مشروع قانون المالية لسنة 2025: الدولة الاجتماعية بين الواقع والتوظيف السياسي


2024-12-06    |   

مشروع قانون المالية لسنة 2025: الدولة الاجتماعية بين الواقع والتوظيف السياسي
رسم عثمان سلمي

أنهَى مجلس نوّاب الشّعب في بداية الأسبوع الحالي، المصادقة على مشروع قانون الماليّة لسنة 2025، لتنطلق الجلسات العامّة المشتركة في جزئها المتعلّق بتَصويت أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم على المشروع. وقد احتوى المشروع سلسلة من الإجراءات تحت عنوان “تعزيز مقّومات الدولة الإجتماعية ودعم القدرة الشرائية للمواطن”. وفي هذا العنوان إقرار رسمي بوجود الدولة الإجتماعيّة وإن الإجراءات الجديدة تأتي في إطار تحقيق مكاسب إجتماعيّة إضافيّة، في إطار منظومة مؤسّساتية وتشريعيّة متماسكة وقائمة الذّات. من خلال متابعة النّقاشات البرلمانيّة المتعلّقة بالمشروع، نستحضر تقريبا تكرار آراء النوّاب بخصوص قانون الماليّة للسّنة الفارطة، حيث عبّر أغلب النوّاب عن عدم رضاهم على نصّ المشروع، الذي لا يُعبّر عن دولة الرّفاه المنشودة في خطابات رئيس الجمهوريّة وفق تصوّرهم مُتناسين أنّ الرّئيس وافَقَ على الوثيقة قبل وضعها بين أيديهم.

تَناسَى رئيس الجمهوريّة بدوره مشروع قانون الماليّة ومشروع الميزان الاقتصادي عند لقائه برئيس الحكومة في الأسبوع المنقضي حين حدّثه عن حاجة تونس لإنعاش اقتصادي واجتماعي يُنقذها من الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة المستفحلة. تُمثّل هذه المفارقة بين الخطاب السّياسي الرّسمي والواقع إحدى سمات منظومة الحكم الحالية وأبرز معبّر عن تناقضاتها الدّاخليّة، ويتأكّد ذلك في عجزها المستمرّ  عن تقديم البدائل الاقتصاديّة التي تنسجم مع “قصوويّة” الشّعارات المرفوعة.

وقد حَافظت المسألة الاجتماعيّة على مكانتها في الخطاب السّياسي الرّسمي وعلى قدرتها على التّعبئة، ويمكننا القول إنّ السّياسات الاجتماعيّة كانت أكثر وضوحا وتناسقا على مستوى الخطاب والممارسة في حقبتي السّتينات والسّبعينات. غير أنّ المسألة الاجتماعيّة سيتمّ انتزاعها شيئا فشيئا من مجالها الاجتماعي والاقتصادي إلى مجال التوظيف السّياسي بغرض خلق قاعدة اجتماعيّة قائمة على الولاءات والزّبونيّة. ساهمت الثّورة في تعرية هذا المسار الطّويل من التوظيف لكنّها لم تنجح في كبحه، بل على العكس تماما، يمكن القول أنّ الاستعمال السّياسي للمسألة الاجتماعيّة توسّع وأخذ أشكالا جديدة تمّ تغليفها برداء الثّوريّة. ويبدو انتصار الشعبويّة الاقتصادية أكبر دليل على هذا التوسّع.

السياسة الاجتماعية من خلال مشروع قانون المالية

نَصّ مشروع قانون الماليّة لسنة 2025 على إحداث “صندوق الحماية الاجتماعيّة للعاملات الفلاحيّات”. ويأتي هذا الإحداث في إطار تفعيل المرسوم عدد 4 لسنة 2024 المتعلّق بنظام الحماية الاجتماعية للعاملات الفلاحيّات. يُعتبر سوق العمل في القطاع الفلاحي الأكثر هشاشة واستغلالا في البلاد؛ بدايةً بظروف التنقّل إلى العمل والمساواة في الأجر بين الجنسين وتشغيل الأطفال وتجاوز ساعات العمل الحدّ القانوني المحدّد بـ8 ساعات. وقد انتقل موضوع العاملات الفلاحيّات إلى الواجهة بسبب حوادث النّقل التي يتعرّضن لها بصفة متواترة أو ما أصبح يعرف بــ”شاحنات الموت”. وحسب نصّ المشروع يَهدف الصّندوق إلى توفير التّغطية الصحية والتأمين ضد حوادث الشغل والأمراض المهنية، إلى جانب جراية التّقاعد للعاملات الفلاحيّات. وسيُعهَد بالتصرّف فيه إلى الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي. 

ستتمتّع المُنتفعَات بتدخّلات الصندوق عبر إعفاء من الضّريبة على الدّخل في الـ10 سنوات الأولى من تفعيل خدمات الصّندوق. وأقرّ المرسوم وجوب اشتراك العاملات الفلاحيّات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أين ستتكفّل الدّولة بمعاليم اشتراكاتهنّ في الـ3 سنوات الأولى من بداية النشاط. لم يُلزم مشروع قانون الماليّة المؤجّر بأيّة مسؤوليّة -بما فيها إمضاء عقد عمل- في انسجام كامل مع المرسوم. من المتوقّع أن يواجه “صندوق الحماية الاجتماعية للعاملات الفلاحيّات” إشكاليّة الدّيمومة على غرار معظم الصّناديق والحسابات الخاصّة بسبب معضلة التّمويل، فحسب مشروع قانون الماليّة سيقع تمويله بالأساس بجزء ضئيل من ميزانيّة الدّولة (5 مليون دينار) وبعض المساهمات المحمولة على صناديق التّأمين (1% من أقساط التأمين) والوكالة الفنيّة للنّقل البرّي (5 دينارات على كلّ شهادة فحص فنّي) و10% من جملة الخطايا المروريّة المستخلصة سنويّا. وفي ظلّ تدهور الوضع الاجتماعي وضعف الأجور لا نعتقد أنّ العاملات الفلاحيّات ستلتزمن بدفع إنخراطاتهنّ حتى بعد 3 سنوات. ولا نفهم لماذا تمّ حرمان العاملين الفلاحيّين من نظام الحماية الاجتماعيّة الذي لا يتحوّزون عليه. وللإشارة أقرّ مشروع قانون الماليّة إعفاء العربات المُعدّة حصرا لنقل العملة الفلاحيّين من مختلف معاليم الجولان. هذه الإجراءات وإن كانت لا تخلو من البصمة الاجتماعيّة فإنّها تَصبّ أكثر في محاولة تنظيم سوق العمل في المجال الفلاحي الذي تبدو فيه الهيكلة شبه غائبة.

كما يقترح مشروع قانون الماليّة إحداث “صندوق التأمين على فقدان مواطن الشغل لأسباب اقتصادية”، الذي يهدف إلى تمويل نظام تأمين العمّال ضدّ الفقدان الجماعي لمراكز الشّغل. لا تُخفي جاذبيّة الإسم ضبابيّة الإجراء. إذ يجب أن ننتظر الأوامر التّطبيقيّة حتى نفهم مغزاه. يبدو من العنوان أنّ الصّندوق سيُقدّم منح بطالة فنيّة، ولا تبدو الفئة المستهدفة واضحة، إذ لا نعرف هل يُقصد بـ”الجماعي” التسريح الكلّي أو الجزئي. لكنّها في كلّ الحالات تمييزيّة لأنّه تمّ استثناء التّسريح الفردي للعمّال لأسباب إقتصاديّة أو تعاقديّة لأنّ أغلب عقود العمل هي عقود ظرفيّة يستغلّها المؤجّر للتجديد المستمرّ للأجراء للتمتّع بالمساعدات الماليّة التي تُقدّمها الدّولة في شكل تكملة على الأجر على غرار عقد الإعداد للحياة المهنيّة (CIVP) وعقد الكرامة. وسيتمّ تمويل هذا الصّندوق عبر مساهمة الدّولة بـ5 مليون دينار و0.05% محمولة على كلّ من المؤجّر والأجير ونسبة 14% من عائدات الزيادة الخصوصيّة الموظّفة على التّبغ والوقيد ونسبة 30% من معاليم المشاركة في الألعاب عبر الهاتف. أمّا الإحداث الأخير فيتمثّل في إحداث حساب خاصّ في الخزينة بعنوان “حساب ضمان ضحايا حوادث المرور”، وفي واقع الأمر هو تغيير صبغة قانونيّة لـ”صندوق ضمان ضحايا حوادث المرور” الموجود منذ سنة 2005 لغرض تحسين وتوضيح آليّات التصرّف والتّعويض وفق مضمون مشروع قانون الماليّة.

