب في اللوز وقد وصف له الطبيب الراحة لمدة ثلاثة أيام، طالباً الاستمهال للمرافعة.
فور تقديم التقرير الطبي، إعترض بيطار فقاطعه القاضي الحجار قائلاً: “بدك تطلب الاذن بالكلام: مافيك هيك”. وعند طلب المحامي من مكتب طوبيا، الإستمهال، تركت النيابة العامة الأمر لهيئة المحكمة التي قررت تأميناً لحقوق الدفاع إرجاء الجلسة إلى 13 حزيران المقبل. عندها ثار بيطار غضباً، وقال:”مضت سنتان على المماطلة في هذه القضية وكل مرة نفس الشيء”. معتبراً أن في الأمر مضيعة للوقت ومماطلة لا طائل منها متهماً المحكمة “بالإنحياز”. هنا ردّ القاضي الحجار عليه “خلص انتهينا.. ولا تملك الحق في الكلام هكذا أمام المحكمة. إن كان لديك إعتراض، قدّمه خطيا”. فهدد بيطار بطلب “الرد” فأجابه الحجار”عمول لي بدك ياه”.
خرج بيطار من قاعة المحكمة مشدداً على أن “هناك إنحياز فاضح للمحكمة”، معتبراً أنه كان بإمكان المحامي من مكتبه أن يقدم مرافعة خطية وأنّ “في الأمر تمييع”. أما زوجة الريف، فخرجت حاملة دموعها معربةً عن إحساس لديها بأن شيئاً ما كان سيحصل. وقالت: “المرة السابقة لم تكتمل الهيئة، وهذه المرة هذا ما حصل. المرة المقبلة سيؤجلّون إلى ما بعد العطلة القضائية وهكذا دوليك… إذا جريمة جورج الريف هكذا سيحصل فيها معنى ذلك أن كل القضايا انتهت أو ستنتهي”.
أضافت: “أنا إمرأة متضررة قتلوا زوجي أمام عينيّ. ما يحصل أمام المحاكم لا يجوز. وقررت رؤية وزير العدل سليم جريصاتي لإطلاعه على ما حصل” وقالت: “لن أرحل قبل رؤية الوزير ووسائل الإعلام معي. بدي شوف شو بدو يعمل القاضي؟ إذا قضية جورج الريف ما أخدت حقها علينا السلام بهذا البلد”. وفي الوقت عينه، أكد بيطار: “سأطلب من حضرة الرئيس الأول تعيين قاضٍ ثاني في القضية كونه لم يعين قاضيا أصيلا بعد”.
وزير العدل: بدي شي نوعي
بعد انتظار لبعض الوقت، دخل آل الريف برفقة المحامي بيطار وبعض وسائل الإعلام لرؤية وزير العدل سليم جريصاتي. وقد شرحت رلى ما جرى معها في قاعة المحكمة والضغوطات التي تمارس عليها من قبل أحد المتمولين الذي يستخدم كل نفوذه لمنع أولادها من العثور على وظيفة في أي بنك في الأشرفية. وشدد بيطار: “نحن سنطالب باستبدال القاضي. فهو منعني من الكلام. قلت له أن القضية إنسانية. هو تهجم علينا بطريقة تظهر جليا الإنحياز”.
