“حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف”، كان عنوان التقرير الذي أصدره البنك الدولي منذ نحو سنة (23 تشرين الثاني 2022). حينها أكد التقرير على “ضرورة المضي قدماً في توزيع الخسائر المالية بصورة أكثر إنصافاً للمساعدة في وضع الاقتصاد اللبناني على مسار التعافي”.
قبل ذلك التاريخ بنحو 6 أشهر كان صندوق النقد الدولي قد أعلن أيضاً عن إنجاز الاتفاق الأولي مع الدولة اللبنانية بشأن “السياسات الاقتصادية الشاملة” (7/4/2022)، التي تتضمن “موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة المصارف، تقرّ بالخسائر الكبيرة في القطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة، وموافقة مجلس النواب على تنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة المصارف وبدء عملية إعادة القطاع المالي إلى حالته الصحية”.
بعد سنة على صدور تقرير البنك الدولي وسنة ونصف على توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لم يتغير شيء، وإن برز تطور بسيط لا يوحي بأن القرار بوضع مشاريع قوانين الكابيتال كونترول والتوازن المالي وهيكلة المصارف على الرف قد تغيّر. فقد شهدت جلسة مجلس الوزراء الأخيرة (29/11/2023) عرض نسخة معدّلة من مشروع قانون هيكلة المصارف. وفيما تخلل الجلسة مناقشة محدودة للمشروع، فقد تقرر تأجيل البحث به إلى الثلاثاء المقبل وتخصيص جلسة خاصة لذلك، بحيث يكون كل الوزراء قد اطّلعوا على مضمونه. فقد شهدت الجلسة 3 اعتراضات متفاوتة على مضمون المشروع. أولها اعتراض جمعية المصارف التي شنت حرباً عليه وصلت إلى حد تهديد الطبقة السياسية، ملمّحة إلى أنه إن وقع أصحاب المصارف فلن يقعوا لوحدهم، لاسيما عبر الإشارة إلى أنه “لا يجوز إعفاء كل المشاركين في القرارات المقررة لمصير المصارف من أية مسؤولية عن أخطائهم مما يشجعهم على الإهمال واللامبالاة، بل يجب على كل منهم أن يتحمّل مسؤولية تصرفاته في هذه الظروف العصيبة”. والجمعية، في اعتراضها، تخلّت عن شمّاعة حماية أموال المودعين، كما رفضت حتى الاعتراف بحاجة المصارف إلى إصلاح، لتذهب مباشرة إلى التعبير عن قلقها الشديد من تحميل إدارات هذه المصارف المسؤولية عن الخسائر، ودائماً بحجة وجوب تحميل الدولة المسؤولية. في الجلسة، لاقت ملاحظات وزير المهجرين عصام شرف الدين ملاحظات الجمعية، فعرض دراستين أعدّهما كل من نبيل نجيم وعماد عكوش تذهبان نحو التحذير من المشروع. واعتبر شرف الدين أن هذا المشروع يهدف إلى إفلاس المصارف لا إلى هيكلتها، كما يُشكّل شطباً مقنّعاً للودائع بحجة إعادة الرسملة. في المقابل، كانت ملاحظات حزب الله المقدّمة من وزير العمل ابراهيم بيرم أكثر تقنية، كاقتراح أن تكون الهيئة الخاصة بإعادة الهيكلة هيئة مستقلة استثنائية، لا أن تكون الهيئة المصرفية العليا مع بعض التعديلات في عضويتها كما ينص المشروع الحالي. كذلك اقترح أن يكون تمويل الهيئة من الموازنة العامة لا من مصرف لبنان.
وفيما وصف سعادة ملاحظات حزب الله بالمقبولة والمنطقية، أبلغ “المفكرة القانونية” أن ملاحظات شرف الدين لا تقع في محلها، مذكّراً أن المصارف هي بالفعل مفلسة حالياً والقانون يهدف إلى إنعاشها لا العكس. وقال إن المشروع تنظيمي بحت، ولا علاقة له بأموال المودعين كما يدّعي المتضررون منه، مشيراً إلى أن قانون التوازن المالي هو الذي يعالج مسألة الودائع لا قانون الهيكلة، الذي يكتفي بوضع آليات لتقييم المصارف وتحديد سبل إنقاذها أو تصفيتها…
يذكّر سعادة أنه ليس هو من أعدّ المشروع، بل متخصصون مصرفيون، وهو قدّمه بصفته مكلفاً بإدارة الملف. لكن مع ذلك، ينفي أن يكون قد أشار في الجلسة إلى عدم تبنيه المشروع أو أنه سيعدّله قبل يوم الثلاثاء، داعياً مجلس الوزراء إلى اتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً، على أن يتحمل مسؤولية قراره. كما دعا إلى عدم الاطمئنان إلى استقرار الوضع الاقتصادي، مشيراً إلى أنه في حال لم ننفذ الإصلاحات فإن أحداً لا يعلم متى يكون الانهيار الكبير. وأوضح في الوقت نفسه أن الإصلاح مطلوب بغض النظر عما إذا أرادت الحكومة توقيع اتفاق مع صندوق النقد أم لا.
اقتراحا قانون للهيكلة
للتذكير، فإن نسخة أولى من المشروع سبق أن أُعدت بُعيد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون والدخول في فترة تصريف الأعمال. ولمّا كان حينها لا يزال الخلاف على صلاحيات الحكومة في أوجّه، فقد تقدّم النائبان جورج بوشكيان وأحمد رستم باقتراح قانون يتبنى أغلب ما ورد في المشروع (21/12/2023)، حيث أحيل في اليوم نفسه إلى لجنة المال والموازنة، لكن الأخيرة لم تبتّ به. وفي جلسة 4 أيلول 2023، أعلن رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان أنه يتم “التفاوض على الملف مجدداً من قبل الحكومة مع صندوق النقد الدولي، ما يعني أن الصيغة التي أمامنا يمكن أن تتغيّر، أو لا يوافق عليها صندوق النقد”. بعد ذلك، عمد بوشكيان إلى استرداد الاقتراح “بسبب ما استجدّ من أوضاع قانونية ومالية واقتصادية، تحتم بعض التعديلات الجوهرية”، واستبداله باقتراح قانون جديد (5/10/2023)، تبيّن أنه مشابه إلى حدّ كبير لمسودة مشروع القانون الذي طرح على مجلس الوزراء مؤخراً. وهو يختلف عنه تحديداً في مسألة عضوية الهيئة المختصة بإعادة الهيكلة. علماً أن الاقتراح أحيل إلى لجنة المال في 11 تشرين الأول، ولم يعرض للنقاش بعد.
تجدر الإشارة إلى أن الاقتراح كما مسودة مشروع القانون يهدفان، بحسب المادة الثانية منه إلى:
- استعادة وحماية ثقة الجمهور بالقطاع المصرفي وتعزيزها.
- حماية استقرار النظام المالي وتعزيزه.
- استمرارية الخدمات المصرفية ووظائف المصرف الأساسية.
- صون استدامة المالية العامة.
وللوصول إلى هذه الأهداف، يُخضع القانون المصارف إلى تقييم من قبل هيئة مختصّة، تنتج عنه عمليتان، إما إصلاح المصرف أو تصفيته، على أن يسبق ذلك عملية تقييم غايتها تحديد القيمة الصافية لموجودات المصارف وحجم الخسائر. وعلى أن ينتج عن كل خيار موجبات ومسؤوليات محددة.
اليد الطولى للمصارف
إطلاق جمعية المصارف النار على المشروع المعدّ من قبل لجنة الرقابة على المصارف ومن مصرف لبنان لا يعني أنّه لا يراعي مصلحة المصارف، بل يعني أنه لا يراعيها بالكامل. علماً أن مصادر مطّلعة تؤكد أن البيان الذي وقّعه رئيس الجمعية سمير صفير لا يعبّر عن كل المصارف بل عن جزء منها ترفض أي إجراء قد يؤدي إلى رفع السرية المصرفية عن حساباتها، بما قد يؤدي إلى انكشاف قضايا أخرى. في حين أنّ ثمة فئة بدأت تقتنع أنه لا بد من تقديم التضحيات وهي تبدي استعدادها إلى إعادة رسملة المصارف.
هذا الخلاف داخل الجسم المصرفي، لا يغني عن البحث في التعديلات التي أقرت على المشروع أو في الصيغة الأخيرة التي خرج بها. التعديل الأول يتعلق بالصياغة والعناوين المعتمدة، إضافة إلى تعديل طريقة عرض البنود والأبواب. لكن في المضمون يتبين أن المشروع يهدف إلى معالجة حالتين: الأولى عامة وتطبق في كل حين وتشمل مبادئ إعادة الهيكلة أو التصفية بالمطلق، والحالة الثانية يتطرق لها الباب 11 (“أحكام استثنائية”)، وتتعلق بالفترة الاستثنائية الحالية. وعلى سبيل المثال، في الحالة العادية تكون مؤسسة ضمان الودائع مسؤولة عن تسديد المبالغ المضمونة في حين أن لا دور لها في الحالة الاستثنائية حيث تتولى لجنة التصفية عملية التسديد في حال تصفية المصرف، على أن يكون المبلغ المحمي من ودائع العملاء في حال التصفية هو حصيلة هذه التصفية (المادة 47) وليس مبلغاً ثابتاً كما في حالة مؤسسة ضمان الودائع.
بالرغم من أنّ المشروع الجديد يستثني ممثّلي المصارف من عضوية “الهيئة المختصة بإصلاح وضع المصارف”، كما يمنع أي عضو من أن يكون على علاقة بأي مصرف إن كان مساهماً أو عضواً في مجلس الإدارة أو مستشاراً أو مقترضاً أو مودعاً كبيراً أو قريباً لأي مساهم كبير أو عضو في مجلس الإدارة والإدارة العليا، إلا أن ذلك لم يجده المحامي كريم ضاهر كافياً للتخلّص من تأثير المصارف. وهو يشك في أن يخرج القرار من أيديهم، خاصة أن اشتراط أن لا يكون عضو الهيئة ممن كانوا من كبار المساهمين أو من أعضاء مجلس الإدارة محدود بسنتين قبل التعيين. اللافت أيضاً أن مدير المالية العامة لم يعد عضواً في الهيئة خلافاً للمسودة الأولى للمشروع. أما الأخطر فهو التخلي عن الاستثناء الذي يطال الصناديق مثل الضمان الاجتماعي وصناديق التعاضد. فالمشروع الجديد لا يُميّز ودائعها عن الودائع الأخرى، ما يعني عملياً تطيير ودائع هذه الصناديق أيضاً ووضع المستفيدين منها أمام المجهول.
فترات سماح للتهرب من الحجز الاحتياطي
في المادة 32 من المشروع السابق الذي أعدته الحكومة كان واضحاً أن طلب الحجز الاحتياطي على أموال أعضاء مجالس إدارة المصارف وكبار المساهمين والإدارة العليا والمفوضين بالتوقيع، لم يكن جدياً،لأنه كان يتطلب إثبات المسؤولية الجزائية لهؤلاء، أي إثبات النية الجرمية كالإفلاس الاحتيالي أو إساءة الأمانة… وهو ما لم يكن سهلاً. لكن بعد التعديل صار من الأسهل تجميد الأموال إذ تكفي المسؤولية المدنية للإدانة، ربطاً بقانون التجارة في المادتين 166 و167 وبغيره من القوانين.
في المادة 39 لم يتغيّر النص بين المشروعين السابق والحالي. وبقي النصان يُشكّلان مخرجاً للتهرب من الحجز الاحتياطي على أموال القيّمين على المصارف. فالنص يتعلق بالتقييم الاستثنائي للمصارف، بما يؤدي إلى التمييز بين ما يخضع للأحكام الاستثنائية وما لا يخضع. وإن كانت خاضعة، فهذا يعني أنها إما ستذهب إلى التصفية أو ستوضع “قيد الإصلاح”. وفي حين يربط القانون الحجز الاحتياطي بالتصفية حصراً، فإنه يعطي فترة سماح لأصحاب المصارف التي كانت في وضعية الإصلاح لكنها لم تتمكن من الإيفاء بمتطلبات هذا الإصلاح فتقرر الهيئة تصفيتها. الوقت الفاصل بين الخطوتين سيكون بمثابة فترة سماح تسمح للمتضررين ببيع ممتلكاتهم، قبل الانتقال إلى مرحلة التصفية، ما يعني وجوب الحجز على الأملاك فور اتخاذ القرار بتطبيق الأحكام الاستثنائية على المصرف.
كذلك تبدو المادة 40 أشبه بفترة سماح أشمل، فهي إذ تعطي كل المصارف مهلة شهرين تستوفي المتطلبات الدنيا للسيولة والأموال الخاصة قبل بدء عملية التقييم الاستثنائي، فهي تسمح للإدارة العليا التي تدرك أن مصرفها آيل للتصفية، بشكل غير مباشر، بالتصرّف وبيع ممتلكاتها قبل الحجز على أموالها.
عدم خسارة الأصول مقرون في المقابل بإعادة الرسملة وضخّ الأموال، وتحقيق الربح أيضاً، انطلاقاً من أن نسبة من هذا الربح ستذهب إلى صندوق إعادة الودائع. وهذه نقطة من النقاط التي تزعج المصارف لإدراكها سلفاً أنها لن تحقق الأرباح لكنها مع ذلك تقاتل للاستمرار. فأي مساهم لن يضخّ الأموال مجدداً في مصرف يدرك سلفاً أن إدارته سيئة، ويدرك بالتالي أن أي أرباح لن تكون مضمونة. وهذا سيعني تلقائياً إمكانية إعلان المصفّي أن المصرف غير قادر على الاستمرار، وتالياً وضع أعضاء مجلس الإدارة في خانة رفع السرية تلقائياً عن حساباتهم.
تعديل مقنّع لقانون السرية المصرفية
الأخطر أن المشروع الجديد يتضمن تعديلاً مبطناً لقانون السرية المصرفية، فهو من يشير إلى رفع السرية أمام الهيئة المختصة ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمدير المؤقت/ لجنة التصفية والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع والمقيّمين المستقلين وأي مفوض مراقبة يجري تدقيقاً في الحسابات. وتوضح المادة 36 أن السرية ترفع أمام جهات أخرى “فقط إذا ارتأت الهيئة المختصة ضرورة ذلك ولأسباب مشروعة متعلقة بتطبيق هذا القانون”. وهذا يقود إلى سحب هذه الصلاحية من أمام القضاء أو وزارة المالية. كما يعطي هامشاً واسعاً للاستنساب أمام الهيئة المختصة، التي لا يوجد إمكانية لمراجعة قراراتها، إلا في حال الخلاف مع الدائنين والمساهمين حيث يمكن عندها اللجوء إلى القضاء لكن بشروط صعبة. وبالرغم من أن هذه السرية ساقطة من خلال قانون السرية المصرفية، إلا أنها ليست تلقائية، بل تحتاج إلى طلب ذلك، وهو ما أثبت عدم فعاليته، كما حصل مع طلب القاضية غادة عون سابقاً رفع هذه السرية من دون الاستجابة لطلبها.
وعليه، يركّز ضاهر على أمرين لا بد أن يتنّبه لهما النواب ويسعون لتعديلهما: مسألة الحجز على الأملاك التي يجب أن تكون فورية ومسألة الصلاحيات الاستثنائية للهيئة. ويبقى الأهم أن يقر القانون، بعد تعديله، لأن المماطلة المستمرة ستعني أن أي تأخير إضافي سيؤدي إلى القضاء على القطاع، بخلاف ما تظن الهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف. علماً أن مصادر متابعة تشكك في إمكانية تمرير القانون في ظل المعارضة الشرسة له من قبل المصرفيين المتورطين في هدر أموال الناس.