في سياق آخر، ينصّ مشروع القانون على تخصيص جملة من خطوط التّمويل على موارد الصّندوق الوطني للتّشغيل قصد تمويل أنشطة إقتصاديّة مختلفة بقروض دون فائدة مع سنة إمهال. منها خط تمويل بقيمة 5 مليون دينار لإسناد قروض في حدود 10 آلاف دينار لفائدة الأشخاص ذوي الإعاقة، وخطّ تمويل بـ 20 مليون دينار لتقديم قروض لا تتجاوز 10 آلاف دينار للقرض الواحد لتمويل أنشطة إقتصاديّة مختلفة. الإجراء الأخير تمّ اعتماده في قانون الماليّة لسنة 2024، وحسب مشروع قانون الماليّة لعام 2025، تلقّى البنك التّونسي للتّضامن الذي عهد له التصرّف في خطوط التّمويل، 140 ألف مطلب في الغرض وتمّت الموافقة إلى غاية 7 أكتوبر على 1531 مطلبا بقيمة 14.4 مليون دينار. درجة الإقبال على القروض كانت كافية لتُقرّ الحكومة بـ”نجاح” هذا الإجراء وتمديده دون تقديم أيّة دراسة لطبيعة المشاريع المموّلة وجدواها الاقتصاديّة ومردوديّتها التّشغيليّة.

هذا التوجّه يشبه إلى حدّ كبير مَا تقوم به مؤسّسات الإقراض الصّغرى. وقد أثبتت عدّة دراسات حديثة عدم جدوى منظومة القروض الصّغرى في الدّول الفقيرة في مكافحة الفقر والبطالة؛ أوّلا بسبب الانحرافات في إنفاقها باعتبار أنّ الفئة التي تتحصّل عليها محدودة الدّخل وهكذا تُنفِقها لحلّ أزمات ماليّة ظرفيّة. وثانيا، ضُعف قيمة القرض لا يمكّن فعليّا من إحداث أو توسعة نشاط إقتصادي قادر على تحقيق عائدات ماليّة مهمّة. وثالثا، لأنّ هذه المبالغ المتدنيّة تُموّل عموما أنشطة تجاريّة صغيرة فاقدة للقيمة المضافة. وأخيرا، ومقارنة بحجم شريحة محدودي أو عديمي الدّخل فإن فئة قليلة جدّا منهم تتمكّن من الحصول على التّمويل. لتكون هذه الإجراءات عبارة عن جرعات للتّمديد في مدّة الاحتضار للمنتفعين بها. من المهمّ تقديم تسهيلات للشرائح المحرومة من التمويل البنكي، ولكن في إطار تصوّر تنموي متكامل تُساهم فيه البنوك لدفع الاقتصاد الحقيقي وليس بعقل بيروقراطي جامد ما انفكّ يُكرّس “إقتصاد الفتات”. ويندرج هذا أيضا في سياق تعتمد فيه السّلطة سياسة التقليص من دور القطاع البنكي في تمويل الاقتصاد ومكافحة الفقر -بصفته يتصرّف في مدّخرات الأفراد- عبر اعتمادها على الاقتراض الدّاخلي وامتصاص هذه المدّخرات.

