عهدت الحكومة التونسية بتاريخ 13-04-2015 مجلس نواب الشعب التونسي بمشروع قانون "زجر الاعتداءات على القوات المسلحة". هذا المشروع الذي جاء في الفصل الاول منه أنه يهدف "لحماية اعوان القوات المسلحة من الاعتداءات التي تهدد سلامتهم وحياتهم وذلك ضمانا لاستقرار المجتمع بأسره". ومصطلح "القوات المسلحة" يشمل حسب المشروع قوات الامن الداخلي بمختلف اصنافها والجيش الوطني ومقراتها.
ويلاحظ بداية أنه سبق وطالبت النقابات الامنية بهذا القانون منذ 2013، معتبرة صدوره شرطا لازما لتستعيد المؤسسة الامنية فاعليتها التي افتقدتها في اثر الثورة[1]. وقد تعهد رئيس مجلس نواب الشعب في تصريحاته الاولى بعد انتخابه بتحقيق هذا المطلب فأكد أنه "من اولوية مجلسه سن قانوني مكافحة الارهاب وحماية الامنيين"[2].
كما يتعين التنبيه الى أن مشروع القانون لم يأت لسدّ فراغ تشريعي، طالما أن "المجلة الجزائية جرّمت الاعتداءات على القوات المسلحة" كما ورد في شرح الأسباب الذي قدّمته الحكومة صحبة مشروعها. وتبعا لذلك، يثور تساؤل جدّي حول مدى ضرورة سنّ قانون خاصّ، عنوانه المعلن حماية الأمنيين في ظل نظام تشريعي يكفل فعليا هذه الحماية. وقد أجابت الحكومة بشكل استباقي على هذا السؤال، فذكرت في تقديم مشروع قانونها "أن حماية المجلة الجزائية غير كافية" و"أن مسايرة التشريعات الحديثة تستدعي سن تشريع خاص يوفر حماية أكبر تلائم وثيقة المبادئ الاساسية للأمم المتحدة بشأن استخدام القوة والاسلحة النارية من الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون"[3] والتي تنص على أن موظفي انفاذ القوانين يؤدون دورا حيويا في المجتمع وأن أي خطر يتهدد سلامتهم وحياتهم يجب أن ينظر اليه كخطر يتهدد استقرار المجتمع.
وتحاول المفكرة القانونية في قراءتها لمشروع القانون التدقيق في مدى استجابته لأهدافه وصدق الحاجة لاستصداره، علماًأنه قوبل برفض واسع في الساحة الحقوقيّة التونسيّة. وفي معرض هذه المناقشة، سنبحث فيما اذا كانت أحكام مشروع القانون تلبي أهدافه المعلنة، أم اذا كانت تؤدي الى تحقيق أهداف أخرى مسكوت عنها قوامها فرض "سلطة خاصة للقوات المسلحة".
التصدي للاعتداءات على القوات المسلحة: هدف معلن أهمل مشروع القانون تدقيق احكامه
يفترض في مشروع قانون عنوانه الابرز زجر الاعتداءات على القوات المسلحة أن يقدم تصورا لسياسية جزائية تحقق هذه الحماية من خلال تفصيل للجرائم الخاصة ولعقوباتها المستوجبة. وتكشف قراءة مشروع القانون أن من صاغ مشروعه التفت عن تحقيق هذا الهدف، فاكتفى بسرد جزئيّ لبعض الجرائم التي تطال الأمنيين لينتقل سريعا الى تجريم أفعال غير محددة.
فعند تفحص جدول الجرائم التي تم تحديدها، يتبين أن مشروع القانون تعرض لبعض الجرائم كجرائم تهديد أعوان القوات المسلحة والاعتداء على مقرات سكناهم وعلى المؤسسات الأمنية، دون أن يفصل الجرائم التي تتعلق بموضوعه، بدليل عدم تعرضه لجرائم القتل العمد والخطف وجرائم العنف بأنواعها التي قد تطال القوات المسلحة. ويلاحظ في المقابل تضمين المشروع جرائم يصعب ربطها برغبة حماية القوات المسلحة.