وأثناء اللقاء، اتّصل الوزير جريصاتي بالقاضي هاني الحجار، بحضور وسائل الإعلام (ومنهم كاتبة هذا المقال). وبعدما أكّد لفظيّا كالعادة أنه لا يتدخّل بعمل القضاء، شدّد على إهتمامه بملف الريف من ضمن عدة ملفات، مغدقاً بتمنياته على القاضي. وفي كل مرة كان ينفي فيها تدخله بعمل القضاء كان يضاعف الحديث عن تمنياته. وقال: “كيفك ريّس.. ما تواخذني.. ماشي حالك.. لك ريس.. إنت تعرف أنا بالنتيجة وزير الأداء القضائي، ولست وزير الوظيفة القضائية ولا أسمح لنفسي لا معك ولا مع غيرك التدخل بوظيفة القضاء. لكن جاءت إليّ عائلة الريف مع المحامي، وهذا الملف صادم للرأي العام ومن ضمن الملفات التي أضعها كملفات hot files على مكتبي. ومثل ملف بهيج أبو حمزة، وهنيبعل القذافي، ورولا يعقوب، أضع الريف والتخابر غير الشرعي وأريد على أيامي أن تسلك هذه الملفات طريقها وألا تقف”. وربما أراد الحجار التعليق عليه، فقاطعه قائلاً: “خليني كمّل لو سمحت، أنا أعرف أنك ورثت هيلانة اسكندر في هذا الملف الحساس، الله يوجهلها الخير اليوم صارت بالقضايا، ولكن هذا الملف هو صادمٌ للرأي العام والإعلام وهو لا يؤثر على الوظيفة القضائية وقناعتك أبدا لكن يجب أن يسلك طريقه”. وتابع كلامه منوهاً مجدداً أنه لا يتدخل في عمل القضاء: “كيف أشرح لك، اليوم كنا متوجهين الى المرافعة. وكانت السيدة تمنن النفس بأنه بعد المرافعة، ربما نصل إلى حكم. وفي آخر المطاف، يكون هذا اقتناع المحكمة خاصة بالقضايا الجنائية. لكن يبدو أن المحامي مريض واضطرينا أن نؤجل. ما في إشكال، لكن أنا بدي منك شغلة يا ريس طالما أن التكليف يأتي من الريس الأول (الرئيس الأول لمحكمة استئناف بيروت). الله يرضى عليك: اعتبر أن هذا الملف، وليس من باب التدخل بالوظيفة القضائية، إنما من باب الإداء بأن هذا الملف هو hot file على مكتبي أتابعه. لأن كل الملفات الصادمة للرأي العام نريد فيها أحكام بعهدنا بولايتي إذا أمكن أن يكون كل شيء ظاهر للعيان ونعرف بآخر المطاف أين عدالتنا ممكن أن تصيب وأين عدالتنا ممكن ألا تصيب”.
وأشار جريصاتي إلى رغبة آل الريف بتنحيه عن القضية وقال: “هذه الأمور تأخذ مجراها القضائي، وهي ليست لديّ. فليس وزير العدل هو الذي يختار الرد، فالرد له أصوله التي يعرفها المحامي بيطار. ولكن أنا لا أود حصول ذلك، سيما في هذا الملف، ولا أريد أن أخلق سابقة في هذا الملف بأن هناك هيئة محكمة بأكملها، وأنا أتحدث هنا عن جنايات بيروت على باب مناقلات، أن تطير بملف مثل هذا الملف. (مش حابب ولا حابب أن أتكلم مع الرئيس الأول أن يقبل أو لا يقبل ويسمي أو لا يسمي). ما يهمني أنا أمر واحد من باب الأداء، وأنا اتكلم معك لأنك إبن الحجار وإبن عبد المنعم الحجار. أنا يهمني، الله يرضى عليك، أن تعطي الأهمية القصوى للملف. وإذا كان لا يوجد عدالة متسرعة، ألا يكون هناك عدالة متأخرة وأن نسير بهذا الملف (بكون ممنونك)”.
ورداً على كلام للحجار عبر الهاتف أجاب جريصاتي:”ريّس، أنا أتكلم وإياك من باب الأملية. وأنت لديك وزير عدل يسهر على حصانتك وضمانتك التي هي دستورية وليست منة مني ولكن هذا الملف يخصنا بالرأي العام أي انا كمواطن لبناني، وفخامة الرئيس كمواطن لبناني، ورئيس الحكومة كمواطن لبناني، ورئيس مجلس القضاء الأعلى كمواطن لبناني وحضرتك كقاضٍ سوف تحكم.
أنا أريد وعداً منك أنه بـ13 (وخبط يده على الطاولة) أن توصلنا إلى خواتيم القضية. أتمنى على سبيل الأداء مع حفظ الألقاب من هاني عبد المنعم الحجار أن يعطيني القرار الذي يليق بالحدث الجلل، بما نشهده بما نعرف عنه بما تتعرض اليه العائلة والأولاد اليوم بالاشرفية من إقصاء من وظائف بفعل تدخلات سياسية. وهذه الأمور بعلمي تغيرت في عهدنا”.
