في سابقة تعد الأولى من نوعها بالمغرب تضمنت مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد مقتضى قانوني يتيح للأطفال الطبيعيين إمكانية مقاضاة آبائهم البيولوجيين لطلب التعويض في إطار دعوى المسؤولية التقصيرية.
المبادرة تأتي بعد سنوات من إلغاء محكمة النقض لأول حكم قضائي قضى ببنوة طفلة لأبيها البيولوجي وبتحميله أداء التعويض لفائدة الأم، كما تتزامن مع فتح ورش تعديل مدونة الأسرة بعد مرور أزيد من 20 سنة على صدورها.
مشروع قانون يتيح للطفل الطبيعي إمكانية التقاضي ضد أبيه البيولوجي
نصتالمادة السابعة من مسودة قانون المسطرة الجنائية على أنه “يحق لكل طفل نتج عن جريمة اغتصاب أو فساد أو هتك عرض أو أي اعتداء جنسي أن ينتصب طرفا مدنيا في مواجهة المتسبب فيها”.
وبقراءة مضمون هذه المادة يلحظ أنّها أقرّت للطفل الناتج عن علاقة خارج إطار مؤسسة الزواج الحق في التقاضي للمطالبة بالتعويض في إطار قواعد المسؤولية المدنية تجاه المتسبب في هذه العلاقة، وذلك بغضّ النظر عن شرط الأهلية طالما أن المشرع استعمل عبارة “يحق لكل طفل”، ومن المعلوم أن مفهوم الطفل يتحدد طبقا للمادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل والتي تحدد سن الطفولة فيما لا يتجاوز 18 سنة، وهو ما يعني إمكانية تقديم هذه الدعوى من طرف الأطفال في تجسيد لمبدأ المشاركة الذي تقره اتفاقية حقوق الطفل من دون حاجة إلى وجود نائب قانوني لتمثيله أمام القضاء، كما أنّ تقديم هذه الدعوى من طرف الطفل يرفع الحرج عن أمه.
من جهة ثانية، يلحظ أنّ هذه المادة حصرت حق الطفل في الانتصاف أمام القضاء في طلب التعويض المادي، دون غيره من آثار كالاسم العائلي أو النسب أو النفقة أو التوارث.
من جهة ثالثة، يلحظ أنّ المشروع لم ينصّ على إجراءات كافية لضمان تمتيع الطفل بفعالية الولوج إلى التقاضي لطلب التعويض مثل الحصول على المساعدة القضائية بقوة القانون، خاصّة وأن الإجراءات القضائية تتصف بتعقيدات قد تجعل من الصعب على الأطفال النفاذ اليها.
ملاحظات الجمعيات الحقوقية حول مشروع القانون الجديد
اعتبر تحالف ربيع الكرامة في مذكرته حول مسودة مشروع قانون رقم 01.08 المتعلق بالمسطرة الجنائية أن هذا المقتضى “ولئن كان يقر من حيث المبدأ حق الطفل في المطالبة بتعويض في مواجهة من تسبب في خروجه الى الوجود في شروط اجتماعية وقانونية وإنسانية غير آمنة ودون أن يوفر له الشروط الدنيا لميلاد كريم، وهو شيء إيجابي نظريا”، إلا أنه يطرح عدة إشكالات عملية، أبرزها:
- إنه يسوي بين الاغتصاب وما يعرف بالفساد والمقصود به في غالب الأحيان العلاقة الجنسية الرضائية بين الراشدين، ويضعهما في كفة واحدة، إلى جانب الاعتداءات الجنسية ، وهو أمر لا يستقيم من زاوية حقوقية؛
- إنه يتحدث عن الطفل الناتج عن جريمة هتك العرض وهو ما يطرح إشكالية تعريف هذه الجريمة وعناصرها التكوينية، لأنّ هذه الجريمة في حدّ ذاتها لا يمكن أن ينتج عنها حملٌ بمعناها القانوني[1]؛
- إنّ مشروع القانون الجديد لا يحدّد متى وكيف يمكن للطفل “الطبيعي” الناتج عن “الجريمة” أن ينتصب طرفا مدنيا في الدعوى، مما يكون معه هذا المقتضى غير دقيق تماما وغير ذي جدوى؛
- حينما ينص المشروع على حق الطفل في أن ينتصب مطالبا بالحق المدني في مواجهة من تسبب في الجريمة التي أنتجته، -بما في ذلك حالات العلاقات الجنسية الرضائية بين الرشداء والتي ما يزال القانون يجرمها- إنما يضع الطفل المذكور في مواجهة والدته التي قد تكون هي ملاذه الوحيد في حالة تنكر الأب البيولوجي؛
- من شأن هذا المقترح أن يزيد من تعقيد أوضاع الأمهات العازبات وأطفالهن والتي ما تزال متردّية رغم تدخّل المشرع بتعديلات ترقيعية من خلال قانون الحالة المدنية وبعض النصوص التنظيمية الأخرى، وبالرغم من مبادرات المجتمع المدني في دعم الأمهات العازبات.
وكانت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة قد سجّلت في ملاحظاتها الختامية الموجهة إلى المغرب بشأن تقريريه الخامس والسادس حول تطبيق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة أنّ “الأمّهات غير المتزوجات بالمغرب معرضات عند مطالبتهم بحقوقهن وحقوق أطفالهن لخطر الملاحقة القضائية بسبب إقامة علاقات جنسية خارج إطار مؤسسة الزواج”.
من جهتها اعتبرت فدرالية رابطة حقوق النّساء أنّ التنصيص على هذا الحق في صلب قانون المسطرة الجنائية وليس في صلب مدوّنة الأسرة هو استباق لنتائج مشاورات هيئة تعديل مدونة الأسرة[2]، إذ أن حقوق الطفل على أبيه البيولوجي لا تتعلق فقط بالتعويض، وإنما تتعلق بشكل أساسي بأهمية الانتساب لأبيه، بما يخلف هذا الانتساب من حقوق كاملة، على مستوى النفقة والرعاية المشتركة والتوارث بعد الوفاة، إلى جانب حماية موقع واعتبار الطفل داخل المجتمع، ومن ثمة لا يكفي ضمان مطالبة الطفل بحقه في التعويض في مواجهة المتسبب في انجابه خارج إطار مؤسسة الزواج، وإنما ينبغي الحرص على حماية حقه في النسب، وحمايته من أيّ وصم اجتماعي، من خلال ترتيب كل الآثار القانونية المترتبة عن الخبرة الجينية في مجال النسب، وإلغاء كلّ تمييز بين البنوة الشرعية وغير الشرعية[3]. كما لاحظت أن مشروع قانون المسطرة الجنائية يكتفي بالتنصيص على حق الطفل في الانتصاب كمطالب مدني دون التطرّق ّإلى إجراءات ممارسته لهذا الحق خاصة على مستوى ضرورة تمتيعه بالمساعدة القضائية بقوة القانون، بما في ذلك الإعفاء من مصاريف الخبرة الجينية وجعلها على عاتق الدولة حماية لحق الطفل في معرفة هويته.
وأوصت بحذف هذا المقتضى من قانون المسطرة الجنائية والابقاء على تنظيم دعوى إثبات البنوة البيولوجية داخل مدوّنة الأسرة مع تنظيم المقتضيات الإجرائية الخاصة بهذه الدعوى في قانون المسطرة المدنية[4].
الخبرة الجينية دليل علمي يرفضه مجلس العلماء
تعتبر الجمعية المغربية لليتيم في مذكرتها المقدمة الى الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، أن الإبقاء على التمييز بين البنوة الشرعية وغير الشرعية في الآثار المترتبة عنها لفائدة الطفل اتجاه أبيه البيولوجي، يحرم الطفل من حقه في النسب، مع ما يترتب عن ذلك من تبعات سلبية عليه، سواء على المستوى النفسي أو في علاقته مع المجتمع.
وتطالب الجمعية باعتماد الخبرة الجينية “ADN” أداة لإثبات النسب، بأمر من المحكمة، معتبرة أن اعتماد هذه الأداء العلمية “له فوائد بالغة الأهمية في المجتمع، كونها تحمي الطفل من عدة توصيفات من قبيل “ولد الحرام”، و”ولد الزنا”، وغيرها من الأوصاف التي تمس كرامته ووجوده، وتؤثر على توازنه النفسي”.
كما تطالب الجمعية ذاتها بجعل اختبار الحمض النووي “إجراء معتمدا كوسيلة لإثبات نسب الطفل في حال اعتراض الأب”، وجعل الاختبار مجانيا تتحمّل تكلفته الخزينة العامة للدولة.