أمّا الإجراءات الجبائيّة التي تمّت عنوَنَتها في باب الإجراءات الاجتماعية، فتشتَمل في جزء أوّل على تدابير مُوجّهة لتحسين الوضع المالي لجملة من المؤسّسات العموميّة. وسيكون ذلك عن طريق توقيف العمل بالمعاليم الديوانيّة، إضافة إلى المعلوم المهني المُوظَّف لفائدة صندوق دعم القدرة التنافسية في قطاعات الصّناعة والخدمات والصناعات التقليدية بعنوان توريد واقيَات منع الحمل من قبل الدّيوان الوطني للأسرة والعمران البشري. إلى جانب ذلك، تمّ إقتراح توقيف العمل بالأداءات والمعاليم المستوجَبَة على توريد التجهيزات والموادّ التي لا نظير محلّي لها، والضّروريّة لنَشاط المؤسّسات العموميّة العاملة في مجال الطّفولة وكبار السنّ. في نفس الإطار، ستنتَفع شركة اللّحوم بتوقيف العمل بالمعاليم الدّيوانيّة إلى غاية 2027، علما وأنّها تمتّعت منذ سنة 2015 بتوقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة والمعلوم المُوظَّف على اللحوم الحمراء وذلك عند توريد اللّحوم الحمراء المبرّدة. كما تمّ تمتيع الصّيدليّة المركزيّة بإعفاء كلّي عند توريد الأدوية التي لها نظير في تونس إلى نهاية عام 2026. وللتوضيح لا تُوظّف هذه الإعفاءات عند البيع بالتّفصيل، هي فقط إجراءات مخصوصة للمؤسّسات المعنيّة التي تُعاني من أزمة سيولة.

أمّا بقيّة الإجراءات الجبائيّة التي وُضعَت في خانة تحسين القدرة الشّرائيّة لبعض الفئات الاجتماعيّة، والتي تتّسم بمفعول مالي ضعيف، فتخصّ إعفاء جرايات العجز الناتج عن غير الحوادث المهنيّة وجرايات الأيتام التي تمنحها الصّناديق الاجتماعيّة من الضّريبة على الدّخل والخَصم من المورد. إلى جانب ذلك، تمّ التّنصيص على التّخفيض من 13 % إلى 7% في الأداء على القيمة المضافة بالنسبة لإستهلاك الكهرباء المنزلي للذين لا يتجاوز استهلاكهم الشهري 300 كيلواط-ساعة. في مستوى آخر، تَمَّ تعميم إجراء توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة في توريد الشاي والقهوة الذي تمتّع به الدّيوان الوطني للتّجارة في قانون الماليّة للسّنة الحالية ليشمل الموّردين الخواصّ لهاتين المادّتين، وحسب الحكومة يهدف ذلك إلى حسن تزويد السّوق والمحافظة على القدرة الشّرائيّة.

وتضمّن نصّ المشروع توسيع قاعدة المنتفعين ببرنامج المسكن الأوّل الذي أقرّه قانون الماليّة لسنة 2017، والذي وقع بمقتضاه إنشاء خطّ تمويل لتوفير الموارد الذّاتيّة لاقتناء مسكن جديد من الباعثين العقّاريّين، ليشمل مجال البناء لمن يملكون الأراضي. ووفق مشروع قانون الماليّة وطيلة قرابة 8 سنوات من انطلاق البرنامج لم يتجاوز عدد المنتفعين به 2818 مستفيدا باعتمادات قدرها 79.2 مليون دينار، والتي لم تبلغ حتّى نصف الاعتمادات المرصودة بـ200 مليون دينار. ورغم ذلك لم تقم الحكومة بمراجعة جذريّة للبرنامج.