تحقير القوات المسلحة
يعاقب الفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية التونسي المعمول بها كل شخص عسكري أو مدني "تعمد بالقول أو بالحركات أو بواسطة الكتابة أو الرسوم أو الصور اليدوية والشمسية أو الأقلام بمحل عمومي تحقير العلم أو تحقير الجيش والمس من كرامته أو سمعته أو معنوياته أو يقوم بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم أو انتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس كرامتهم". وتصل العقوبة في هذه الحالات الى ثلاث سنوات. ورغم شمولية هذا النص، فانه تم تضمين مشروع القانون فصلا (12) يعاقب بالسجن مدة عامين سجنا وبعشرة الاف دينار خطية "كل من تعمد تحقير القوات المسلحة بقصد الاضرار بالامن العام".
وتكشف المقارنة بين النصين القانونين أن حكم القانون العسكري كان أكثر دقة في تحديده للركن المادي للجريمة رغم توسعه فيه، فيما اعتمد المقترح الوارد في مشروع القانون عبارات مبهمة ومطاطة في تحديد للركن المادي للجريمة، على نحو قد يسمح بملاحقة أي موقف نقدي لعمل القوات المسلحة والأمن. وبما لا يقل خطورة، ذهب المشروع الى توسيع مجال جريمة تحقير الجيش لتشمل أشخاص الأمنيين، رغم ما قد يترتب على ذلك من تجاوز لحرية التعبير.
تعطيل خدمات المؤسسات الأمنية
يقترح مشروع القانون في فصله 11 معاقبة "كل من تعمد .. تعطيل السير العادي للمصالح او للمؤسسات أو المنشآت التابعة للقوات المسلحة بأي وجه من الوجوه" ب"قصد الاضرار بالأمن العام". ويقترح معاقبة هذا الفعل بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها خمسة عشر ألف دينار. ويلاحظ هنا أيضا اعتماد المشروع لعبارات مطاطة دون تحديد الركن المادي للجريمة بشكل دقيق.
زجر كل رقابة عامة على عمل القوات العسكرية تحت غطاء حماية سريتها
ويتأكد سعي مشروع القانون لتجريم كل "علاقة" مع المؤسسة الامنية والعسكرية تقدر هذه الأخيرة انها مضرة بها بتخصيص مشروع القانون لثمانية فصول من فصوله العشرين لحماية سرية عمل الأمن. وقد جاء ذلك في الباب الثاني (الاعتدء على اسرار الأمن الوطني) من المشروع والذي يرد مباشرة في اثر الباب الاول المخصّص للتعاريف. وقد نص الفصل الأول من هذا الباب على أنه "يُعتبر سرا من أسرار الامن الوطني جميع المعطيات والمعلومات والوثائق المتعلقة بالامن الوطني". وقد اقترح المشروع عقوبة قدرها عشرة اعوام سجنا لكل تسريب من عون بالقوات المسلحة لتلك الاسرار ولكل تعامل من الغير معها، مع منع الفضاء المختص من تخفيف العقوبة في تلك الجرائم.
الى ذلك، يجرّم مشروع القانون التصوير والتسجيل بدون ترخيص في المواقع والمؤسسات الأمنية والعسكرية مع اخضاع عرض التسجيلات التي تتم بترخيص لمراقبة لاحقة قبل بثها.
وتبعا لهذه الصرامة في حماية سمعة القوات المسلحة وسريّة كلّ ما يتّصل بها بموجب نصوص مطاطة، يصبح أي مسعى الى كشف فساد او اخلال في اداء تلك المؤسسات من الناحية الفعلية من المحظورات الكبرى التي يستتبع أي خرق لها ثمنا باهظا.
وبذلك، يظهر جليا أن مشروع القانون يخرج عن هدفه المعلن في زجر الاعتداءات التي تطال القوات المسلحة ليتحول الى مشروع قانون يؤسس "لتسلط تلك القوات".