ومرة جديدة كرر الوزير عدم تدخله رغم النبرة الطلبية ورغم التمنيات المتتالية والتعبير عن الرغبات والتذكير بالتشكيلات واستحضار جميع الرئاسات النافذة، وقال:”أنا أريد منك أنت بالذات، لأنني أثق بك. فأنت قاضٍ مميز وأنا كوزيرعدل أتحدث إليك من باب الأمانة والأداء وأنا لا أتدخل إذا سألتني اليوم ماذا يوجد في الملف أقول لك لا أعرف. أنت حبيبي: الله يوفقك وبشوف وجهك الحلو عن قريب. لكن بـ13 بدك تعطيني شيئا نوعيا أكون فخوراً فيه. الله يرضى عليك شكرا لك”.
وبعد انتهاء الاتصال مع القاضي، توجه الوزير إلى رلى بالقول: “Cherie دمعك هون بيسوى كل شي في عدلية”.
وأكد أن القاضي لا يتعرض لضغوط وأن كلامه مع بيطار جاء نتيجة تهديد الأخير له بالرد وقال: “نحن نتحدث عن قاضٍ سوف يكون في مراكز حساسة..ما في قاضي ما بيخاف من الرد فهو أشبه بمحاكمة له يجب أن نصبر حتى 13 حزيران لنصل الى الحقيقة”. وأكد أن” عهد الأمبراطوريات انتهى في عهد الرئيس ميشال عون وطلب من زوجة الريف التماسك والصمود حتى النهاية”.
وبعد الخروج من محضر الوزير، كانت كلمة للمحامي زياد بيطار أكد فيها أن هدف العائلة فقط “الوصول إلى الحقيقة والوصول إلى العدل الذي يطالب به الشعب اللبناني”. وقال: “حصلت اليوم بعض الأمور التي لم تكن على قدر آمالنا. ولكن تلقينا وعداً من الوزير أنه في 13 الشهر، كل الأمور ستعود إلى مسارها القضائي والقانوني ونحن لدينا ثقة كبيرة في القضاء”.
أما رلى، فأكدت أن “قضية جورج، هي قضية كل مواطن يتعرض إلى أشنع أنواع الإجرام في هذا البلد. نحن سنستمر برفع الصوت ونطالب مهما كانت الضغوطات الممارسة من قبل أنطوان الصحناوي بالنهاية هو ليس أقوى من القضاء ولا أقوى من رئيس الجمهورية ولا الحق الذي سينتصر في النهاية”.
في الخلاصة نشير الى أنه منذ بداية الدعوى، رافقت المفكرة فريق الدفاع في جميع خطواته وهي تستمر في ذلك. وإهتمامها في القضية يعود ليس لخطورة الجريمة أو لحصولها في وضح النهار وحسب، ولكن لأن التدخل السابق في القضاء أدى مراراً إلى الإفراج عن الرجل الذي عاد وكرر فعلته بعدما شعر بقدرته على الإفلات من العقاب، ليكتشف جميع الناس أن “التدخل في القضاء يقتل” وأن لا طمأنينة لأي مواطن في دولة تُنتهك فيها استقلالية القاضي. وبالطبع، “المفكرة” تتفهم غضب المواطنة رلى وخوفها وعدم ثقتها ربما بالقضاء.
لكنها بالمقابل، تعيد تحذيرها من تحويل القضايا الشعبية إلى مطية لتشريع التدخل في القضاء، وبالأخص من تحويل وزارة العدل إلى محجّة للضغط على القضاة بشكل أو بآخر. فالإصلاح، الإصلاح الحقيقي لا يتم في التدخل في هذه القضية أو تلك، بل في تعزيز عمل المؤسسات وفي مقدمتها هيئة التفتيش القضائي، الجهاز الوحيد المسؤول عن مساءلة القضاء ضمن اصول تضمن استقلالهم. بقي أن نذكّر وزير العدل أنّ ثقافة التدخل في القضاء هي التي قتلت جورج الريف، وأنّ أيّ تعزيز لهذه الثقافة، حتى ولو تم بحسن نية، يشكل “إبراء” معنوياً لقاتله.