إجرائين أخيرين وقع تصنيفهَما في خانة المجال الاجتماعي ربّما لغرض دعائي لا أكثر في حين أنّهما يتنزّلان في المجال الفلاحي؛ الإجراء الأوّل يهمّ دعم الموارد المائيّة بالتّمديد إلى غاية 2027 في الإجراء المتعلق بتمويل إنجاز مواجِل تخزين مياه الأمطار بقروض دون فائدة لا تتجاوز 20 ألف دينار على موارد الصّندوق الوطني لتحسين السّكن، والذي تضمنّه قانون الماليّة لسنة 2023. أمّا الإجراء الثّاني فيتعلّق بقطاع تربية الأبقار عبر تخصيص 5 مليون دينار تُقَدَّم في شكل منح لتوفير الموارد الذّاتيّة لصغار المربّين، ليتمكّنوا من الحصول على قروض بنكيّة تتحمّل الدّولة تكلفة الفوائض الموظّفة عليها لإقتناء الأبقار. كما تمّ منح إعفاء ضريبي كلّي لمُورّدي الأبقار إلى موفّى 2028 بشرط التّفويت فيها لصغار المربّين. وإن كان الإجراء يهدف نظريّا إلى إعادة تكوين قطيع الأبقار، فإنّ إمكانيّة الإنحراف بهذه الإجراءات واردة جدّا بناء على تجارب سابقة، في ظلّ مديونيّة صغار المربّين وضعف خطّ التمويل الذي سيقدّم في شكل منح والذي سيَطرح إشكالا في شفافيّة التّوزيع، إضافة إلى ضعف الرّقابة الذي سيؤدّي على الأرجح إلى استفادة المورّدين من الإعفاءات والتّلاعب في عمليّة التّفويت.

الدّولة الاجتماعيّة ومراكمَة الإخفاقات

تقوم سرديّة “منظومة 25 جويلية” على الإنتصار للشّعب المُفقّر من قبل “النّخبة المتآمرة” التي تضمّ جميع المعارضين أو عدم المتعاونين مع المنظومة الجديدة على اختلاف مجالات نشاطهم، وبعبارة أخرى تُمثّل هذه النّخبة عموما الدولة القديمة “الفاسدة”. وقد رفَعَ رئيس الجمهوريّة شعار “بناء وتشييد” الدّولة العادلة والاجتماعيّة عنوانا لولايته الثّانية. لكنّ التمعّن في مجمل التّدابير التي تمّ عرضها لا يستحقّ جهدا للقول بأنّها نابعة من صلب الخيارات القديمة، ونظَّمهَا عقل بيروقراطي تقنوي وجامد. هي عبارة عن جملة من سياسات عمومية مُبعثَرة ومتعالية على الواقع، مثل الإجراءات التي تهمّ العاملات الفلاحيّات والتّسريح الجماعي للعمّال. تعكس هذه الإجراءات مقاربة رئيس الجمهوريّة في المسألة الإجتماعيّة بصفته المسؤول الحصري على وضع السّياسات العموميّة، إضافة إلى أنه صادق على مشروعي الميزان الاقتصادي وقانون الماليّة قبل تحويلَهما إلى مجلس النّواب ومجلس الجهات والأقاليم.

في المقابل وعند متابعة أشغال البرلمان في المصادقة على المشروعين المذكورين، تواترت الآراء النّاقدة للتّدابير المذكورة وقِيل فيها الكثير، من قبيل عدم ترجمتها للفلسفة الاجتماعيّة لـ”دولة 25 جويلية” بسبب ضعف قدرة حكومة التكنوقراط على صياغة السّياسات. هؤلاء الذين يَنقُدون حكومة التّقنيّين التي وضعها الرّئيس لافتقادها الحِسّ السّياسي هم أنفسهم ينزعون المسؤوليّة السّياسيّة عن الرّئيس ويُلصقونها بالحكومة. في المحصّلة تَعكس هذه الاستراتيجيا تمزق الأنظمة الشعبويّة في الحكم، بين راديكاليّة الشّعارات واحتكار المجال العامّ والقضاء الممنهج على الفعل السّياسي والوعد بالرّفاه، وبين الواقع المعقّد والمركّب الذي يتطلّب برامج سياسيّة قابلة للتنفيذ تُغيّر البنى الهيكليّة القديمة.

الدّولة الاجتماعية هي قضيّة سياسية بامتياز، تدور حول طبيعة الدّولة والعلاقات التي تحكمها، وليست مجرّد توصيف أو مسألة إرادويّة. لا تكفي مجرّد إجراءات متفرّقة للقول بوجود دولة اجتماعيّة، لأنّه يمكن القول بأنّ جميع دول العالم تقدّم إجراءات إجتماعيّة بما فيها الولايات المتحّدة الأميركيّة راعية الرأسماليّة في العالم، والتي تُقدّم عدّة إجراءات ذات طابع إجتماعي على غرار قُصَاصَات التغذية لتوزيع وجبات مجانية للفقراء وبرامج دعم صغار الفلاحين. لكنّ هذه الإجراءات الدّنيا التي تهدف للحفاظ على السّلم الأهلي أو الحفاظ على قطاعات إستراتيجيّة لا ترتقي للقول بأنّها دولة الاجتماعيّة.

دولة الرعاية الاجتماعية عبارة عن مأسَسَة عقد اجتماعي قائم على التّضامن لتوفير مقوّمات العيش الكريم لجميع شرائح المجتمع. في تونس ما انفكّت الشروط الأساسيّة للدّولة الاجتماعيّة تضمحلّ، بداية بانهيار قطاع الصحّة والتّعليم والنّقل ليعوّضها القطاع الخاص. فمن المنتظر أن ترتفع ميزانيّة وزارة الصحّة في العام القادم بـ70 مليون دينار، في حين سترتفع ميزانيّة وزارة التّربية بـ126 مليون دينار، أمّا وزارة النّقل فقدّرت الزّيادة في ميزانيّتها بـ25 مليون دينار. نسبة الزّيادات مجتمعة لا ترتقي لبناء مستشفى جامع وعصري، كما أنّها لا تُغطّي حتّى الزّيادة العامّة في الأسعار، علمًا وأنّ هذه الزيادات الطفيفة أغلبها مخصّص لنفقات التأجير والتّسيير. يترافق ذلك مع الانسحاب التّدريجي للدّولة في مجال السّكن، باستثناء بعض الإجراءات التي لم تُثبِت نجاعتها على غرار برنامج المسكن الأوّل، حتّى شركة النّهوض بالمساكن الاجتماعيّة (1977) التي أنشِأَت في البداية كباعث عقّاري عمومي لغرض اجتماعي أصبحت شركة ربحيّة تعتمد أسعار السّوق عند البيع. هذا دون الحديث عن الانسحاب الكلّي للدّولة من مجال كراء العقّارات المعدّة للسّكن الذي يخضع لقانون العرض والطّلب دون أدنى هيكلة. ومن أبرز إخفاقات الدّولة الاجتماعيّة في سياقنا المحلّي تدهور منظومة الحماية الاجتماعيّة، علما وأنّ 44.8% من المشتغلين يعملون بشكل غير منظّم، أي بدون أيّة تغطية إجتماعيّة وصحيّة.

وبينما تَطوّرَت عدّة تجارب في إطار ديناميك داخلي نحو مفهوم الرّفاه الاجتماعي، شهدت تونس صيرورة تاريخيّة من التّراجعات عن المكاسب نحو توسعة دائرة الفقر والهشاشة والتّفاوت الاجتماعي والمجالي احتدّت بمواصلة اعتماد سياسة التقشّف. لتبقى مقولة الدّولة الاجتماعيّة شعارا للتّوظيف السّياسي وصناعة الزّبونيّة والولاءات السّياسيّة، التي تتكثّف بالخصوص في الأدوار السّياسيّة التي يلعبها المسؤولين السياسيين المحليين (العمدة والمعتمد والوالي) في تحديد الفقراء وتوزيع بعض المساعدات العينيّة المناسبتيّة في الوقت الذي يُحرَم فيه جزء من التّونسيّين من أدنى مقوّمات الحياة على غرار الماء الصّالح للشّراب، وتقع محاكمة المطالبين به.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني