“اشتقت إلى البحر، زرته قبل أسابيع، شعرت بالخذلان وكأنّني اليوم عرفت بأنّني مشلول، حياتي لن تعود إلى ما كانت عليه، ومع غياب أي دعم، تتحوّل الإعاقة إلى سجن، وهمّ علينا وعلى من حولنا، قتلونا مرّتين، مرّة حين حوّلونا إلى أشخاص من ذوي الإعاقة ومرّة عندما تركونا لمصيرنا، محظوظ من مات مرّة واحدة”.
مستعينًا بعكّازه يخرج خالد دياب (55 عامًا) من منزله الأرضي في مرآب سيّارات أحد المباني في حارة الناعمة إلى باحة جانبيّة يضع فيها كنبة تحوّلت إلى ملاذه الوحيد. “هذه هي المسافة التي أستطيع مشيها، من باب المنزل إلى الباحة، بضع خطوات وبعدها تتيبّس رجلاي، ولا أقوى على الحركة” يقول.
على هذه الكنبة يُمضي خالد معظم نهاراته التي يصفها بالطويلة جدًا، يقضيها منتظرًا الغروب حتّى يأخذ جرعات إضافيّة من المسكّن تساعده على النوم لساعات يتمنّاها طويلة. ساعات يهرب عبرها من واقعه الجديد، يحلم ربما بالبحر الذي كان يقصده يوميًا لصيد السمك الذي كان باب رزقه، أو تجتاحه ربما ذكريات ذلك اليوم الذي غيّر حياته، يوم الرابع من آب 2020.
في ذلك اليوم، قصد خالد سوق السمك في الكرنتينا، ليس بهدف بيع السمك الذي يصطاده كالعادة، بل لزيارة أخيه بهدف استلام كرسي متحرّك لابنه الذي ولد يعاني من مشاكل صحيّة أعاقته من الحركة فيما بعد. سمع خالد أصوات سيّارات الإطفاء وانفجارات خفيفة كأنّها أصوات مفرقعات، عرف أنّ حريقًا شبّ في منطقة المرفأ، وبعدها سمع صوت انفجار. هرع نحو سيّارته وما أن فتح الباب حتّى دفعه عصف الانفجار الثاني إلى الداخل. “شعرت وكأنّ هناك زلزالًا أو إعصارًا، لم أشعر بشيء سوى بدم يسيل من وجهي” يقول.
بعدما مسح خالد وجهه ظنّ أنّه نجا وأنّ إصابته طفيفة جدًا لا تحتاج إلى متابعة طبيّة، بعد أيّام بدأ يشعر بأوجاع في أذنيه فذهب إلى إحدى المستشفيات الميدانيّة التي افتُتحت حينها في الكارنتينا ليكتشف أنّه فقد السمع في أحد أذنيه بنسبة 60%. لم تقف الأمور عند هذا الحد فبعد أسابيع بدأ يشعر بألم في أسفل ظهره وعدم قدرته على التحكّم بالجزء السفلي من جسده ليتبيّن أنّ الدفع يوم الانفجار وارتطامه بباب سيّارته تسبّبا له بإعاقة حركيّة سترافقه مدى حياته.
لم يكن تشخيص مرض خالد سهلًا فدونه كان مسارًا طويلًا من المراجعات والصور والفحوصات التي كلّفته آلاف الدولارات، وبعدها بدأ المسار العلاجي الذي تخلّلته عمليتان جراحيتان. يتحدّث دياب عن صعوبة تأمين كلفة العلاج، وكيف كان يبيع مقتنيات شخصيّة أساسيّة، وكيف كانت قيمة ما يجمعه تتراجع في ظل عدم ثبات سعر الصرف.
صحيح أنّ دياب حصل على بطاقة معوّق في العام 2022 التي بموجبها يجب أن تغطّي الوزارة كلفة علاجه بنسبة 100%، إلّا أنّ الأمر لم يحصل لأنّ هذه التغطية لا تشمل المراجعات الطبيّة وعدد من العمليّات الجراحية، فاضطّر إلى تأمين علاجه ولاسيّما كلفة العمليتين من بيع سيّارته وأدوات منزليّة حصل عليها كمساعدة أصلًا بعد تفجير المرفأ من إحدى الجمعيّات. وكلّفته العمليّة الأولى 850 دولارًا والثانية 1600.
مسار العلاج الطويل الذي يخوضه دياب يتطلّب أيضًا الالتزام بلائحة طويلة من الأدوية التي يحتاجها بشكل يومي منها مغذٍّ للعصب، وتبلغ كلفة أدويته حوالي 200 دولار، ولكنّه قرّر اختصارها وبسبب ارتفاع كلفتها بمسكّن يخفّف عنه آلام لا تفارقه. “حتّى المسكّن والذي يكلّفني 800 ألف ليرة كلّ 5 أيّام أجد صعوبة في تأمين كلفته، ولكنّه يخفّف عني ألمًا يجعلني أحيانًا أتمنّى الموت”، يقول خالد.
حاليًا يحتاج دياب إلى عمليّة جراحيّة ثالثة لتحرير العصب أسفل ظهره، تبلغ كلفتها ثلاثة آلاف دولار. لن تُعيد هذه العمليّة قدرة دياب على المشي، ولكنّها وحسب ما أخبره الأطباء ستخفّف من آلامه وتمنع حصول المزيد من المضاعفات.
يحاول دياب تأمين المبلغ المطلوب لإجراء العمليّة، ولكنّ الطريق تبدو طويلة جدًا في ظلّ عدم وجود أيّ دعم من قبل وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية. “إحدى الجمعيات أعطتني 500 دولار فشعرت بأمل كبير، ولكن بعدها أعطتني جمعية أخرى 70 دولارًا، وصندوق الزكاة 40 دولارًا، ما جعل رحلة الوصول إلى 3000 دولار طويلة جدًا وربما مستحيلة”، يقول.
ما جمعه دياب ولو كان قليلًا حرمته منه الدولة أيضًا، وذلك لأنّه اضطرّ لصرف هذا المبلغ على علاج ابنه من الأشخاص ذوي الإعاقة بعدما أصبحت إحدى رجليه مهدّدة بالبتر. “الدولة وعبر التخلي عن مسؤولياتها تجاه ابني وعلاجه، بدت وكأنّها ليس فقط لا تساعدني في رحلة علاجي بل وكأنّها تقطع الطريق عليّ”.
قبل أسابيع أصرّ دياب على ابنه أن يأخذه إلى البحر، ظنّ أنّ بعض الخطوات التي يستطيع مشيها قد تُتيح له ممارسة الصيّد ولو لدقائق “لم أستطع، شعرت بالخذلان وكأنّني اليوم عرفت بأنّني مشلول، حياتي لن تعود إلى ما كانت عليه، ومع غياب أي دعم، تتحوّل الإعاقة إلى سجن وهمّ علينا وعلى من حولنا، قتلونا مرّتين، مرّة حين حوّلونا إلى أشخاص من ذوي الإعاقة ومرّة عندما تركونا لمصيرنا، محظوظ من مات مرّة واحدة” يقول.