في تونس لا يمكن ان ننكر خضوع السلطة القضائية تحت يد السلطة التنفيذية لفترة تجاوزت الخمسين سنة. فكانت السلطة التنفيذية تتحكم في كل شيء له علاقة بالقضاء سواء بالقاضي نفسه في تسمية او نقلته او تاديبه او حتى في مسار القضايا الى حد الحكم فيها. فالنيابة العامة تخضع مباشرة الى تعليمات وزارة العدل. وكل قاضي يخالف التعليمات يكون مهددا بجزاء تاديبي تصل الى درجة عزله التام على غرار عزل قاض سنة 2001[1] عقب تصريحاته في رسالة موجهة الى رئيس الجمهورية بتاريخ 06 جويلية/تموز 2001 الذي اقر فيها ان القضاة التونسيين غير مستقلين بصفة تامة وقد اتخذ هذا القرار بعلة الاخلال بواجب التحفظ الواسع في تعريفه والغامض في تطبيقه والذي ترك للادارة صلاحيات واسعة في التدخل في المجال التاديبي.
بعد ثورة 14 جانفي (يناير، كانون الثاني) وبروز ركائز الاساس لمرحلة انتقالية من دولة غابت فيها معالم الدولة الديمقراطية الى دولة القانون والحريات، ظهرت الحاجة الاولية لاصلاح القضاء وفك تبعيته عن السلطة التنفيذية فدستور 1959 لم يتحدث ابدا على استقلالية السلطة القضائية وانما تحدث على استقلالية القاضي فقط. واكبر دليل على هذه التبعية هي ترؤس رئيس الجمهورية للمجلس الاعلى للقضاء.
واهم خطوة لتحقيق هذه الاستقلالية هي وضع قانون يستجيب لمتطلباتها ونسخ القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاة والمجلس الاعلى للقضاء والقانون الاساسي للقضاء وهو قانون كرس هيمنة السلطة التنفيذية على القضائية.
لكن رغم وحدة الهدف "الاستقلالية" الا ان طريقة العمل من اجل تحقيقه اختلفت بين الجهات الثلاث المعنية بهذ الامر (جمعية القضاة التونسيين، نقابة القضاة التونسيين ووزارة العدل).
ولعل مشروع المرسوم المتعلق بالقضاة والمقترح من قبل وزارة العدل لاقى الرفض من قبل نقابة القضاة[2] صراحة. فقد اعتبر احد ممثلي النقابة[3] ان وزارة العدل خالفت قواعد العمل النقابي وتجاهلت النقابة فقد اعدت المشروع وعرضته عليهم كهيكل استشاري، وان التصرف على هذا الوجه انما يعكس تقاليد قديمة ويخالف اتفاقية 1998 المعروفة ب"وثيقة المبادئ و الحقوق الاساسية في شؤون العمل" والتي ذكرت اربعة مبادئ "اساسية"، تتجلى في حرية التجمع، والتفاوض الجماعي، وانهاء كل اشكال التمييز الوظيفي، فضلا عن منع العمل القسري وعمل الاطفال. في حين ان الجمعية[4] لزمت الصمت. وقد اكدت وزارة العدل ان ما قدم لكلا الطرفين مجرد اقتراح وسيتم تكوين لجنة مشتركة لتحديد الصياغة النهائية لمشروع هذا المرسوم.
يحتوي هذا المشروع على 9 ابواب و53 فصلا من احكام عامة وحقوق وواجبات القاضي وزي القاضي واحكام الانتداب في هذه المهنة وحكم الترقية ومنح الاعداد الصناعية وفي وضعية القاضي وانهاء مهامه والجرايات والعطل والرخص واخيرا احكام تأديب القاضي.
وقد تعرض هذا المشروع للمعارضة والانتقاد من حيث الشكل والأصل:
فمن ناحية الشكل: اعتبر توقيت عرض المشروع غير ملائم خصوصا وان تونس تعيش مرحلة انتقالية. فالنقطة التي تطرح الاستفهام هي كيف سيقع اعداد القانون الاساسي للقضاة خارج مقاربة تحدد مكانة السلطة القضائية في الدستور وتنظم جميع هياكل المنظومة القضائية بما في ذلك المجلس الاعلى للقضاء. هذا بالاضافة الى تقديم المشروع من طرف وزارة العدل وهو طرف يمثل السلطة التنفيذية ولا علاقة له بالسلطة القضائية.
اما اصلا: فقد تمثلت اهم التحويرات في تسمية القضاة (1) و اداء اليمين (2) ووضعية القضاة الواقفين بالنسبة لوزارة العدل (3) وشروط الالتحاق (4) وانهاء مهام القضاة (5) والحق النقابي للقاضي (6) وترقية القضاة (7).
1- تسمية القضاة
اقتضى الفصل الاول[5]من هذا المشروع ان تسمية القضاة وترقيتهم ونقلتهم وانهاء مهامهم عدا صورة التقاعد تكون بامر من رئيس الجمهورية وهو امر مقبول خصوصا وانها تكون باقتراح من المجلس الاعلى للقضاء حسب صريح عبارات هذا الفصل "مع مراعاة مقتضيات الفصل 25 من القانون الاساسي للمجلس الاعلى للقضاء". فقد اعتبر احد القضاة[6] ان صيغة الامر في هذا الشان يعطي القوة التنفيذية والالزامية للقرار المتخذ (تسمية، ترقية …) من يوم صدوره و النقطة الاسجابية هي انه بالامكان الطعن في مثل هذه الاوامر امام المحكمة الادارية وبالتالي تبقى اعمال السلطة التنفيذية تحت المراقبة وقابلة للالغاء كلما تجاوزت حدودها.
2. اداء اليمين
تناول الفصل الثاني[7]مسألة اداء اليمين. فمقارنة مع قانون 1967 الذي ينصّ في فصله الحادي عشر ان اليمين يقع اداؤه امام محكمة الاستئناف بتونس في حين انه حسب هذا المشروع يكون اداء اليمين امام محكمة التعقيب بجلسة علنية وهو اصلاح وهمي ربما لا يزيد ولا ينقص من شيء. كما ان نصّ اليمين طاله التغيير فبعدما كان القسم على قيام القاضي بوظائفه بكل اخلاص وامانة اصبح يقسم بقيامه بوظائفه بكل حياد ونزاهة تأكيدا على استقلال القاضي ولا تأثير عليه من اي جهة، هذا الى جانب التزامه بصون استقلالية القضاء وهي اضافة جديدة تأكيدا على الوعي بأهمية هذه الاستقلالية لدى القاضي وتأثيرها على جودة حكمه وحياده.
3. وضعية القضاة الواقفين (النيابة العمومية)
هنا، نجد ان الفصل السادس[8]ابقى بصفة جلية على تدخل السلطة التنفيذية في الشأن القضائي من خلال اخضاع قضاة النيابة العمومية لاشراف وزير العدل، وهو امر خيب ظن القضاة واجّج استنكارهم لهذا المشروع خصوصا لتنافيه مع تطلعاتهم نحو هذه الاستقلالية. فقد اكد احد القضاة [9] انه بالنسبة لقضاة النيابة العمومية يجب ان تخضع مسألة مراقبتهم لمبدأ التسلسل الرئاسي الى حدود المدعي العام لمحكمة التعقيب لا غير، هذا الى جانب ضرورة ان تكون هذه الرقابة من الرئيس المباشر والمرؤوس اي ان قاضي التحقيق يخضع فقط لتعليمات وكيل الجمهورية بنفس المحكمة ومراقبته وليس لتعليمات الوكيل العام بمحكمة الاستئناف.
4. شروط الالتحاق بالمهنة
بالنسبة لشروط الالتحاق بالمهنة اشترط الفصل 27[10]من هذا المشروع ان تكون سن المترشح خمسة وعشرين عاما على الاقل وثمانية وثلاثين عاما على الاكثر في تاريخ اجراء مناظرة الدخول للمعهد الاعلى للقضاء بعدما كانت السن الادنى حسب قانون 1967 23 سنة واقصاها 40 سنة .كما اعتبر احد القضاة[11] ان هذا التحديد انما هو مخالف لمنظمة العمل الدولية والتي اعتبرت ان كل تحديد في السن سواء في الاقل او في الاكثر من قبيل التمييز، فكل شرط تمييزي في الدخول للعمل يعتبر لاغيا فكيف يمكن لشاب في سن الثامنة عشر ان ينتخب وان يكون مسؤولا على كل تصرفاته القانونية والغير قانونية خصوصا بعد توحيد سن الرشد ب-18 سنة ولا يمكن له ان يترشح للالتحاق كقاض!!! هذا الى جانب مخالفة هذا الفصل لمقتضيات قرار السيد وزير العدل[12]المتعلق بضبط برنامج وشروط مناظرة الدخول للدراسة بالمعهد الاعلى للقضاء فقد اشترط هذا المشروع مستوى تعليميا معينا بان يكون المترشح محرزا على شهادة الماجستير او الدراسات المعمقة في القانون او شهادة معادلة لهما وهو عكس ما اعتمده المعهد الاعلى للقضاء في احراز المترشح على شهادة الاستاذية او الاجازة في القانون.
5.انهاء مهام القضاة
ابقى الفصل 42[13]من هذا المشروع على تبعية وضعية القاضي للسلطة التنفيذية من خلال مؤسسة الاعفاء في باب انهاء مهام القاضي وهو ما يعني انه يمكن الاستغناء عن القاضي في اي وقت ودون اي مبرر وبصورة تعسفية تمنع حتى على القاضي الحق في الدفاع عن نفسه.
6. الحق النقابي للقاضي
اما بالنسبة للحق النقابي الذي اعترفت به وزارة العدل كحق لكل قاض وهو امر جديد مقارنة مع قانون 1967 يؤكد نية وزارة العدل في تجاوز هذه المسألة والسعي في الاعتراف بهيكل نقابي يدافع على حقوق القاضي المهنية لكن هذه النية لا تجد تطبيقا على مستوى الواقع فكيف تحرم القاضي من حق الاضراب [14] وهو من اهم ركائز العمل النقابي وآلية الضغط في المطالبة بالحقوق؟ هل الخوف حقا من تعطيل المصالح العمومية هو السبب لهذا المنع؟
اكد احد القضاة[15] ان الاضراب حق يدخل في الحق النقابي والذي بدوره يجب ان يكون مكفولا في الدستور لاهميته في الدفاع عن حقوق العملة والموظفين. والقاضي هو عون عمومي يحتاج الى آليات العمل النقابي للدفاع عن مصالحهم. كما اكد القاضي نفسه ان الاضراب لم يكن ابدا ممنوعا بالنسبة للقضاة فقد منع الاضراب فقط سنة 1985 اثر اضراب جمعية القضاة الشبان.كما اكد على ان الممنوع هو الاعمال الجماعية ذات الصبغة الاحتجاجية التي من شأنها تعطيل المصالح العمومية في حين ان الاضراب بالنسبة للقضاة سيكون شرعيا، مدروسا ومسبقا يقع الاعلام به. هذا الى جانب توفير حفظ للمصالح الاساسية الحيوية في المحاكم وذلك بتوفير يوم الاضراب: قاض في النيابة العمومية، قاض في الاستعجالي وقاض للاطفال تفاديا لتعطّل مصالح المواطنين. وقد صرح نفس القاضي انه منذ سنة 1966 الى اليوم نعاني من حالة الفراغ بالنسبة للامر المحدد لقائمة المصالح الحيوية التي يمنع فيها الاضراب والتي يجوز فيها التسخير فلا وجود الى حد اليوم لقائمة اسمية بهذه المصالح.
7. ترقية القضاة
ان الترقية الآلية هي اكبر ضمان لتحقيق هذه الاستقلالية والتي لم يتعرض لها هذا المشروع[16]بل تعرض الى منح الاعداد الصناعية. فلا تكون الترقية آلية حسب الفصل 33 الا بعد توفر شروط العدد الاصطناعي وقضاء مدة 12 عاما في المباشرة الفعلية في الرتبة الاولى مثلا .
[1]-امر رئيس الجمهورية بتاريخ 22 جانفي 2002 الرائد الرسمي التونسي عدد 8 سنة 2002.
[2]-اكدت النقابة في بيان اصدرته موقفها المبدئي الرافض لتولي الحكومة الانتقالية اصدار مراسيم خارجة عن صلاحياتها المتمثلة اساسا في تصريف الاعمال مبينة ان القانون الاساسي للقضاة يمثل شانا وطنيا يتعين النظر فيه من قبل هيئة تشريعية شرعية تستند الى انتخابات نزيهة تعكس ارادة الشعب وتحقق تطلعاته في ارساء مقومات سلطة قضائية مستقلة. كما اعتبرت ان المشروع هزيل لا يستجيب الى تطلعات القضاة ويكرس بصفة جلية هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء.وكالة تونس افريقيا للانباء الالكترونيات ،5 سبتمبر 2011.
[3]– السيد عصام الاحمر قاضي باحث بمكتب الدراسات القانونية.
[4]– في ندوة لجمعية القضاة مرت مسالة هذا المشروع مرور الكرام فقد صرح رئيسها السيد احمد الرحموني " ان مشروع القانون قد حافظ على 70 بالمائة من قانون 67".الصباح 07 سبتمبر 2011.
[5]-يقول الفصل:"تسمية القضاة وترقيتهم ونقلتهم وانهاء مهامهم عدا صورة التقاعد، تكون بامر من رئيس الجمهورية مع مراعاة مقتضيات الفصل 25 من القانون الاساسي للمجلس الاعلى للقضاء".
[6]-السيد عصام الاحمر قاضي باحث بمركز الدراسات القانونية و القضائية و عضو بنقابةالقضاة.
–[7]الفصل 2: يؤدي القضاة عند تعيينهم لاول مرة وقبل تنصيبهم في وظائفهم اليمين التالية"
:اقسم بالله العظيم ان اقوم بوظائفي بكل حياد ونزاهة وان التزم بصون استقلالية القضاء وبعدم افشاء سر المفاوضات اثناء تولي القضاء وبعده وان يكون سلوكي سلوك القاضي الامين الشريف."
[8]– الفصل 6: يكون القضاة الجالسون تحت ادارة رئيس المحكمة التابعين له ويكون قضاة النيابة العمومية خاضعين لادارة رؤسائهم المباشرين ومراقبتهم وتحت اشراف وزير العدل على ان لا يحجب ذلك حرية كلمتهم اثناء الجلسة وتكون التعليمات كتابية مهما كانت الجهة الصادرة عنها
.
الفصل
[9]-السيد عصام الاحمر قاضي باحث بمكتب الدراسات القانونية.
[10]– الفصل 27: يقع انتداب القضاة من بين حملة شهادة المعهد الاعلى للقضاء:
2- ان تكون سنهم خمسة وعشرون عاما على الاقل وثمانية وثلاثين عاما على الاكثر في تاريخ اجراء المناظرة
.
4- ان يكونوا محرزين على شهادة الماجستير او الدراسات المعمقة في القانون او شهادة معادلة لهما
.
[11]– السيد عصام الاحمر قاضي باحث بمركز الدراسات القانونية و القضائية و عضو بنقابةالقضاة.
[12]– قرار السيد وزير العدل المؤرخ في 27 ماي 1991 المتعلق بضبط برنامج وشروط مناظرة الدخول للدراسة بالمعهد الاعلى للقضاء، كما وقع تنقيحه بالقرار المؤرخ في 9 مارس 1995
.
[13]– ان تنهية مباشرة العمل بصفة باتة المفضية الى التشطيب من الاطار وفقدان صفة قاض تكون باحد الاسباب التالية
:
4- الاعفاء
[14]– فصل 11 : : "يجوز للقضاة، بهدف الدفاع عن مصالحهم المهنية، ممارسة الحقوق النقابية، ولا يجوز لهم الاضراب عن العمل او التظاهر."
[15]– السيد عصام الاحمر قاضي باحث بمركز الدراسات القانونية و القضائية و عضو بنقابةالقضاة.
[16]-الفصل 33: لا يمكن ترقية اي قاض لرتبة اعلى من رتبته ان لم يكن مرسما بجدول الكفاءة
.
ويحرر جدول الكفاءة ويراجع كل سنة من طرف الهيئة العليا للقضاة طبق احكام الفصل 26 من القانون الاساسي للمجلس الاعلى للقضاء وترتب به الاسماء حسب الحروف الهجائية
.
ولا يمكن تعيين القاضي في الرتبة التالية الا بعد قضاء مدة قدرها عشر سنوات على الاقل في المباشرة الفعلية بالرتبة الاولى وذلك بالاعتماد على معايير الترقية المشار اليها في الفصل 37 من هذا القانون، على ان تكون الترقية الية بعد قضاء مدة قدرها 12 عاما في المباشرة الفعلية بالرتبة الاولى.