“
خمسة أشهر مرت على آخر دفعة مالية تلقاها موظفو تلفزيون المستقبل قبل صرفهم في أيلول الفائت، وهي عبارة عن نصف راتب. ومنذ حينها لم يرى هؤلاء أي ليرة. فوصلت أحوال معظم المصروفين الذين يصل عددهم إلى 380 مصروفاً إلى تدهور مالي خطير، بعدما قرر مالكه رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري في 18 أيلول، وقف العمل في التلفزيون جراء الأزمة المالية التي يواجهها منذ العام 2015. وإذ تعهد الحريري حينها بتسديد الحقوق المادية للموظفين، تبعه وعد من الإدارة بدفع قيمة من المستحقات نهاية شهر أيلول وجدولة الحسابات المتبقية، واليوم وقد مر نحو شهرين على الوعد، تمتنع الإدارة عن تسديد رواتبهم المتأخرة التي زادت عن 20 شهراً، غير المستحقات وتعويضات الصرف.
أمس، توجه عشرات من المصروفين إلى مبنى التلفزيون في سبيرز – بيروت، وهمومهم على وجوههم. تمنوا أن يحصلوا على جواب بما يخص مستحقاتهم المالية، إلا أن ما تلقوه “لا جواب اليوم”. فنفذوا اعتصاماً أمام المبنى، وقفوا وقطعوا الطريق جزئياً، وتشاوروا بين بعضهم البعض عن الغد، كيف سنواجه الإدارة، هل ننفذ اعتصاماً مفتوحاً؟ سأل أحدهم. آخر اقترح نصب خيمة على باب المؤسسة والتصعيد والضغط على الإدارة لتنفيذ الوعود، وانتهت المشاورات إلى الانتظار لـ 24 ساعة، على أن يعودوا نهار الثلاثاء (اليوم) وتنفيذ اعتصام ثانٍ.
أوضاع مالية صعبة
والحال أن ما يواجهون جراء أوضاعهم المالية بات لا يُحتمل. منهم من طردوا من منازلهم المستأجرة، بعدما رمى المؤجر “العفش” خارجاً ورفع دعوى عليهم. آخرون لا يهدأ هاتفهم، اتصالات من المصارف التي استدانوا منها قروضاً. وآخرون خسروا أصدقائهم وأقاربهم الذين ساندوهم أكثر من مرة وأدانوهم أموالاً بقوا عاجزين عن ردّها. ورسالة، “نذكركم باستحقاق سند من القرض السكني، عليك تسديده لتجنب عمولة تأخير بقيمة 25 دولار أميركياً”، مرسلة عدة مرات لهاتف العديد من المصروفين، الذين يخشون كل يوم أن يأتي المصرف و”يشلحنا منازلنا ونبيت في الشارع”. ينقل أحدهم بأن زميله تنقل بين أكثر من ثلاثة منازل مستأجرة، وهو يواجه ثلاث دعاوى قضائية بسبب عدم تمكنه من دفع إيجار منزله. وحالات تفكك أسري واجهت العائلات، إذ حصلت عدة حالات طلاق بين الأزواج الذين باتت ظروفهم المادية النقاش اليومي الوحيد الذي لا حل له. وعن إمكانية إيجاد فرص عمل بديلة، فالأمر أشبه بالمستحيل في بلد يُعتبر فيه سوق العمل في الإعلام المتلفز أشبه بالمحدود، عدا عن أنه غالباً ما ينحصر بمرجعيات سياسية. فيشكو أحد المصروفين للمفكرة بأن “نطاق خبرتي هو في مجال الإعلام، من سيوظفني وقد تقدمت بالعمر، غير أن خلفيتي في تلفزيون المستقبل قد لا تُشجع بعض التلفزيونات على توظيفي، خاصة تلك التي تتعارض سياستها مع سياسة مالك تلفزيون المستقبل”.
حتى أن إمكانية إيجاد مخرج من أزمتهم عبر سحب تعويضهم من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لم يجد نفعاً، فمن ذهب منهم إلى الصندوق تفاجأ بجواب: “المؤسسة لم تدفع اشتراكاتها في الصندوق، فلا يُمكن سحب التعويض”.
