مصر: حزب النظام الجديد وأزمة الهيمنة


2025-01-15    |   

مصر: حزب النظام الجديد وأزمة الهيمنة
جانب من أعمال جمع توكيلات حزب الجبهة الوطنية (من صفحة الحزب على فيسبوك)

في قاعة فندق الماسة المملوك للقوات المسلحة بالعاصمة الإدارية الجديدة، أقيم حفل حاشد في ديسمبر الماضي لإعلان انطلاق “حزب الجبهة الوطنية”، بحضور واسع لشخصيات محسوبة على النظام، منهم وزراء سابقين ولواءات متقاعدين من الشرطة والجيش وأصحاب أعمال وإعلاميين موالين للسيسي، بل وبرلمانيين أعضاء بالفعل في أحزاب أخرى تديرها الأجهزة الأمنية مثل “حزب مستقبل وطن” و”حزب حماة الوطن”. 

وبمجرد الإعلان عن تدشين الحزب، امتلأت وسائل الإعلام، التي يخضع معظمها لشركة خاصة يديرها جهاز المخابرات العامة، بصور توافد أعداد ضخمة من المواطنين على مكاتب الشهر العقاري لتسجيل توكيلات إنشاء الحزب الجديد. وفي الوقت ذاته صرّح ضياء رشوان، عضو الهيئة التأسيسية للحزب الجديد ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية، بأن الحزب يهدف إلى تعزيز الحياة السياسية في مصر. وأكد أن الحزب لا يصنف نفسه كحزب موالاة أو معارضة، بل يسعى لممارسة دور رقابي على أداء الحكومة ودعم القرارات التي تخدم مصالح المواطنين، مشيرًا إلى أن الحزب لا يطمح حاليًا إلى تشكيل الحكومة، وأن الحزب يهدف إلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي في مصر. 

قد تبدو تلك التصريحات سريالية: فلماذا يطلق النظام حزبا جديدا في حين أن له في ترسانته عشرات الأحزاب الورقية التي تديرها الأجهزة الأمنية ولا وظيفة لها سوى تأييد قرارات عبد الفتاح السيسي والإشادة بـ “إنجازاته”؟ وماذا يعني أن يؤسس النظام ورموزه حزباً ثم يزعمون بأنه حزب غير موالٍ أو معارض للسلطة؟ وإذا كان الحزب لا يسعى للسلطة أو تشكيل حكومة، فكيف يرى تعزيز الحياة السياسية؟ ولماذا يعير النظام اهتماماً بإعادة الاعتبار للعمل السياسي في حين قضى العقد السابق كله في تدمير ممنهج للسياسة ومكوناتها؟ 

ولماذا الآن؟ معادلة القمع قبل ثورة يناير 

الرئيس الأسبق حسني مبارك كان حاكمًا استبداديًا حكم مصر بقبضة من حديد، لكن نهجه في الحكم اعتمد بشكل كبير على “إدارة” المعارضة. تواجد آنذاك مجتمع مدني نابض بالحياة، كان بمثابة عازل بين الدولة ومواطنيها. وقمع واحتواء المعارضة لم يكن حكرًا على الأجهزة الأمنية فقط، بل أُوكل إلى مجموعة واسعة من المؤسسات المدنية. صحيح أن هذه المؤسسات كانت قد بدأت تُفكك جزئيًا، ولم تكن بالقوة التي تمتعت بها تلك التي أنشأها مؤسس جمهورية الضباط، جمال عبد الناصر، لكنها كانت لا تزال فعّالة في حماية الدولة من التهديدات الوجودية.

فإذا وقعت فظائع في فلسطين، كان مبارك يعتمد على الإخوان المسلمين لامتصاص الغضب الشعبي في مصر بتنظيم احتجاجات ضد إسرائيل تُحصر في المساجد وحرم الجامعات وساحات النقابات المهنية، من دون أن تمتد إلى الشوارع أو تتحول إلى هتافات ضد مبارك وتواطئه. وإذا ارتفعت أسعار السلع الأساسية، كان بإمكانه الاعتماد على السلفيين لتوجيه الغضب بعيدًا عن النظام من خلال اعتلاء المنابر في صلاة الجمعة وإلقاء اللوم على النساء غير المحجبات أو المسيحيين. وإذا اندلعت إضرابات عمالية، كان نظام مبارك يعتمد على الاتّحاد العامّ لنقابات عمّال مصر التابع للدولة لكسر الاعتصامات والسيطرة على أماكن العمل.

