تقدمت رئاسة الجمهورية التونسية في تاريخ 13 -03- 2025 بمشروع قانون يهدف لتنقيح أحكام مجلة الشغل فيما تعلق بعقود الشغل. سبق للرئيس قيس سعيد أن تعهد به وأكد أن الهدف منه سيكون “إرساء مبادئ الدولة الاجتماعية” وغايته ضمان حق العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل في مواجهة صيغ تشغيلية من قبيل “العبودية” و”الإتجار بالبشر”.
ورغم أهمية مشروع القانون من زاوية تضمّنه أحكامًأ تعدّ “ثورية” في تنظيم العلاقات الشغلية، وبالخصوص منذ آخر تعديل لمجلة الشغل عام 1996، اختارت السلطة التنفيذية ممثّلة في رئاسة الجمهورية الانفراد في إعداد هذا المشروع، على عهدها في الانفراد المطلق في إعداد مشاريع القوانين قبل إحالتها للبرلمان، وذلك في تغييب علني متعمّد للمنظمات المعنية وبالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل (منظمة الشغيلة) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة الأعراف). ذلك أن انعدام الاستشارات وتبادل المقترحات وثمّ التعديل فيما بينها بين أطراف الحوار الاجتماعي في إطار ورشة جماعية يحول دون استنفاذ المسار التشاوري اللازم لصياغة نص يأخذ بعين الاعتبار كل الوضعيات الشغلية وخصوصية القطاعات والتنافسية الاقتصادية، بغاية تأمين الموازنة بين مصالح الأجير والمؤجر على حد السواء. مع تسجيل أن وثيقة شرح الأسباب لم تتضمّن أي مؤشرات إحصائية خاصة لتبيان عدد المشمولين بتطبيق القانون، ولو بصفة تقريبية، على نحو يعطي صورة على آثاره، رغم أن وزير الشؤون الاجتماعية أعلن منذ أكثر من عام عن إعداد جرد لعدد شركات المناولة وعدد العاملين بها.
وبعيدا عن هذه المؤاخذة المنهجية يبدو من المهم التنبه لأهمية ما يطرحه المشروع من قواعد والتي تتمثل أساسا في :
عقد الشغل محدد المدة: من خيار حرّ إلى استثناء مشروط
لم يعد للمؤسسة الاقتصادية حرية اختيار إبرام عقد محدد المدة مع الأجير، إذ بات المبدأ أن العلاقة الشغلية لا تتأسس إلا على عقد غير محدد المدة بصفة مبدئية، فيما لا يمكن للمؤسسة اللجوء لعقد عمل لمدة مضبوطة إلا في ثلاث حالات استثنائية على سبيل الحصر وهي:
1-القيام بأعمال استوجبتها زيادة غير عادية في حجم الخدمات أو الأشغال
2- التعويض الوقتي لأجير قار متغيّب أو توقّف تنفيذ عقد شغله
3- القيام بأعمال موسمية أو أنشطة أخرى لا يمكن حسب العرف أو بحكم طبيعتها اللجوء فيها إلى عقود غير محددة المدة
التشريع الحالي الذي وإن ينصّ بدوره، بصفة مبدئية أيضًا، على حالات محددة للتعاقد المؤقت، منها الحالات الثلاثة السابق ذكرها المتعلقة بأعمال ذات صبغة ظرفية، فإنه نصّ على إمكانية تجاوزها أي إبرام عقد مؤقت ولو في غيرها، أي أعمال لا تتسم بالصبغة الظرفية مقابل تسقيفها زمنيًا بمدة أربع سنوات. وحوّلت هذه الإمكانية الاستثناء الظاهر لعقود العمل المؤقتة إلى خيار مشاع في الواقع الشغلي بما أدى لإسهال في هذا النوع من العقود. التشريع الجديد يلغي هذه الإمكانية، بل ويضيّق حتى في صور الأعمال الظرفية التي تبيح إبرام عقد محدود المدة، بغاية التأكيد على الطابع الاستثنائي المحض للعلاقة الشغلية الوقتية في نهاية المطاف.