يتأسف أحد الموظفين الذي عمل لعشرات السنين في التلفزيون على التخلي الذي يشعر به من قبل الإدارة، قائلاً: “نحن الجندي المجهول الذي وقف إلى جانب الحريري في أصعب المحن، والإدارة تتخلى عنا”. أما بلال العرب، عمل لـ 14 عاماً في التلفزيون، يقول: “حراكنا ليس موجهاً ضد شخص معين، نحن نتكلم مع الإدارة المتوجب عليها أن تحفظ حقوقنا، وليس استهدافاً للرئيس الحريري”. ويلفت أحمد تميم، الذي أمضى 12 عاماً من العمل في التلفزيون إلى ” أننا نريد أن تنظر الإدارة إلينا بعين الإنسانية، فالأمر يتعلق بلقمة عيشنا، ليس لدينا موارد مالية أخرى ومن نستدين منهم المال ما عادوا يرغبون بمساعدتنا، لأننا لم نثبت مصداقية معهم لجهة قدرتنا على تسديد الديون”.
سنون من الصبر والولاء
الحقيقة أن هؤلاء الذين ضاعت سنون من عمرهم في هذه المؤسسة، جاهدوا في سبيلها، وتحملوا محنة انقطاع رواتبهم وتجزئتها لخمس سنوات خلت. فمنذ بداية العام 2015 تنقطع الرواتب لأشهر. ومؤخراً بدأت تتجزأ لنصف راتب كل 50 يوماً، فتراكمت حقوق العاملين في التلفزيون حتى وصلت لنحو عشرين راتباً غير مدفوع. تحملوا الأزمة آملين أن يعود “المستقبل” إلى عهده، التلفزيون الأشهر في العالم العربي، الذي تميز بمحتواه العصري منذ أن أسسه الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 1993، ببرامجه الترفيهية، واتساع شبكته الإعلامية في العالم العربي والخارج. لكن الأزمة المالية التي عصفت به عام 2015، دفعت المؤسسة إلى صرف المئات من الموظفين، خاصة الذين صرفوا عام 2017. هؤلاء واجهوا تلكؤ الإدارة عن تسديد التعويضات، حيث تم طرد نحو 150 موظفاً بشكل تعسفي وفي وقت لاحق طُرد نحو 50 آخرين. حينها، وقعوا على عقود بالتراضي تضمن لهم الحصول على تعويضات مالية بقيمة 16 شهراً بدل الصرف التعسفي، بالإضافة إلى رواتبهم المتأخرة التي زادت آنذاك عن 12 شهراً. اقتطعت منها الإدارة ضريبة تصاعدية تعدت ما قيمته أربعة رواتب، على أن يتم الدفع على أربع دفعات قبل نهاية العام 2017. لكن إدارة التلفزيون تخلفت عن تنفيذها. فانتهى عام 2018 من دون أن يتقاضى المصروفون أي دفعة. فلجأوا إلى تشكيل لجنة، لمتابعة القضية، ونفذوا الاعتصامات المتكررة أمام مبنى التلفزيون. وانتهى الحراك بتسوية فرضتها إدارة التلفزيون بأن تدفع المستحقات بالتقسيط، تم انهاؤها في أواخر العام 2018.
التلفزيون استمر بعدها بالمتبقي من الموظفين الذين يصل عددهم إلى 380 موظفاً، وراهنت الإدارة على صبرهم وولاءاتهم لإرث الرئيس الشهيد، وعلى الفائض من الوعود لتسكينهم، التي حاولت عبرها كبح أي توجه للإضراب. إلا أن أول إضراب نفذه الموظفون خلال أعوام الأزمة كان في شهر آب 2019، واستمر إلى أن أعلنت الإدارة وقف البرامج والنشرات الإخبارية، وأعطت الموظفين إجازة مفتوحة انتهت بإعلان إغلاق التلفزيون في 18 أيلول. ومنذ حينها، تستمر شاشة التلفزيون ببث البرامج المعادة، وهي مرحلة انتقالية أعلنت عنها الإدارة في بيان لها بتاريخ 19 أيلول، تترافق مع إعادة هيكلة للمؤسسة وتهيئة الأوضاع لحلة تلفزيونية واخبارية جديدة خلال الأشهر المقبلة”. وهذه الخطة لم تظهر ملامحها حتى الساعة، في ظل غياب التلفزيون عن الأحداث التي تعم البلاد من انتفاضات شعبية بالآلاف على صعيد الوطن.