علاوة على ذلك، كان هناك “الحزب الوطني الديمقراطي” الحاكم، الذي كان يفتقر إلى الأيديولوجية والقوة مقارنة بـ “الاتحاد الاشتراكي العربي” في عهد عبد الناصر، لكنه مع ذلك كان له وجود في كل حي في مصر. هذا الوجود ساعد في فرض هيمنة الدولة، واحتواء النزاعات المحتملة، ونقل الشكاوى المحلية إلى صناع القرار في النظام، وتعبئة وحشد الجماهير لتأييد النظام سواء في فعاليات عامة أو صناديق الاقتراع.

بعبارة أخرى، كان هناك شبكة معقدة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية يعتمد عليها مبارك لتكريس هيمنة الدولة على المجتمع، ولإدارة صراعه مع المعارضة، قبل أن يضطر إلى اللجوء إلى قوات الأمن لقمعها. وكان العنف الذي تمارسه الدولة في عهد مبارك محسوبًا إلى حد كبير، ويعتمد على مستوى التهديد الذي يُعتقد أنه يواجه النظام. 

مكّنت هذه المعادلة نظام مبارك من الاستمرار لثلاثة عقود. لكن في نظر السيسي ولواءاته، كان هذا النهج بالضبط هو ما أدى في النهاية إلى سقوط مبارك واندلاع ثورة 2011.

الثورة المضادة وتدمير السياسية

في نظر السيسي ورفاقه، وقعت الثورة لأن مبارك كان “متساهلًا” مع المعارضة والإعلام، ولم يلجأ للحزم واعتمد على الاحتواء لا القمع منذ البداية. ولم تؤدِّ تجربة المرحلة الانتقالية بين 2011 و2013 إلا إلى ترسيخ هذا الاقتناع. إذ أنّ الصفقة “الفاوستية” التي عقدها الجنرالات مع الإسلاميين – لتفريغ الثورة من زخمها مقابل انضمامهم إلى التحالف الحاكم – لم تفضِ إلى شيء وزادت من لهيب الثورة آنذاك. فعلى سبيل المثال، في عام 2012 وحده، سجّل المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكثر من 3800 إضراب عمالي وتحرك اجتماعي في البلاد، وهو عدد يفوق إجمالي الاحتجاجات التي شهدتها مصر خلال العقد الممتدّ من 2000 إلى 2010.

وهنا قرّر الجنرالات إخماد حراك الشوارع بالقوة مرة واحدة وإلى الأبد “لحماية الدولة من الفوضى” – أو ما هو أسوأ، من ثورة جديدة قد تهدد امتيازاتهم. بلغ عدد القتلى في يوم واحد، 14 أغسطس 2013، ما يعادل تقريبًا إجمالي عدد الوفيات خلال حملة القمع في التسعينيات في عهد مبارك. وخلال الأشهر السبعة الأولى بعد انقلاب السيسي، أدى عنف الدولة إلى مقتل أكثر من 3200 شخص.

كان الحجم الهائل لمذبحة رابعة والمجازر التي تلت الانقلاب رسالة واضحة من الجنرالات إلى الشعب: أن العمل الجماعي المستقلّ غير مرحّب به وغير مسموح به على الإطلاق. بينما شهدت البلاد أكثر من 4500 احتجاج اجتماعي خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2013، انخفض هذا الرقم بشكل كبير إلى 665 خلال النصف الأخير من العام. شكل شلال الدم ذاك الميثاق الاجتماعي للنظام الجديد، أو “الجمهورية الجديدة” كما يحلو للسيسي تسميتها. 

الميثاق الاجتماعي قائم على القمع وفقط. حكم سيسي مصر خلال العقد الماضي بدون حزب حاكم، ببرلمان صوري، بدون مجتمع مدني يشكل عازلًا بين الدولة والمجتمع، بدون معارضة سياسية، بدون نقابات مستقلة، بدون أي كيان مستقل عن الدولة أو على الوجه الخصوص أجهزتها القمعية (الجيش، والشرطة، والمخابرات العامة). 