كما تطالب باعتماد التبني كحل لرعاية الأطفال مجهولي النسب الذين يصعب الوصول إلى أصولهم البيولوجية، “مع تمتيعهم بجميع الحقوق الوالدية مع آبائهم بالتبني”، وتمتيع جميع الأطفال المحرومين من السند الأسري بصفة مكفولي الأمة.
وعلى المستوى العملي، يبدو من المستبعد الاستجابة إلى هذه المطالب التي تتقاسمها غالبية الجمعيات والهيئات الحقوقية والحداثية، خاصة بعد الإعلان عن مخرجات هيئة تعديل مدونة الأسرة. فقد أكد وزير الأوقاف أن مجلس العلماء الأعلى رفض اعتماد الخبرة الجينية لإثبات نسب الطفل الطبيعي، وأعطى حلا بديلا وهو تحميل الأب كالأم المسؤولية عن حاجيات الولد دون إثبات النسب لأن ثبوت النسب في هذه الحالة بحسب وصفه “يخالف الشرع والدستور ويؤدي إلى هدم مؤسسة الأسرة وخلق أسر بديلة”.
مواضيع ذات الصلة
مقترح قانون للاعتراف بالخبرة الجينية كسبب لإثبات النسب بالمغرب
سابقة في اعمال آلية التظلم للأطفال بالمغرب: الجمعيات تطلب الانتصاف لطفلة ضد مقرر قضائي
محكمة النقض بالمغرب تحسم سلباً في بنوة الطفل الطبيعي
محكمة الاستئناف تلغي أول حكم بأبوة طفلة مولودة خارج الزواج: هل آن الأوان لتعديل مدونة الأسرة؟
القضاء المغربي ينتصر للمرة الثانية لحق الطفل الطبيعي في انتسابه لأبيه
سابقة قضائية في المغرب: الإعتراف ببنوة الطفل الطبيعي من أبيه والتعويض لأمه
قرار قضائي يتهدد الحق بالخصوصية في المغرب: توسيع وسائل إثبات الجرائم الجنسية الرضائية
“الطفل في حال الخــطر”: القضاء يكرّس نظاماً ملزماً للطوائف
التبنّي بين الدولة المصرية والكنيسة: قضية الطفل شنودة نموذجاً
التبني غير القانوني: الأم المتخلية تاجرة أم ضحية للإتجار بالبشر؟
حق الأم العزباء في التبني: حكم قضائي تونسي يكرس قيم الوظيفة القضائية
التبني في تونس من مفخرة تشريعية الى موضوع سؤال
أبعاد جديدة لحق الفرد بحماية حياته الخاصة في قرار لمجلس الشورى: سرية قيود الأحوال الشخصية في قضايا التبني وصولا الى أمرة النفس
المغرب يفتح ورش مراجعة مدونة الأسرة بعد 18 سنة من صدورها
هيئة تعديل مدونة الأسرة بالمغرب تعلن انتهاء جلسات الاستماع
إحالة مخرجات هيئة تعديل مدونة الأسرة على مجلس العلماء
[1] غالبا ما يتم تفسير جريمة هتك العرض في القانون المغربي بأنها تعني الجنس الشرجي بالإكراه أو باستعمال العنف.
[2]– تم الإعلان عن مخرجات هيئة تعديل مدونة الأسرة خلال جلسة العمل الملكية المنعقدة بتاريخ 23 دجنبر 2024.
[3] مذكرة فدرالية رابطة حقوق النساء المقدم للهيئة الملكية المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، صيغة أكتوبر 2023.
[4] اقترحت مذكرة فدرالية رابطة حقوق النساء إقرار مقتضيات إجرائية مواكبة في مدونة الأسرة وقانون المسطرة المدنية من قبيل:
-جعل مصاريف الخبرة الجينية على عاتق الدولة لضمان حق الطفل في الهوية.
-التنصيص على حق الابن الطبيعي في حمل الاسم العائلي للأب البيولوجي.
-التنصيص على اعفاء الأم من أي مسؤولية جنائية في حالة لجوؤها للتقاضي دفاعا على حق الابن في البنوة.
-تشجيع الوساطة بين الأبوين من أجل حمل الآباء على الاعتراف بأبنائهم المزدادين خارج إطار مؤسسة الزواج عن طريق الإقرار.