وكانت الإدارة قد وعدت الموظفين المصروفين شفهياً بأنها ستدفع 10% من التعويضات وبجدولة التعويضات قبل نهاية شهر أيلول الماضي، على أن يتم تقسيط التعويضات المتبقية والرواتب المتأخرة على 24 شهراً. انتهى شهر أيلول، من دون أي دفعة مالية، على العلم أن آخر نصف راتب تقاضاه الموظفون كان في شهر حزيران، أي 5 أشهر وجيوبهم فارغة. وكان المصروفون حاولوا ممارسة الضغط على الإدارة قبل انقضاء مهلة الشهر القانونية للتقدم بشكوى أمام مجلس العمل التحكيمي، في 15 تشرين الأول، وتوعدوا بتنفيذ اعتصام في 17 تشرين الأول، لكن انفجار الانتفاضة الشعبية حالت دون تنفيذه.
وأمام تدهور عامل الثقة بإيجاد تسوية مع إدارة التلفزيون بعيداً عن القضاء عند البعض منهم، لجأ نحو 40 موظفاً لحفظ ملفات لهم في مجلس العمل التحكيمي لتقديم شكاوى. أما الموظفون الباقون، الذين تمسكوا بالاستمرار بالضغط على الإدارة بدلاً من الذهاب إلى القضاء، فقد رجح بعضهم أن ينتهي اللجوء إلى القضاء إلى حكم بتعويض أقل مما وعدوا به. إذ تناقلت معلومات على مسامعهم بأنه لو ذهب المصروفون إلى مجلس العمل التحكيمي فلن تلتزم الإدارة بأن تدفع أكثر من ستة أشهر تعويض، بينما نية المؤسسة خارج القضاء هي أن تعطيهم 12 شهر تعويض نهاية خدمة و4 أشهر تعويض صرف، بالإضافة إلى الرواتب والمستحقات المتأخرة، هذا للموظفين الثابتين. أما بالنسبة للموظفين المياومين أو الـ Freelancers، فهؤلاء على وعد بأن تدفع لهم الإدارة مستحقاتهم المتأخرة، بالإضافة إلى شهر تعويض عن كل عام، لكن حده الأقصى ستة أشهر، مع العلم أن الإدارة تعاملت معهم كموظفين، يعملون بدوام كامل بشكل يومي على مدى سنوات.
تسوية مشابهة اضطر أن يسير فيها موظفو جريدة المستقبل المصروفون عام 2017، ثابتين ومتعاقدين ومتقاعدين، أولئك وقعوا لدى صرفهم على أوراق تفيد بأن الإدارة ستدفع خلال ثلاثة أشهر بالرواتب المكسورة (نحو 17 شهراً) مع 4 أشهر بدل إنذار وتعويضات الصرف 12 شهراً بالإضافة إلى بدل الإجازات السنوية والمخصصات المدرسية. إلا أن المهلة انتهت دون تنفيذ ما ذكر. عندها لجأ المصروفون إلى وزارة العمل، ونظموا الاعتصامات، وخلصت الوساطة بعد مناقشات طويلة، بين وزارة العمل واللجنة التي عينها الحريري لمتابعة الموضوع، إلى تجزئة تعويضات الموظفين وتقسيمهم إلى ثلاث فئات: الموظفون المثبتون، والمتقاعدون (الموظفون من تجاوزوا 64 عاماً)، أما الفئة الثالثة فهم المتعاقدون وهؤلاء امتنعت الجريدة عن إدراجهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وقد عملوا لسنوات طويلة في الجريدة بدوام كامل ويومي.
وجاءت التسوية لتعطي الثابتين رواتبهم المتأخرة بالإضافة إلى تعويضات صرف، شهر عن كل سنة، سقفها 12 شهر. والمتعاقدين والمتقاعدين 3 شهور تعويض فقط بالإضافة إلى الرواتب المتأخرة، على أن يتم دفع المستحقات تقسيطاً على 20 شهراً.
“