هذا التحوّل يغلّب الاستقرار الوظيفي على ما قد يظهر حاجة المؤسسة الاقتصادية للمرونة التشغيلية، بما يجعله تعديلًا جوهريًا في علاقات العمل لجهة إعادة ضبط موازنة المصالح بين الأجير جهة والمؤجر من جهة أخرى. باعتبار أنه يعكس توجهًا صريحًا في فرض عقود شغل مستدامة في سوق الشغل بما يؤمن بالنسبة للأجير الأمان المهني. فيما يدفع ظاهريًا إلى تقييد مرونة المؤسسة في التوظيف وتقليص قدرتها على التكيّف مع خططها التشغيلية. غير أن ردّ ذلك أن المرونة تظلّ مؤمنة بحكم أن الغاية هي فرض العقود المستدامة في مواطن العمل القارّ فقط مقابل إباحتها في العمل الظرفي.
لكن تبدو الصعوبة أشدّ تطبيقيًا بالنسبة للمؤسسات الصغرى أو المؤسسات المستحدثة في بداية نشاطها في ظلّ عدم تبيّن وضعها في السوق. إذ أنّ عدم توفّر حالات الاستثناء لإبرام عقد محدد المدة سيجعل المؤسسة تحت إكراه إبرام عقود العمل المستدامة في مواطن الشغل القارة، والحال قد تفضّل إبرام عقود عمل مؤقتة على الأقل في المرحلة الأولى من نشاطها. غير أن إحدى أوجه التحفّظ غير المصرّح به عند لفيف من أرباب العمل بخصوص تقييد لجوئهم لعقود العمل المؤقتة في الأعمال القارّة هو ما يفرزه بالنسبة إليهم تقييم الواقع الشغلي أن الأجير المؤقت يظهر أكثر جديّة وانضباطًا من نظيره الأجير القار، بوجه عامّ، والذي يُرمى بأنه عادة بمجرّد ترسيمه قد يتراجع مردوده بحكم تأمين وظيفته. لكن هذا التحفّظ مردود عليه باعتبار أن الالتزامات المحمولة على الأجير، بغض النظر عن طبيعة تعاقده، هي واحدة ومنها واجب الامتثال لأوامر رؤسائه وعدم التقصير في العمل والاستعداد لتأمين حجم الإنتاج أو نوعيته المطلوبة، على نحو أن خرقها يؤسس لحق المؤجر في قطع العلاقة الشغلية في كل وقت بصورة شرعية على أساس الخطأ الفادح.
بيد أن المعضلة المنتظرة هي المتعلقة بإعمال حالات الاستثناء على أرض الواقع، وهي التي باتت تبيح لوحدها فقط إبرام عقود الشغل محددة المدة. فهذه الحالات إن كانت واردة في النص التشريعي فلم تكن موضع تدقيق تطبيقي، خاصة في نزاعات الشغل، باعتبار عدم الحاجة إليها في ظلّ الإمكانية لتجاوزها في كل الأحوال. ولكن راهنًا، يعود البريق لهذه الاستثناءات، التي تقلّصت من خمس حالات في التشريع الحالي إلى ثلاث في المشروع المعروض، بما يفرضه من تنازع في ضبطها بالنظر لصيغتها المعمّمة وعباراتها الفضفاضة. وهو تنازع منتظر بين جهات الرقابة وتحديدًا الأجراء وتفقدية الشغل من جهة والمؤسسة المؤجرة من جهة أخرى وبما سيجعل الرقابة القضائية تقود الدور الحاسم لفصل النزاع. فالحالة الأولى للاستثناء تشترط “الزيادة غير العادية في حجم العمل” وهو ما يطرح السؤال حول معايير هذه الزيادة التي تبيح إعمال الاستثناء في المقابل الزيادة العادية التي من المفترض أن تلزم بإبرام عقود مستدامة فقط. إذ قد يكون المعدّل السنوي لحجم العمل هو المعيار المعتمد في نزاع تحديد الزيادة “غير العادية”. ونفس الصورة تتعلق باستثناء إباحة العقد المؤقت بالنسبة للأنشطة التي لا يمكن حسب العرف أو طبيعتها إبرام عقد شغل مستدام. فمن المنتظر في الحالتين أن تسعى المؤسسة للتوسّع في إعمال الاستثناءات لإمكانية إبرام عقد محدد المدة، بعد أن كان ذلك مجرّد خيار مطلق لها.