وعوضا عن ذلك، تدير تلك الأجهزة شؤون المجتمع وأمور السياسة والاقتصاد منفردة بالقرار وبدون أيّ محاسبة. 

أزمة الهيمنة

هذه المعادلة كان يمكن أن تنجح طالما حظي السيسي بدعم إقليمي كامل من مشيخات الخليج العربي، التي كان حكامها سعداء بإغراقه بمليارات الدولارات لسحق الثورة وجماعة الإخوان المسلمين؛ وطالما وقع المجتمع المصري ضحية لذعر جماعي ناتج عن الثورة و”الحرب على الإرهاب” التي تلتها. كانت شرائح من الطبقة الوسطى المصرية والنخب الحاكمة على استعداد لعقد صفقة “فاوستية” مع الجيش، تغض فيها الطرف عن الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان مقابل الاستقرار والازدهار الاقتصادي. لكنهم لم يحصلوا على أي شيء.

استيقظ السيسي في عام 2022 ليجد أن سياساته الكارثية ومشاريعه الوهمية قد دفعت البلاد إلى أزمة ديون غير مسبوقة، وسط تململ داعميه الخليجيين. وقد أدى انخفاض قيمة العملة المصرية والتضخم المتصاعد إلى فقدان الشرعية تقريبًا بين جميع الطبقات الاجتماعية. الدكتاتور يدرك تمامًا أن شعبيته قد وصلت إلى الحضيض. تنفّس النظام الصعداء بالدعم المالي الذي تلقاه من الخليج والغرب بعد اندلاع حرب الإبادة في الغزة، فكل القوى الإقليمية والدولية مرتعبة من إمكانية عدم الاستقرار في المنطقة وانفجار سياسي جديد مثل 2011. ولكن الثمن الذي يدفعه السيسي مقابل الديون يتضمن بيع أصول الدولة بأبخس الأثمان للأجانب وفرض سياسات تقشف تعصف بالطبقات الفقيرة في مصر. 

وهنا أدرك السيسي أن عند أي انفجار اجتماعي لن تكون هناك أيّ مصدّات أو عوازل تحمي دولته. ذلك هو السياق الذي يجب أن نفهم من خلاله دعوته لل “حوار الوطني” مع ما تبقى من المعارضة الكسيحة، أو تشجيعه قيادات محلية موالية على إطلاق “اتحاد القبائل العربية والعائلات المصرية” والذي أشرف على إطلاق “حزب الجبهة الوطنية” الجديد. 

يحاول السيسي جاهدا استنساخ “حزب وطني ديمقراطي” جديد يكرس هيمنة الدولة بدون الحاجة إلى الدفع بالقوات الأمنية والجيش إلى الشوارع لحماية النظام في حالة القلاقل المرتقبة. وهو يعلم جيدا أن الأحزاب الكارتونية التي أنشأها لا يعول عليها وعلى رأسهم “حزب مستقبل وطن”، وهو الحزب الذي تتحول مؤتمراته لتأييد السيسي إلى مظاهرات مناهضة للنظام، وتتحول محاولته للسيطرة على النقابات المهنية إلى هزيمة مروعة لمرشحي النظام مثلما حدث في نقابة الصحفيين والمهندسين.

“إعادة الاعتبار للسياسة” لا يقصد بها عودة الحياة النيابية أو سجالات المعارضة أو فتح المجال العام للتنظيم أو نقد الرئيس، بل محاولة يائسة لخلق أداة سياسية تستطيع امتصاص غضب الشارع إذا ثار. 

وسيخوض الحزب الجديد انتخابات البرلمان ومجلس الشيوخ هذا العام، ومن المتوقع أن يضطلع بمهمة في غاية الخطورة، فسيعمل السيسي بعناية على هندسة تشكيل البرلمان ومجلس الشيوخ المقبلين، للإشراف على تعديل الدستور لضمان بقائه في السلطة بعد عام 2030.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني