الاطلاع على واقع محاكم تونس، سواء في العاصمة أو الجهات، بعد زهاء شهرين من انطلاق السنة القضائية 2024/2025 يكشف عن اضطراب مُعاين في سير العديد منها وذلك على وقع عدم إصدار الحركة القضائية السنوية بعد التجميد الفعلي للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، مقابل تعبيد الطريق لمواصلة إصدار وزارة العدل لمذكرات العمل في التعيينات والنقل بتعلّة مواجهة هذا الفراغ المؤسساتي.
وإذ تترجم هذه المذكّرات حقيقة هندسة السلطة التنفيذية للمسارات المهنية للقضاة بما يمسّ من استقلالية القضاء، فإنها فشلت في معالجة الخلل في توزيع الإطار القضائي بين المحاكم من جهة أو حسن إدارة المرفق القضائي من جهة أخرى. وهو ما دفع لتصاعد احتجاجات الفروع الجهوية للهيئة الوطنية المحامين. مشهدية لازالت مستمرّة في خضمّ استمرار هشاشة مقومات استقلالية القضاء.
نشرة بيانات فروع المحامين كاشفة للمشهد
تكثّفت منذ بدء السنة القضائية الجديدة منتصف شهر سبتمبر 2024 البيانات الاحتجاجية للفروع الجهوية للمحامين خاصّة في الجهات بسبب نقص القضاة على نحو أثّر وفق تأكيدهم على سير المرفق القضائي، وكلّ ذلك على نحو المفصّل كما يلي:
- فرع المحامين بمدنين: احتجّ في بيان بتاريخ 10 سبتمبر 2024 من مذكرات العمل التي أدت لنقلة عديد القضاة دون تعويضهم بما فاقم النقص في الإطار القضائي “ما يهدّد انعقاد الجلسات”.
- فرع المحامين بباجة: عبّر في بيان بتاريخ 18 سبتمبر 2024 عن قلقه إزاء النقص الحاصل في الإطار القضائي بالمحكمة الابتدائية بباجة رغم انطلاق السنة القضائية الجديدة خاصة على مستوى النيابة العمومية ممّا من شأنه تعطيل المرفق القضائي للعدالة وتراكم الشكايات دون البتّ في أقرب الآجال.
- فرع المحامين بصفاقس: دعا وزارة العدل بتاريخ 30 سبتمبر 2024 للتدارك الفوري للنقص الحاصل في عدد القضاة والخطط القضائية في محاكم صفاقس “تفاديًا لشلل مرفق العدالة”.
- · فرع المحامين بقفصة: نظّم اجتماعًا عامًا بالمحامين بتاريخ 30 سبتمبر 2024 لـ”ضبط رزنامة التحركات الاحتجاجية على المشاكل التي يعاني منها المرفق القضائي”. ثم ندّد في بيان بتاريخ 21 أكتوبر 2024 بنقلة رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف بموجب مذكرة عمل “على خلفية حكم قضائي أصدرته الدائرة”، مؤكدًا رفضه القطعي لآلية مذكرات العمل دون عن انعكاساته الوخيمة على تركيبة الدوائر القضائية بدائرة قضاء محكمة الاستئناف بالجهة.
- فرع المحامين سيدي بوزيد: دعا في بيان بتاريخ 4 أكتوبر2024 القائمين على المرفق القضائي لعقد اجتماع بخصوص “النقص الكبير والفادح” في الإطار القضائي نيابة ومجلسًا وهو نقص يضاف إلى النقص في إطار الكتبة في المحكمة الابتدائية.
- فرع المحامين بجندوبة: دعا سلطة الإشراف في بيان بتاريخ 8 أكتوبر 2024 إلى دعم المحكمة العقارية بالجهة بالإطار القضائي والإداري والعملة.
فروع أخرى تصعّد: َإضرابات ومقاطعات
عدد من الفروع الجهوية، من جهتها، لم تكتف بإصدار بيانات احتجاجية بل أعلنت أن تردّي المرفق القضائي دفعها لإعلان سلسلة من التحركات بأشكال مختلفة على النحو الآتي:
- فرع المحامين بالمنستير: نظم وقفة احتجاجية يوم 30 أكتوبر 2024 “لإنارة الرأي العام حول وضع مرفق العدالة بالجهة” كمقاطعته للدوائر الجناحية بالابتدائية ولاحقًا امتدّت المقاطعة للإعانات العدلية والتساخير لدى التحقيق والدائرة الجنائية. وكان ممّا استعرضه في بيانه المؤرخ في 28 من نفس الشهر عدم الملائمة في توزيع الإطار القضائي، وما وصفه بالتذبذب في التعيينات على مستوى رئاسات الدوائر بالمحكمة الابتدائية بما يهدد استقرار التوجهات القضائية.
- فرع المحامين ببنزرت: نظّم بدوره وقفة احتجاجية بتاريخ 8 نوفمبر 2024 بسبب “تردّي الخدمات بالمرفق القضائي”، مع مقاطعته جميع الدوائر المدنية والتجارية وكذلك مكاتب التحقيق بابتدائية بنزرت 23 نوفمبر 2024. وكان قدّ ندّد في بيانه بتاريخ 5 نوفمبر 2024 بالنقص الفادح في الإطار القضائي بعد نقلة عديد القضاة وعدم تعويضهم بالعدد الكافي وخاصّة على مستوى النيابة العمومية، متحدثًا عن “شلل في مستوى منظومة خلية الفصل السريع والشكايات دون عن تأخّر البتّ في حالات التلبس وتعهيد قضاة التحقيق بالملفّات في أوقات متأخّرة”.
- فرع المحامين بالقصرين: خاض، من جهته، إضرابًا عامًا حضوريًا بتاريخ 21 نوفمبر 2024 مع برمجته لإضرابين آخرين الأول يومي 10 و11 ديسمبر 2024 والثاني من 2 إلى 6 جانفي 2025، على خلفية “احتقار الجهة”. وفصّل الفرع أن النقص في الإطار القضائي بالمحاكم يقارب 15 قاضيًا بين المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف، ملاحظًا بالخصوص الشغور في خطة الوكيل العام وخطة مساعد له ما “أدى إلى الدوس الإجرائي والضرب بعرض الحائط بالقوانين” وفق تصريح صحفي لرئيس الفرع الذي أفاد، في بداية العام الحالي، إلى معاينة تقلّص عدد مساعدي وكيل الجمهورية من 5 مساعدين عام 2000 إلى مساعدين اثنين فقط عام 2023.
- فرع المحامين بنابل: أعلن، كذلك، تنظيم وقفة احتجاجية بتاريخ 28 نوفمبر 2024 “لإنارة الرأي العام حول مرفق العدالة بالجهة” مع مقاطعة الدوائر الجناحية بالجهة وجلسات محاكم ناحية نابل وناحية منزل تميم وفق رزنامة سيتم ضبطها. وكان قد استنكر في بلاغه بتاريخ 18 نوفمبر 2024 تواصل الشّغور برئاسة المحكمة الابتدائية بزغوان وشغور خطة وكيل الجمهورية بها ونقص عدد القضاة في خطط وكلاء الرئيس ما انجرّ عنه تعطيل فصل القضايا وتوجيه الملفات وتلخيص الأحكام. كما تحدث عن تواصل الشغورات في خطط مساعدي وكيل الجمهورية بابتدائية قرمبالية “ما تسبّب في شلل تام وتعطيل خلية الفصل السريع والبت في الشكايات والمحاضر”.
ضبابية وتحفيز مناخ الاحتجاج
لعلّ عنوان الضبابية في إدارة المرفق القضائي هو مثلًا عدم إصدار المحكمة الابتدائية بتونس بالخصوص، أكبر محاكم البلاد، توزيع العمل الداخلي صلبها، على النحو المعتاد في مفتتح كل سنة قضائية، وذلك ليس فقط لعدم صدور الحركة السنوية التي وازتها مذكرات الوزارة، ولكن أيضًا وبالأساس في ظل التغييرات الدائمة في تركيبة الدوائر، مدنية كانت أو جزائية، سواء على مستوى رئاستها أو عضويتها. على نحو حال دون ضمان عنصر الاستقرار للقضاة أنفسهم قبل غيرهم.
وفي هذا الجانب، لازالت الدائرة القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بتونس العاصمة مختلّة منذ العام الفارط بسبب افتقادها للنصاب بحكم التغييرات التي شملت أعضائها. وهو إفراغ مؤداه تجميد المعالجة القضائية لملفات العدالة الانتقالية، التي لازالت تنتظر، حتى الساعة، صدور أول حكم منذ أول إحالة قبل زهاء 6 سنوات.
وفي جانب آخر، حفّز النقص اللافت في الإطار القضائي أيضًا في تحشيد الجوّ الاحتجاجي في عدة فروع جهوية للمحامين، وبالخصوص في استثارة المطلبية التقليدية بخصوص تردي المرفق القضائي. إذ سلّط فرع القصرين بالخصوص الضوء على وضعية المحكمة الابتدائية بالقصرين التي تعود لستينيات القرن الماضي، وكذلك فرع نابل بخصوص مقرّ ناحية منزل تميم بعد غلق المقر القديم للصيانة في ظل عدم البدء في أشغاله دون عن توقّف أشغال مقر ناحية قرمبالية. فيما لازال فرع المحامين بالمهدية يطالب بتركيز محكمة الاستئناف بالجهة الذي صدر أمر إحداثها من عام 2018، وكان قد خاض خلال السنة القضائية الفارطة عديد الإضرابات لهذا الغرض.
هذا وكانت لمعضلة الاكتظاظ على سبيل المثال أحد الأسباب الرئيسية الدافعة لمقاطعة فرع المحامين بالمنستير للدوائر الجناحية بالمحكمة الابتدائية نهاية أكتوبر المنقضي بعد معاينة أن عدد الملفات أصبحت تفوق الألف بالجلسة الواحدة، وقد تمّ تباعًا تعليق المقاطعة بعد الاتفاق مع الوكيل العام باستئناف المنستير على تسقيف عدد القضايا المعينة بالجلسة الواحدة بما لا يتجاوز 400 ملف تكريسا لضمانات المحاكمة العادلة.
مذكرات العمل: معضلة المعيار والتوزيع
في المحصّلة، إن النقص في عدد القضاة في عديد المحاكم بالجهات أو سوء توزيعهم مردّه الظّاهر هو عدم إصدار الحركة القضائية السنوية، وهو الأمر المسجّل للمرّة الثانية منذ إعلان التدابير الاستثنائية وذلك بعد التخلّف عن إصدار الحركة السنوية عام 2022/2023. ولا ريب أن عدم إصدار حركة العام الحالي مردّها الظاهر أيضًا هو التجميد الفعلي لمجلس القضاء العدلي المؤقت بعد حركة العام الفارط 2023/2024 والتي أدّت لاختلال نصابه. وهو تجميد أتاح لوزارة العدل لوحدها إدارة الشأن القضائي برمّته وبوّابته إدارة المسار المهني للقضاة عبر مذكرات العمل التي تتالت قبيل بدء العام القضائي فيما يشبه الحركة القضائية الواسعة. وكان من الواضح أن عدم قدرة المجلس العدلي المؤقت على الانعقاد هو الذي يسّر لجوء الوزارة لهذه المذكرات التي لا تقف فقط عند مستوى التعيين والنقل بل شملت التسمية في المناصب القضائية والتجريد منها وفق معايير خاضعة فقط لتقدير الوزارة من دون أي رقابة.
وعدا معضلة هذه المعايير غير المعلومة، على نحو حفّز مناخات الريبة داخل السلطة القضائية، فإن المذكرات لم تستطع تأمين توزيع القضاة في مختلف المحاكم بشكل ضامن لسيرها الطبيعي، وذلك كيفما تثبته البيانات الاحتجاجية للفروع الجهوي للمحامين التي كشفت عن حجم نقص فادح أحيانًا بما لم يؤدّ فقط إلى تردّي وضع المرفق بل إلى شلل بعض جوانبه كذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن عدم قدرة المذكرات على سدّ الشغورات وتأمين حسن التوزيع مردّه، في جانب أساسيّ، قصور الوزارة عن تغطية كافة الحاجيات من الإطار القضائي في مختلف محاكم البلاد بسبب صعوبة هذه التغطية التي تفترض آليات محددة منها تحديدًا ضبط الشغورات، وهو الأمر غير المحقّق راهنًا بسبب المذكرات الدورية التي تؤدي لشغورات ونقل خلال العام القضائي، على خلاف الوضع الطبيعي. وهو ما أدى للدخول في دوّامة مستمرّة من الشغور ثم سدّ الشغور فشغور آخر وهكذا. والصورة تبدو أكثر تعقيدًا فيما يتعلق بإسناد الخطط القضائية وتجريدها، خاصة لشبهة ارتباط أغلبها بقاعدة الجزاء والعقاب بحسب جمعية القضاة على الأقل.
قطيعة مع ممارسات فضلى
في المقابل، كان للمجلس الأعلى للقضاء قبل حلّه، وقبل نهاية كل عام قضائي، سنّة إعلان أهداف الحركة السنوية للعام القضائي المنتظر مع نشر قائمة في الشغورات مع فتح باب التناظر في شأنها. وقد تصدّرت أهداف آخر حركة قبل حلّه (2021/2022)، بالخصوص، إعادة التوازن بين المحاكم عبر دعم تلك التي تشهد نقصا في عدد القضاة بالتوازي مقابل التخفيض في عددهم في محاكم أخرى حسب معيار حجم العمل. وتضمّنت وقتها لائحة الأهداف الارتكاز على معطيات وبيانات إحصائية متعلقة بالنشاط القضائي والولائي للمحاكم المنجزة من قبل التفقدية العامة والدراسات التحليلية والتشخيصية لواقع هذه المحاكم من حيث نشاطها القضائي وعدد القضاة المباشرين. كما حرص المجلس على انتهاج التشاور المسبق مع ممثلي القضاة ومسؤولي المحاكم قبل كل حركة بما كان يوفّره من فرصة لضبط الحاجيات، دون أن التركيبة المختلطة له، وخاصة من المحامين، أسهمت في تأمين صورة شاملة حول واقع المرفق القضائي. وهو التشاور المنعدم من الوزارة راهنًا.
وإجمالًا أسهمت طريقة العمل تلك، على الرغم النقد اللاحق لعمل المجلس إثر كل حركة بخصوص مدى صرامة احترام المعايير المعلنة، في ضمان الحدّ المطلوب لحسن سير المرفق القضائي من جهة، وضمان مقبولية عامّة على الأقل بين القضاة أنفسهم. وفي هذا الجانب، مثّل حقّهم في الاعتراض على الحركة ضمانة من خلال تقديم أسانيد تظلّمهم لغاية استحثاث المجلس على مراجعة قراره في الحركة الاعتراضية. وهو حقّ بات اليوم معدومًا بحكم انعدام الحركة القضائية الأصلية.
وقد كان للقضاة أيضًا الطعن عبر القضاء الإداري في كل ما يتعلق بمسارهم المهني، وهو إن ما يظهر ممكنًا بمقتضى المرسوم المنشئ للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، فلا يمكن بالنهاية ممارسته بحكم تجميد هذا المجلس مقابل الإدارة الواقعية للوزارة للمسارات المهنية للقضاة عبر مذكرات العمل. وهنا، إن ما كان يجوز كذلك نظريًا الطعن في هذه المذكرات أمام القضاء الإداري، وهو ما دعت إليه جمعية القضاة مؤخرًا، فيظهر أن القضاة المعنيين غير متحمّسين لهكذا تقاضٍ لجهة واقع تغوّل وزارة العدل في المناخ الحالي، دون عما يستلزمه هذا التقاضي من زمن يجعله غير جاذب لجهة النجاعة. بكلّ ذلك، باتت المذكرات أشبه بأحكام محمولة على التنفيذ لا غير دون القدرة على ردّها.
خاتمة
من الواضح أن استدامة “الحالة الاستثنائية” في إدارة الشأن القضائي استتبعت وضعًا غير طبيعي في سير المحاكم على النحو المعاين في عديد المحاكم بالجهات. وهو وضع يصعب معالجته في غياب الهيكل الطبيعي لمباشرة المسارات المهنية للقضاة وهو المجلس الأعلى للقضاء بحكم ما يتحوّز عليه من آليات تؤمن له القدرة على تأمين التغطية المناسبة للإطار القضائي وحسن توزيعه في المحاكم من جهة مع تمكين القضاة من التصدّي لمسارهم المهني عبر تقديم مطالب التعيين والنقل والترشح للخطط مع حقهم في الاعتراض وذلك من جهة أخرى. وهو المجلس الذي لا تظهر بعد مؤشرات على نيّة لتركيزه، فيما يستمر تجميد المجلس المؤقت مع عدم سدّ الشغورات صلبه، وكلّ ذلك مقابل حقيقة تغوّل وزارة العدل.