آلية القانون الخاص حجبا للتصورات العقابية الواضحة
الى جانب قانون الارهاب، عكس هذا المشروع توجّها تشريعيّا يجعل من القوانين الخاصّة وسيلة تدخّل أساسيّة في النظام الجزائي والعقابي التونسي. وتشكّل أحكام هذا المشروع مؤشّرا هامّا الى سلبيّة هذا الأسلوب، بدليل صياغة بنوده بمعزل عن رؤية واضحة وشاملة لمبادئ وتوجهات القانون الجزائي حسبما نفصّل أدناه.
فيفترض في النصوص الجزائية أن تتدرّج في تقدير العقوبات وفق خطورة الأفعال على القيم والمصالح التي تهدف الى حمايتها. ومن ذلك ان مشروع القانون يسلط عقوبة تصل الى عشرة اعوام سجنا على التهديد للمنتسب للقوات المسلحة لحمله على فعل عمل من خصائص وظيفه او تركه، فيما أن ذات المشروع يكتفي بعقوبة تصل الى ست سنوات سجن على من يعتدي على مسكن أو وسيلة تنقل الأمني بسبب أمر من علائق وظيفه. وتاليا، تكون معاقبة التهديد أشد من تنفيذه، وهو أمر يجانب المبادئ القانونية والمنطق.
كما يفترض أن يؤدي أي تعديل تشريعي بشأن عقوبة جزائية لنسخ النص السابق الذي يظل نافذا فقط في حدود تطبيق القانون الارفق بالمتهم. لكن، جانب الفصل 19 من مشروع القانون هذه المبادئ حين وضع أن العقوبات الواردة فيه لا تمنع من تطبيق العقوبات الواردة بالمجلة الجزائية والنصوص الخاصة ان كانت اشدّ. ومن المفاعيل العملية لهذا التوجه والتي قد تفسر وجوده، هو أنه يفسح المجال أمام تطبيق عقوبة الاعدام المنصوص عليها في المجلة الجزائية بالنسبة الى بعض الجرائم كالقتل، فيما أن أشد العقوبات المنصوص عليها في المشروع هي المؤبد. وبذلك، يكون المشروع قد أعاد التنصيص على عقوبة الاعدام عن طريق هذه الاحالة، وخلافا لظاهره.
ويتضح مما سلف أنّ مشروع القانون المقترح لم يلتفت بشكل أساسيّ الى تحقيق هدفه المعلن في حماية القوات المسلحة من الاعتداءات بقدر توجهه لتحقيق هدف غير معلن يتمثل في تقييد التعاطي العام مع هذه المؤسسة. كما لم يؤدّ مشروع القانون لصياغة سياسة عقابية وجزائية في خصوص الجرائم التي تعرض لها. وتؤكد هذه الاستنتاجات أن التوجه نحو سن تشريعات جزائية خاصة قد يضر فعليا بالسياسة الجزائية.
وعليه، تقترح المفكرة القانونية في هذا الاطار تصويب المسار من خلال تجنب التشريع من خلال قوانين خاصة قد تخلخل منظومة القانون الجزائي والمبادئ التي ترعاه، وتوجيه الجهد نحو اعادة صياغة المجلة الجزائية على نحو يؤدي الى تطوير أحكامها العقابية والنظريات التي تستند اليها ويجعلها أكثر تلاؤما مع النظريات الحديثة في المجال وحاجات المجتمع المستجدة.
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
[1]نقابة الأمن تؤكد ايداعه والتأسيسي ينفي:أين اختفى قانون حماية الأمنيين ؟ – سرحان الشيخاوي – الشروق التونسية 23-10-2013.
[2]رئيس مجلس نواب الشعب قانون مكافحة الارهاب وحماية الامنيين من ضمن الاولويات – سعيدة بوهلال -صحيفة الصباح التونسية 19-02-2015
[3]اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن حول الوقاية من الجريمة ومعاملة المخالفين، والذي انعقد في هافانا ـ كوبا من 27 /08 إلى 07/09/ 1999.