تُقدّم مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة قراءة نقديّة في مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا المعروف اختزالًا باسم “مشروع إلماد”، وهو مشروع أعلنت عنه رسميا المفوضيّة الأوروبية في ديسمبر 2022، يهدف إلى تركيز بنية تحتيّة لنقل الكهرباء والربط بين شبكات الكهرباء في أوروبا وشمال أفريقيا، بكُلفة 307 مليون يورو. يطرح أصحاب الدّراسة إشكاليّات مُتعلّقة بهذا المشروع، ضمن مقاربتهم النقديّة للسياسات الرسمية القائمة على خوصصة الطاقة والخضوع لتوصيات المؤسسات البنكية والمالية العالمية، بالإضافة إلى تعويل هذه الفئة من المشاريع على الطاقات المتجدّدة، وعلى رأسها طاقة الشمس وطاقة الرياح، في “استمرار للسردية النيوليبرالية الهادفة لتزويد دول الشمال بالمواد الأولية، ومن ضمنها مصادر الطاقة، تحت عناوين برّاقة ومغرية، ولكنّ مضمونها واحد، يتمثل في تكريس التبعية وتعويض آليات الاستعمار القديم بأخرى جديدة”، حسب ما جاء في الدراسة[1].
سبق وأن أصدرت رئاسة الجمهورية أمرًا، في 20 نوفمبر 2024، يتعلّق بالمصادقة على اتفاق الضمان عند أول طلب، المبرم في لوكسمبورغ بتاريخ 4 أفريل 2024 بين الجمهورية التونسية والبنك الأوروبي للاستثمار والمتعلق بالقرض المسند للشركة التونسية للكهرباء والغاز بمبلغ قدره خمسة وأربعون مليون (45.000.000) أورو، للمساهمة في تمويل مشروع الربط الكهربائيّ بين تونس وإيطاليا، ما يعني ضمنيًّا أنّ هذا المشروع تجاوز حدّ إعلان النوايا ومرّ إلى مرحلة التفعيل. ويهدف هذا المشروع إلى “ضمان الأمن الطّاقي والإسهام في الحدّ من انعكاسات الانحباس الحراريّ، وتطوير البنية التحتية في هذا المجال، إلى جانب تعزيز قدرة البلاد على تصدير الكهرباء المُنتَجة من الطاقة المتجدّدة ومجابهة ارتفاع الطّلب خصوصًا في فترات ذروة الاستهلاك”، وفق ما ورد في الوثيقة المصاحبة لمشروع القانون الذي صادق عليه البرلمان ونُشر بالرائد الرسمي.
فحوى المشروع
يتكوّن المشروع من محطّتَين لتحويل التّيار المستمرّ إلى تيّار متردّد، تقع المحطّة الأولى في منطقة “الملاعبي” في منزل تميم في الوطن القبلي، والثانية في بارتانا في جزيرة صقلّية، وكابل بحري عبر مسار طوله 200 كيلومتر يربط بين تونس وإيطاليا، إلى جانب خطّيْن كهربائيَّين مزدوجَين ومحطّة مصفّحة لتحويل الماء في قرمبالية، بكلفة جمليّة تُقدَّر بـ10114.31 مليون يورو موزّعة بين الشركة التونسية للكهرباء والغاز بمبلغ 528.4 مليون يورو، ونظيرتها الإيطالية شركة تيرنا TERNA بمبلغ 432 مليون يورو.
إلماد ELMED هو اسم شركة تونسية إيطاليّة أُحدثت بين 2008 و2009، في إطار مشروع الإنتاج المستقلّ للكهرباء، الذي يهدف إلى خوصصة إنتاج هذه الطاقة، وفق ما تشير إليه دراسة مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة. كانت الفكرة في بدايتها، مع إحداث المشروع سنة 2008، تقوم على تصدير الطاقة الكهربائية من تونس إلى إيطاليا عبر إحداث مُنشأة خاصّة، تُوظّف ثلث الإنتاج للاستهلاك المحلّي وتوجّه الثّلثين المتبقّيَين نحو إيطاليا. وتعرض الدراسة، وفقا لبعض الوثائق التي تحصّلت عليها، أنّ المشروع يتضمّن في مسوّدته الأولى إحداث محطّة لإنتاج الكهرباء بقدرة 1200 ميغاوات تُوزّع بمقدار 800 ميغاوات لإيطاليا و400 ميغاوات لتونس، وتبيع المُنشأة حصّتها للشركة التونسية للكهرباء والغاز، عبر عقودٍ تُلزم الطّرف العموميّ بالشراء. ومن ناحية ثانية، ينصّ المشروع على إحداث خطّ كهربائيّ بحريّ يربط بين تونس وإيطاليا بقُدرة طاقيّة تعادل 1000 ميغاوات.
وحسب وثيقة التقييم المُسبق للمشروع الّتي تمّت الإشارة إليها في الدّراسة، فإنّ “مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا إلى ربــط أســواق الكهربــاء في تونــس وإيطاليا، وتمكين الشركة التونسية للكهرباء والغاز مـن تلبيـة بعـض الاحتياجات الأساسية للبلاد من الاستثمارات والطاقة”، إلى جانب مساعدة تونس على تنويع إمداداتها من الكهرباء حتّى لا تقتصر فقط على الغاز الطّبيعي، وتعزيز أمنها الطاقي، من خلال تقوية اندماج الطاقات المتجدّدة وإدارة تدفّقها مع الارتباط المباشر بسوق الكهرباء الأوروبي. فيما ترى مجموعة العمل من أجل ديمقراطية المناخ أنّ التوريد، بمعنى تدفّق الكهرباء من إيطاليا إلى تونس، هو الغاية الأساسية لمشروع “إلماد”، وهو ما سيجعل من الشركة التونسية للكهرباء والغاز “مجرّد وسيط” بين المنتجين والمستهلكين، وفق الدراسة.
وبخصوص إتاحة فرص استثمار جديدة للشركات التونسية في مجال الطاقة المتجدّدة، فإنّ مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة تشير إلى أنّ المؤسسات المُنتجة للطاقة في إطار مشروع إلماد ستكون أجنبيّة بالأساس، وفي أغلبها أوروبية. ويُفسَّر غياب الشركات التونسية بعدم قدرتها على الاستثمار في مشاريع ضخمة للنفاذ إلى السوق الأوروبية ومنافسة الشركات الكبرى العالميّة.
وبعد 2011، تغيّرت بعض ملامح المشروع لأسباب موضوعيّة مرتبطة بتغيّر الفاعلين السياسيّين في تونس بعد الثورة، وأيضًا لأسباب تتعلّق بالسوق الإيطالية في حدّ ذاتها، نظرًا لكونها استثمرت في تركيز محطات جديدة لإنتاج الكهرباء عبر الطاقات المتجدّدة في الجنوب الإيطالي، وهو ما من شأنه أن يُرفّع من مخاطر الاستثمار في مشاريع من هذا النوع. هذه التغيّرات استوجبتْ إجراء تعديلات في بنود المشروع الأوّلي، تتعلّق أساسا بإلغاء البند المتعلّق بتركيز منشأة خاصّة لإنتاج الكهرباء، مع تخفيض حجـم القـدرة الجمليـة للخـط الرابـط التي كانت مُبرمجة في الصيغة الأولى للمشروع، لتتراجع من 1000 ميغاوات إلى 600 ميغاوات، وعدم الاقتصار على تصدير الطاقة من تونس إلى إيطاليا وإدراج إمكانية التوريد من أوروبا إلى تونس، بحيث يصبح الخطّ الرابط مزدوج الاتّجاه، وفق الدّراسة.
وجدت هذه الفكرة أرضيّة ملائمة بعد تبنّي الدّولة التونسية، منذ سنوات، سرديّة الانتقال الطّاقي عبر سلسلة من القوانين والإجراءات المرتكزة أساسا على “المخطط الشمسي التونسي” الذي يهدف إلى تركيز الطاقات المتجدّدة بتونس في أفق سنة 2030، والمساهمات المحدّدة وطنيًّا للحدّ من التغيّرات المناخية، والاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر.
إشكاليّات المشروع
تبعًا لذلك، تحصّلت الشركة التونسية للكهرباء والغاز على مساعدات وقروض مالية من المؤسسات الماليّة العالميّة للتسريع في تنفيذ بنود المشروع، بالإضافة إلى التعويل على تمويلاتها الذاتية المُقدَّرة بـ13.5 مليون يورو. وتأتي القروض والهبات أساسًا من المؤسسات الماليّة العالميّة، مثل البنك العالمي الذي قدّم 247 مليون يورو في شكل قروض و6 مليون يورو في شكل هبة، والبنك الأوروبي للاستثمار بين قرض قيمته 45 مليون يورو وهبة بقيمة 12 مليون يورو، والصندوق الأخضر، والاتحاد الأوروبي بهبة قدرها 153.8 مليون يورو، وهي القيمة ذاتُها التي منحها الاتحاد الأوروبي لإيطاليا، بالإضافة إلى تمويل ذاتي بلغ 272.2 مليون يورو. وقد أكّد البنك العالميّ في وثيقة التقييم المسبق لمشروع الربط أنّ هذا الأخير “سيساعد على تنويع إمدادات تونس من الكهرباء بعيدًا عن الغاز الطّبيعي، وعلى تعزيز أمن الطّاقة في تونس، لا سيّما من خلال تقوية اندماج الطّاقات المتجدّدة وإدارة تدفّقها مع الارتباط المباشر بسوق الكهرباء الأوروبي”. ويُعدّ هذا التعليل من بين أسباب رفض مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة لهذا المشروع، على اعتبار أنّه يُشكّل امتدادًا لإملاءات الجهات المانحة على حساب المصلحة الوطنيّة.
تفترض هذه القروض ارتفاع نسبة مديونية الشركة التونسية للكهرباء والغاز المُثقَلة أصلًا بالدّيون لدى حرفائها، إذ تصل نسبة مديونيّتها لدى البنوك إلى 2300 مليون يورو في سنة 2019، وفق الأرقام التي تشير إليها الدراسة. وهكذا فإنّ هذا المشروع سيؤدّي إلى استنزاف العملة الصعبة، لأنّ شركة الكهرباء والغاز ستجد نفسها مضطرّة إلى الاقتراض من المؤسسات المالية العالميّة للإيفاء بتعهّداتها الماليّة، نظرًا لأنّها لا تمتلك احتياطيًّا من العملة الصعبة، وكلّ مداخيلها بالدينار التونسي. وفي هذا الصّدد، تنفي الدراسة ما يُقال عن أهمية المشروع في تعزيز مداخيل العملة الصعبة وتعتبره “مجرّد لغو لا يمتّ للواقع بصلة، بالإضافة إلى مزيد رهن الشركة التونسية للكهرباء والغاز للمؤسسات المالية العالمية وتعريضها لمخاطر دون عوائد حقيقية لها”[2].
كما يطرح هذا المشروع، بالنسبة إلى مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة إشكالًا يتعلّق بالعجز الطّاقي، إذ تشير الدراسة إلى أنّ نسبة الاستقلالية الطاقية بلغ سنة 2023 ما يناهز 48% من نسبة الطاقة الأولية، فيما تعتمد تونس في إنتاج الطاقة الكهربائية على الغاز الطبيعي الذي تستورده من الجزائر بنسبة 95%، مقابل التراجع المتواصل في الإنتاج المحلّي للغاز الطبيعي. يُشكّل هذا العجز عبءًا على ميزانية الدّولة وعلى التوازنات الماليّة للشركات العمومية التي تستثمر في مجال الطّاقة. وتستند الدراسة إلى الأرقام الرسمية التي أوردتها النشرية الرسمية التابعة لوزارة الطاقة والمناجم، إذ تذكر أنّ قيمة العجز الطاقي قد بلغت في ديسمبر 2023 ما يُناهز 2725 مليون يورو، في حين أنّ نسبة واردات الغاز الطبيعي من الجزائر ناهزت 1065 مليون يورو خلال سنة 2023. وتعتبر الدراسة أنّ هذه الوضعية أصبحت ذريعة للسلطة لتطبيق مشروع الرّبط الكهربائي مع إيطاليا في سبيل الحدّ من التعويل على الجزائر لاستيراد الغاز الطبيعي، على اعتبار أنّ نسبة 72% من كمية الغاز الطبيعي المُتاحة تُستخدَم في إنتاج الكهرباء. وبهذا يكون الحلّ مشروع الربط مع إيطاليا عبر التخلي عن استيراد الغاز الطبيعي من الجزائر ليصبح استيرادًا مباشرًا للكهرباء من إيطاليا، فتتحوّل بذلك الشركة التونسية للكهرباء والغاز من منتج إلى وسيط، وهو سيولّد تبعيّة أخرى للأسواق الأوروبية.
تقترح الدراسة التخلّي عن منطق “سلعنة الطاقة” وتدعيم الإنتاج العمومي المحليّ من الكهرباء، بالإضافة إلى مراجعة التشريعات الوطنية المتعلّقة بكبفيّة التصرف في فوائض الإنتاج الوطني من الكهرباء وتوجيهها نحو التصدير، وهو ما يدفع إلى إعادة التفكير في دور الشركة التونسية للكهرباء والغاز في علاقة بمنظومة الربط، وتنقيح قانون سنة 2015 المتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة المملوكة للخواصّ بما يسمح بدمج نظامَيْ الإنتاج المحلّي والتصدير الّذي يجب أن يقتصر على الفوائض وعبر وساطة الشركة التونسية للكهرباء والغاز، حتّى تصبح الجهة المتصرّفة في تصدير الفوائض عبر شرائها من المنتجين الخواصّ.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF
[1] دراسة “تونس ومشروع إلماد: ربط كهربائي مع أوروبا أم ارتباط بالأجندا الأوروبية للطاقة”، ص.12
[2] المصدر السابق، ص.21