وفي إطار ضمان نجاعة الطابع الاستثنائي للعمل المؤقت، أعاد مشروع القانون الاعتبار للكتب كوسيلة إثبات في المادة الشغلية باعتباره بات الوسيلة الوحيدة المثبتة للرابطة المؤقتة. فغياب الكتب أو عدم التنصيص على مدة العقد أو حالة الاستثناء جزاؤه هو اعتبار العقد مبرما لمدة غير معيّنة. بهذه الإضافة سيصبح المؤجر هو الأكثر حرصًا على إبرام كتب عند انتداب الأجير بصفة مؤقتة. مع تسجيل أن المؤجر، في كل الأحوال وبالمشروع المعروض، مُطالب بتوفير نفس الحقوق والامتيازات لأجرائه بغض النظر عن مدة عقد عملهم. وشرط التنصيص على مدة العقد في الكتب تؤكد أن صورة العمل المؤقت باتت تقتصر على تحديد الفترة الزمنية بعد إلغاء إمكانية تعيين العمل الذي ينتهي العقد بإنجازه وهي صورة للعمل المؤقت لا تتضمن بالضرورة تحديدًا لفترة زمنية للإنجاز.
ولملاحظ أيضًا أن ينتبه أن مشروع القانون لم ينصّ على تسقيف المدة القصوى لعقد العمل المؤقت والمحدّد في التشريع الحالي بأربع سنوات إذ بتجاوزها يعدّ الأجير موظفًا قارًا. وهو إلغاء يتماشى مع إلغاء إمكانية لجوء المؤسسة لإبرام عقد شغل مؤقت في مواطن العمل القار، باعتبار أن التسقيف الزمني ارتبط بهذه الصورة. في حين أنه للملاحظة تظلّ العقود المؤقتة المبرمة لتنفيذ الأعمال الظرفية غير مسقفة زمنيًا لأنها تتعلّق بطبيعتها بوضعيات مؤقتة أي أنها لا تتعلق بالعمل القارّ.
في الأثناء، أكد المشروع أن تواصل تقديم المؤجر لخدماته بعد انتهاء فترة العمل المؤقت تجعل عقده بالضرورة يتحوّل إلى عقد عمل غير محدد المدة، وهو إن ما كان بغير المستجدّ، فالمثير للانتباه هو حذف التنصيص أن ارتباط استمرار تقديم الخدمات بعدم معارضة المؤجر، على نحو يكشف مجددًا، ولو هامشيًا، على التوجه التشريعي في تقليص فاعلية المؤجر لحساب الأجير.
توحيد فترة التجربة: تمدّد نطاق التشريع
تضمّن مشروع القانون، في جانب آخر، مراجعة تنظيم عقد العمل غير محدد المدة أيضًا وتحديدًا فيما يتعلّق بفترة التجربة. الفصل 6-3 من قانون الشغل يحيل في صيغته الحالية بشأنها للأحكام القانونية أو التعاقدية المنطبقة على الأجراء، إذ تنظّم عادة الاتفاقيات المشتركة القطاعية فترة التجربة التي عادة ما تختلف حسب كل قطاع وحسب الفئة المهنية. فمثلًا، تميّز الاتفاقية القطاعية المشتركة لقطاع الكهرباء والإلكترونيك في فترة التجربة بين أعوان التنفيذ (6 أشهر) وأعوان التسيير (9 أشهر) والإطارات (12 شهرًا).
لكن المشروع يذهب نحو وضع نص تشريعي عامّ يضبط فترة التجربة بمدة لا تتجاوز 6 أشهر على أقصى تقدير مع إمكانية تمديدها لمرة واحدة ولنفس المدة. يعكس هذا الخيار سعيًا لتكريس المساواة بين الأجراء بغض النظر عن القطاع المنتسب إليه أو الفئة المهنية على خلاف ما هو معمول به في الاتفاقيات القطاعية على النحو السابق ذكره. وتوضّح وثيقة شرح الأسباب أن الغاية هي منع التحايل على القانون في ظل واقع تمديد المؤجر لفترة التجربة لأقصى مدة بغاية استغلال الأجير كعقد مؤقت.
وفي إطار ما ظهر تدعيمًا لمصلحة العامل وأيضًا تكريسًا لتوازن المصالح مع المؤجر، ينصّ المشروع أنه يمكن لكل طرف إنهاء العمل خلال التجربة، مع وضع شرط الإعلام المسبق بمقتضى رسالة مضمونة الوصول أو أي وسيلة تترك أثرًا كتابيًا وذلك قبل 15 يومًا من انتهاء فترة التجربة. هذه الشكلية الجديدة تستهدف تقييد هشاشة وضعية الأجير خلال فترة التجربة. واللافت أن الأجير بات بإمكانه إنهاء العلاقة الشغلية خلال هذه الفترة دون الحاجة لتقديم استقالة خاصة في ظل تواتر تنصيص عقود الشغل، في بعض القطاعات، على تقييد حق الأجير في الاستقالة خلال مدة زمنية قد تمتد أحيانًا لسنوات مقابل التنصيص على تحميله دفع تعويض مالي، يشمل عادة مصاريف التكوين، وذلك في صورة خرق هذا الالتزام التعاقدي.
والمشروع، في جانب متصّل، نصّ على أنه في صورة إنهاء العمل قبل انتهاء فترة التجربة، فإن إعادة التعاقد لا يكون إلا على أساس عقد شغل غير محدد المدة ومن دون فترة تجربة، وهي ضمانة عادة ما تنصّ عليه الاتفاقيات القطاعية ولكنها ترتقي راهنًا لمرتبة التشريع. مرّة أخرى، يتبيّن الطابع الحمائي لفائدة الأجير.
منع مناولة اليد العاملة
العضد الثانية لمشروع القانون تعلّقت بمنع “المناولة” والتي تمّ تعريفها بأنها العقود والاتفاقيات المبرمة بين مؤسسة مؤجرة لليد العاملة ومؤسسة مستفيدة يتمّ بمقتضاها إجارة اليد العاملة ووضعها من المؤسسة المؤجرة على ذمة المؤسسة المستفيدة. والحال أن التعريف المعروض يتعلق بمناولة اليد العاملة الواجب تمييزها عن مناولة العمل، ليظهر أن الحديث عن منع المناولة بعمومها غير دقيق. وربما يكون ذلك مجرّد استجابة شكلية لخطاب رئيس الدولة الرافض لهذه الآلية، في حين أن، نفس المشروع، كان قد نظّم مناولة العمل في النشاط غير الأصلي في فصول جديدة فيما تمت تسميتها إسداء خدمات والقيام بأشغال.
ومناولة اليد العاملة المعنية بالمنع تعدّ من صور العمل الهشّ في الواقع الشغلي على نحو دفع منذ عام 2011 لإلغائها في القطاع العامّ مع تصاعد الدعوات لمنعها في القطاع الخاصّ في ظلّ واقع الفراغ التشريعي المنظّم لها. مع الملاحظة أن السوق التونسية طالما شهدت تواترًا لآلية المناولة بوجه عامّ، فمثلًا تبيّن إحصائيات الوزارة الأولى ووزارة الشؤون الاجتماعية سنة 2006 أن عدد اليد العاملة بعقود المناولة بلغ 943 ألف لتمثل بين 15 و25 في المائة من نشاط الإنتاج[1]. وهو رقم يعكس ثقلها في سوق التوظيف المحلية.
ومناولة اليد العاملة المحجّرة تقوم على توفير المناول لعملة لفائدة المؤجر الواقعي لا تربطه بهم أي رابطة قانونية. ويحقّق المناول، بهذه الصورة، أرباحا بالمضاربة على الفارق بين الأجر المقبوض من المستفيد والأجر المدفوع للعامل. فيما تفضّل المؤسسة المستفيدة هذه الصيغة بحكم تخفّف أعبائها الوظيفية والاجتماعية بغاية الضغط على كلفة العمل. وقد أدى انتشار هذه الممارسة إلى الاستغلال الفاحش للعملة المناولين الذي يقبضون أجورًا زهيدة غالبًا في حدود الأجر الأدنى المضمون في ظل واقع الهشاشة المهنية بين التبعية القانونية للمقاول والتبعية القانونية للمؤسسة المستفيدة. كما أفرز الواقع تفاوتًا في الأجر بين الأجراء في نفس التصنيف المهني بسبب اختلاف صيغة العمل لفائدة المؤسسة.
وتمثّل البنوك الخاصة واحدة من المؤسسات التي طالما لجأت لمثل هذه الآلية التي تؤدي لامتصاص حقوق الأجير الذي يعمل بأجر زهيد لمدة سنوات رغم تحمّله أعباء الأجير القارّ ولكن من دون ترسيم ومن دون التمتع بحقوقه وامتيازاته. وكان للجامعة العامة للبنوك التابعة لاتحاد الشغل أن أبرمت، بتاريخ 26 جويلية 2021، اتفاقًا مع المجلس البنكي والمالي (الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية) يتضمن التخلي عن الانتداب بواسطة شركات المناولة في النشاط الأصلي للبنوك مع تسوية وضعية العاملين بهذه الآلية في أجل أقصاه نهاية عام 2023، غير أن الجامعة النقابية لاحظت لاحقًا عدم التزام البنوك على تسوية الملف بصفة قطعية ونهائية.
المشروع، في الأثناء، وضمانًا لنجاعة المنع، استحدث ما أسماها جريمة المناولة التي يقوم ركنها المادي على مخالفة أحكام المنع أي على إبرام عقود إجارة اليد العاملة. وتتمثل عقوبتها في خطية مالية (10 آلاف دينار للشخص الطبيعي و20 ألف دينار للشخص المعنوي)، كما شمل التجريم الممثل القانوني أو المسيّر المتورّط في الانتداب غير الشرعي. والعقوبة تصل للسجن لمدة تتراوح بين ثلاثة أشهر و6 أشهر في صورة العود. وإن كان التجريم أو التنصيص على عقوبة سجنية غير مستجدّ عن مجلة الشغل، فإن استحداث جريمة جديدة بعقوبات مشددة نسبيًا مقارنة بما تتضمّنه المدونة الشغلية يعكس سعيًا لفرض منع إجارة اليد العاملة عبر ردع مرتكبيها بكل صرامة على وقع خشية التتبعات الجزائية.
تنظيم مناولة العمل: آلية مشروطة
في المقابل، نظّم مشروع القانون ما سّماها “مؤسسات إسداء الخدمات والقيام بأشغال” التي أفردها بستة فصول في تنظيم جديد للعنوان الثاني من الكتاب الأول من مجلة الشغل بعد إلغاء أحكامه السابقة التي كانت معنونة تحت “مؤسّسات اليد العاملة الثانويّة”. والأمر يتعلق، كما ذكرنا، بالنهاية بتنظيم مناولة العمل في النشاط غير الأصلي التي تقوم على توفير خدمات أو أشغال تؤديها المؤسسة المسدية عبر أجرائها لفائدة المؤسسة المستفيدة، وهي تختلف عن مناولة اليد العاملة المحجّرة التي تقوم على وضع أجراء وليس خدمات على الذمّة. ومناولة العمل أو إسداء الخدمات والأشغال هو شكل فرضته التطورات العصرية في ميدان الشغل قوامه مركزة السلطة الاقتصادية للمؤسسة بدل مركزة العمل، بغاية تأمين التفرغ في النشاط الرئيسي مقابل إحالة الأنشطة الجانبية لمؤسسات أخرى، في إطار العمل المركّب بين المؤسسات.
هذا الإطار المقترح يهدف إلى فرض الطابع الاستثنائي للجوء المؤسسة الاقتصادية للاستعانة بمؤسسة أخرى لإسداء الخدمات والقيام بأشغال، باعتبار أن اللجوء بات ينحصر فقط فيما لا يتعلق بالنشاط الأساسي والدائم للمؤسسة المستفيدة، أي أنشطة ثانوية أو فرعية تقدّر أنها ليست بحاجة لتأمينها لانتداب أجراء. يدفع هذا إلى إلزام المؤسسات للتخلي عن اللجوء للمناولة لتأمين موظفين لتنفيذ نشاطها الرئيسي لكن لا تفضّل انتدابهم باسمها ولحسابها لتقليص أعبائها.
يبقى السؤال بخصوص وضعية عملة الحراسة والتنظيف الذي يأتي الحديث عنهم دائمًا كلّما حلّ الحديث عن المناولة بوجه عامّ. التشريع المقترح لا يحول مبدئيًا دون مواصلة العمل بصيغة إسداء خدمات/أشغال باعتبار أن الحراسة والتنظيف عامّة ليسا من قبيل النشاط الأساسي للمؤسسة. ولكن المستجدّ أن عملة الحراسة والتنظيف، وعمومًا كل أجراء المؤسسة المسدية، باتت تربطهم لزوما علاقة قانونية وفعلية فقط بالمؤسسة الراجعين إليها بالنظر، في حين أن المؤسسة المستفيدة ليست لها، في كل الأحوال، سلطة المؤجر عليهم. الغاية هنا هي تثبيت أن المؤجر الوحيد للعملة هي الشركة التي يعملون باسمها ولحسابها. فالشركة المستفيدة مثلًا لا تباشر أعمال الحراسة ولا الإشراف عليها ولا تسيّر العملة، فعلاقتها تنحصر فقط مع المؤسسة التي تعاقدت معها لتقديم هذه الخدمات أو الأشغال دون أن يكون العملة المزاولون بمقرها تحت إدارتها ولا رقابتها. وهو ما يعني أن التزامات العلاقة الشغلية، وتحديدًا واجبات الأجير تجاه مؤجره في الانضباط والانصياع لأوامره، تنحصر بين الأجير ومؤسسته الأصلية/مسدية الخدمات فقط، وهو ما يندرج ضمن التمييز بين مناولة يد العاملة المحجّرة من جهة ومناولة الخدمات والأشغال المباحة من جهة أخرى، رغم ما يظهر من صعوبة التمييز بينهما في التطبيق في بعض الأحيان.
بيد أن حصر إسداء الخدمات والأشغال في غير النشاط الرئيسي والدائم يبدو إشكاليًا في بعض القطاعات التي لم يراعِ مشروع القانون خصوصيّتها، على غرار قطاع البناء حينما تقوم شركة المقاولة المتعاقدة على البناء بتقسيم أعمال الحضيرة حسب نوعيتها لمؤسسات مهنية متخصصة للقيام بأشغال محددة مثل أشغال تركيب الإضاءة أو السباكة أو الطلاء إلخ. وهو ممّا يجّب أخذه بعين الاعتبار في صياغة النص التشريعي.
تدعيم حقوق العمال في نظام إسداء الخدمات/الأشغال
تضمّن المشروع، في الأثناء، تدعيمًا لحقوق الأجراء في مؤسسات إسداء الخدمات/الأشغال المضمّنة في التشريع الحالي الذي ينصّ بالخصوص على استبدال رئيس المؤسسة محل المقاول عند عجزه عن الدفع بالنسبة للعملة المستخدمين في حقوقهم المادية والاجتماعية بما يشمل أساسًا الأجور وجبر حوادث الشغل وتكاليف الضمان الاجتماعي، فضلا عن مسؤوليته أيضًا في توفير نفس ظروف الشغل لعملة المقاول كما عملته.
المشروع، في المقابل، يجعل هذا الاستبدال لمؤسسة بدل الأخرى الخيار الثاني بعد أن بات يسبقه لزوم تأمين المؤسسة الأصلية أي المسدية لضمان مالي لخلاص مستحقات أجرائها واشتراكاتهم في صندوق الضمان الاجتماعي في صورة إخلالها بالتزاماتهم تجاههم، وثم في صورة عدم كفاية مبلغ الضمان يتم اللجوء للمؤسسة المستفيدة. والضمان المالي يمثل ضمانة للأجير باعتبار أن إجبار المؤسسة المستفيدة على خلاص الأجور كان متوقفًا على إثبات عجز المناول عن الدفع وهو ما يستلزم وقتًا طويلًا كانتظار صدور حكم قضائي.
وفي نفس الإطار، بات على المؤسسة المسدية واجب تقديم ما يفيد خلاص الأجور والاشتراكات إلى المؤسسة المستفيدة في أجل أسبوع واحد من تاريخ حلولها. ومن البيّن أن هذه الأحكام غايتها تحميل المؤسسات مسدية الخدمات المسؤولية الرئيسية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه أجرائها مع ضمان التنفيذ سواء عبر استحداث واجب تأمين ضمان مالي من جهة والواجب المحمول على الشركة المستفيدة في مراقبة أداء الشركة التي تعاقدت معها لالتزاماتها تجاه العملة من جهة أخرى.
النص اقتضى أيضًا تطبيق نظام التأجير للمؤسسة المستفيدة على الأجراء المستخدمين التابعين للمؤسسة مسدية الخدمات في صورة عدم توفّر نظام تأجير خاصّ بها. ولكن أيضًا إرساء مبدأ التضامن السلبي بين كل المتدخّلين في العلاقة الشغلية في الوفاء بالالتزامات الناشئة عن تطبيق قانون الشغل، وهو ما يعزّز حرية الأجير في المطالبة بحسب وضعية كل مؤجر. وهو يندرج في إطار تدعيم الحقوق المادية والاجتماعية للعامل في نظام إسداء الخدمات وتوفير ظروف العمل اللائق باعتباره محورًا رئيسيًا في المشروع المعروض.
الأحكام الانتقالية: تطبيق القانون بأثر رجعي
استحوذت الأحكام الانتقالية على خمسة فصول كاملة في مشروع القانون أي نصف عدد فصوله برمّتها، وهو ما يعكس العناية الخاصة بغاية ضمان استفادة الوضعيات الشغلية الجارية وحتى السابقة بالحقوق والضمانات المستحدثة في التشريع الجديد المنتظر. فالبداية أن عقود الشغل المؤقتة المبرمة خارج إطار حالات الاستثناء وقبل دخول القانون حيز النفاذ ستتحوّل، إن كانت ما زالت جارية، وبصفة آلية إلى عقود شغل مُستدامة من دون اعتبار آجال انتهائها أو إنهاء الأعمال موضوع التعاقد. ويتمّ في هذه الحالة احتساب الأقدمية المحققة في إطار العقد المؤقت بشرط أن تكون العلاقة الشغلية منتظمة ولا تتخللها فترة انقطاع تتجاوز سنة مسترسلة.
وفي الجواب عن كيفية حماية الأجراء العاملين في مؤسسات مناولة اليد العاملة التي باتت محجّرة، يقترح المشروع اعتبار الأجير مرسما بقوة القانون لدى المؤسسة المستفيدة بداية من تاريخ القانون حيز النفاذ مع احتساب الأقدمية المكتسبة في إطار مناولة اليد العاملة بشرط أن تكون العلاقة الشغلية منتظمة ولا تتخللها فترة انقطاع تتجاوز سنة مسترسلة. وهذا الترسيم هو آلي وهو لا يشترط أي أقدمية، فهو يحمّل المؤسسة المستفيدة مسؤولية تشغيل الأجير بمناولة اليد العاملة بغض النظر عن طبيعة نشاطه لفائدتها.
فيما يقتضي الفصل التاسع من المشروع أن إنهاء عقود الشغل المؤقتة من قبل المؤجر أو تبعًا لمناولة اليد العاملة بداية من تاريخ 6 مارس 2024 وإلى غاية دخول القانون حيز النفاذ موجبًا لترسيم الأجير بقوة القانون لدى المؤسسة المستفيدة إذ بلغت مدة العلاقة الشغلية أربع سنوات أو أكثر. والتاريخ المحدد يعود لإعلان رئيس الدولة مضيّه في منع المناولة على نحو يستهدف هذا الفصل الانتقالي للتصدي للإضرار بحقوق الإجراء الذين تم طردهم لمنعهم من الاستفادة من التشريع الذي كان منتظرًا على ضوء الإعلان الرئاسي السابق. ويضيف المشروع أن المؤسسة التي تماطل في ترسيم الأجير تكون ملزمة بدفع غرامة طرد تقدّر بأجرة شهرين اثنين على كل عام أقدمية على ألا تقلّ الغرامة عن غرامة أربعة أعوام، وهي صيغة أكثر إفادة للأجير من الصيغة التقليدية في مجلة الشغل لاحتساب غرامة الطرد التعسفي بوجه عامّ.
وأخيرًا، يمنح المشروع فترة ثلاثة أشهر لمؤسسات إسداء الخدمات والأشغال لتسوية وضعياتها وفق القانون الجديد ومنها بالخصوص تأمين ضمان مالي لخلاص أجور العملة والاشتراكات في صندوق الضمان الاجتماعي.
خاتمة
من البيّن أن الصبغة الحمائية للأجير تسود مشروع تعديل مجلة الشغل عبر تثبيت الطابع الاستثنائي لعقد الشغل المؤقت ومراجعة نظام العمل بالمناولة في اتجاه منع مناولة اليد العاملة وإعادة تنظيم مناولة العمل في النشاط غير الرئيسي. وبما شمل توسيع نطاق القواعد التشريعية العامة على حساب القواعد الخاصة التي تنظمها عادة الاتفاقيات المشتركة القطاعية. ولكن على ضرورة التدخل التشريعي بوجه عام لوضع حدّ لنزيف استغلال الأجراء في ظل واقع يشهد انتهاكًا لحقوقهم، يبقى إعداد مشروع قانون بطريقة انفرادية يلقي بأثره سلبًا خاصة لما يخلّفه إقصاء الهياكل التمثيلية والمهنية من إخلالات وثغرات على نحو ما ظهر مؤخرًا بعد المصادقة على قانون المسؤولية الطبية وأيضًا قانون تنقيح المجلة التجارية (بخصوص الشيكات). كما أن الاكتفاء بالتعديل التشريعي في مجلة الشغل يظلّ قاصرًا دور رؤية شاملة لمنوال الاستثمار ومنظومة العمل برمّتها بما يشمل الرقابة وما قد يفترض تعزيز صلاحيات تفقدية الشغل. وكلّ ذلك مع لزوم عدم تجاوز رهان الموازنة بين حماية حقوق الأجير من جهة وضمان الحيوية الاقتصادية للمؤسسة من جهة أخرى، خاصة وأن أيّ مساس بهذا التوازن يلقي بأثره على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على حدّ سواء.
هذا وتجدر الملاحظة أن إقصاء المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف في إعداد هذا النص ونقاشه يتعارض صراحة مع الأحكام المنظمة للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي المُحدث منذ عام 2017. إذ يلزم القانون المنظّم له بوجوب استشارته في مشاريع القوانين الشغلية، ويضيف الفصل الثالث أن المجلس يبدي رأيه ضمن تقرير معلل يحيله إلى رئيس الحكومة في أجل شهر من تاريخ توصله بمشروع النص المعروض عليه، وأنه يرفق رأي المجلس وجوبًا بمشاريع القوانين المعروضة على البرلمان. وهو ما لم تحترمه السلطة التنفيذية التي أظهرت منذ سنوات أنها غير معنية بمد اليد أصلًا لأي مفاوضات مع المنظمات المهنية، على نحو لا يقتصر فقط على تعديل مجلة الشغل على أهميته، بل يمتدّ لتعطل استحقاقات اجتماعية بما يشمل تعديل القوانين الأساسية العامة للوظيفة العمومية والأنظمة الأساسية القطاعية.
[1] عائشة السافي، اليد العاملة في عقود المناولة، مجلة العدد والتنمية، العدد 28، 2011 ص. 10.