نشرت وزارة العدل والحريات بالمغرب أخيرا عبر موقعها الرسمي نسخة جديدة من مسودة مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وذلك بعد نسختي أكتوبر وديسمبر 2013، حيث تتكون المسودة الجديدة من 111 مادة. وقد كان لافتا في هذه المبادرة كون الوزارة اختارت الاعلان عن النسخة الجديدة من القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية بشكل جزئي من خلال الاقتصار على نشر مسودة قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية دون الافراج عن جديد التحيينات التي مست النظام الأساسي للقضاة. كما أن هذه المبادرة جاءت بالتزامن مع العطلة القضائية، ربما من أجل تفادي أكبر قدر من الانتقادات وضمان تمرير هذه المشاريع الجديدة بطريقة صامتة.
أولا- ملاحظات أولية في المسودة الجديدة لقانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية:
اذا وضعنا جانبا عددا من التعديلات الطفيفة، فان الدراسة الأولية للتعديلات التي حملتها المسودة الجديدة لمشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية تبين أن المسودة الجديدة حافظت على نفس الفلسفة العامة التي قامت عليها المسودات السابقة. كما أن أغلب الملاحظات التي تم تضمينها في المذكرات المرفوعة لوزارة العدل من طرف نادي قضاة المغرب وباقي الجمعيات القضائية والحقوقية لم يتم الاستجابة إليها إلا في حدود ضيقة. أما توصيات المناظرة الوطنية التي أقامها النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية والتي حضرها وزير العدل والحريات وشاركت فيها فعاليات حقوقية وقضائية واسعة، فإن هذه التوصيات تم تغييبها بشكل كامل يؤكد واقع ومفهوم المقاربة التشاركية المقترحة من لدن الوزارة والتي تعني الانفتاح على باقي الفرقاء والمتدخلين المعنيين بشكل مباشر بموضوع اصلاح القضاء وأخذ تصوراتهم وملاحظاتهم بخصوص مشاريع القوانين، لكن دون العمل بها.
ومن أهم الملاحظات، التي تم تجاهلها:
– استمرار الغموض حول طبيعة العلاقة بين وزارة العدل (السلطة الحكومية المكلفة بالعدل) والسلطة القضائية خاصة على مستوى علاقة الوزارة بالإدارة القضائية والإشراف الاداري على المحاكم،
– استمرار الغموض حول طريقة التعيين في مناصب المسؤولية القضائية وكذا منصب الرئيس الأول والوكيل العام للملك بمحكة النقض،
– استمرار التمييز بين الأعضاء من القضاة المنتخبين والأعضاء المعينين بخصوص مدة ولايتهم بجعل مدة القضاة المنتخبين محددة في خمس سنوات غير قابلة للتمديد وجعل مدة الأعضاء المعينين محددة في نفس المدة مع جعلها قابلة للتجديد، ومن شأن ذلك اعطاء الأعضاء المعينين وضعية اعتبارية مميزة تفوق الأعضاء المنتخبين من بين القضاة ، كما أن جعل مدة الأعضاء المنتخبين محصورة في خمس سنوات غير قابلة للتجديد من شأنها الغاء أي امكانية للتحفيز أو ربط مجال المسؤولية بالمحاسبة من طرف القاعدة الانتخابية للقضاة طالما أن امكانية تجديد الولاية غير متاحة، عكس الشخصيات المعينة .
– استمرار استهداف الأفواج الجديدة من القضاة بفرض أقدمية خمس سنوات من العمل الفعلي بالمحاكم كشرط للترشح لعضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو شرط لم يكن معمولا به في المجلس الأعلى للقضاء خلال الفترة السابقة التي دامت حوالي نصف قرن من الزمن، كما أنه شرط عارضه نادي القضاة واعتبره شرطا اقصائيا.
– استمرار الأخذ بتقارير المسؤولين القضائيين كعامل مؤثر في ترقية قضاة الأحكام قياسا على قضاة النيابة العامة. وهو ما من شأنه أن يتحول إلى عامل للمس باستقلالهم أو محاولة تعريضهم للتأثير غير المشروع، بل ويعتبر توسعا غير مبرر للمقتضى الدستوري الذي يقصر أثر هذه التقارير على قضاة النيابة العامة دون قضاة الأحكام .
– ضعف الضمانات المخولة للقضاة بشأن تدبير المجلس الأعلى للسلطة القضائية لوضعيتهم المهنية في غياب مقتضيات وإجراءات عملية تحمي استقلال القاضي والقضاء؛
– عدم التنصيص على إحداث مجلس الدولة، المخول له حق مراقبة مشروعية وملاءمة قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية والابقاء على الوضع الحالي بتخويل الغرفة الإدارية بمحكمة النقض صلاحية البت في هذه الطعون.
– ضعف معايير شفافة اختيار وانتخاب أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتحديد حقوقهم وواجباتهم ومدة انتدابهم.
– حذف الكثير من المقتضيات لكن لا يعرف إن كان الهدف من وراء هذا الحذف هو التدقيق في الفصول أم التراجع بخصوص مقتضيات كنا نعتقد لوقت قريب أنه تم حسمها خاصة تلك المتعلقة باستقلالية المفتشية العامة للشؤون القضائية عن وزارة العدل وطبيعة العلاقة التي تربط الوزارة مع السلطة القضائية .
– الابقاء على امكانية التمديد للقضاة الذين هم على مشارف التقاعد دون معايير موضوعية واضحة تكفل تحصينهم من محاولات التأثير غير المشروع عليهم أو المس بقاعدة تكافؤ الفرص بين القضاة.
– عدم تحديد آليات وإجراءات تضمن استقلالية اختيار الرئيس الأول الوكيل العام للملك بالمجلس الأعلى للسلطة القضائيةوكذالك الحال بالنسبة للتعيين في مناصب المسؤولية القضائية وبعض المناصب من بينها منصب المفتش العام.
ثانيا:المسودة الجديدة .. تنقيحات قصد التفسير أم تعمد للابهام؟
رغم المقتضيات المهمة التي تضمنتها المسودة الجديدة،فإن بعض التنقيحات المدخلة عليها أسهمت في ايجاد كثير من الإبهام. وهو ما يمكن ابرازه من خلال المعطيات التالية:
أي أفق للمناصفة بين الجنسين على مستوى المجلس الأعلى للسلطة القضائية؟
ركزت الانتقادات الموجهة للمسودة السابقة على إهمالها لمقاربة النوع الاجتماعي بخصوص المناصفة في تنظيم آليات انتخاب ممثلي القضاة وضمان تمثيلية النساء القاضيات، وفي تدبير الوضعية المهنية للمرأة القاضية على مستوى التعيين والترقية والانتداب والمسؤولية، وهي نفس المؤاخذات التي تم استمرار تسجيلها بخصوص المسودة الجديدة المعلن عنها. بل وبمقارنة مذكرتي تقديم المسودة الجديدة، يلاحظ أنه تم حذف مقترح اعتماد لائحتين في انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية: فالمقترح السابق كان ينص على اعتماد لائحة أولى عامة تضم المرشحين والمرشحات من القضاة من الجنسين إلى جانب لائحة أخرى ثانية تخص النساء القاضيات (سواء لائحة ممثلي المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف)، وذلك على غرار المعمول به وطنيا على مستوى الانتخابات التشريعية، ومن مميزات هذا المقترح أنه يتيح للمرأة القاضية الاختيار في الترشيح إما للائحة العامة وبالتالي التباري على قدم المساواة مع زميلها القاضي للوصول الى مركز صنع القرار، أو اختيار الترشيح في اللائحة الخاصة بالنساء القاضيات.
لكن المسودة الجديدة تراجعت عن هذا المقترح وأبقت على لائحة واحدة وهو ما يعني تباري السيدات والسادة القضاة من خلال لائحة واحدة، ومن ثم اختيار الحاصلات على أكبر عدد من الأصوات من بين النساء القاضيات في حدود المناصب المقررة لهن بحسب تمثيليتهم حتى وان تأخر ترتيبهن على زملائهن القضاة.
وإذا كان المجال لا يتسع لشرح ايجابيات وسلبيات كل مقترح في علاقته بمقاربة النوع الاجتماعي التي تم الارتقاء بها إلى مستوى الدسترة من خلال دستور 2011، إلا أنه يمكن القول أن المقترح الأخير لن يسهم في اعطاء آفاق أكبر للمرأة القاضية من أجل تجاوز الصورة النمطية التي حالت دون وصولها إلى مراكز صنع القرار القضائي طوال مدة تجاوزت أكثر من نصف قرن من تجربة المجلس الاعلى للقضاء. وبالتالي كان من شأن الابقاء على اعتماد لائحة وطنية للنساء القاضيات تشجيع الكفاءات النسائية على البروز والتباري للوصول إلى تمثيلية المجلس، وتجاوز الحاجز النفسي الذي وضعته سنوات الممارسة التي حالت دون نجاح أي امرأة قاضية في الفوز بثقة زميلاتها وزملائها القضاة، فضلا عن الغاء أي مجال للتشكيك في جدارتها واستحقاقها للوصول إلى هذا المنصب أو اعطائه طابعا "احسانيا" أو وضعا أقل من الوضع المخول لزميلها القاضي لا سيما اذا استحضرنا كون المقترح الجديد للمسودة سيؤدي الى فوز النساء المرشحات حتى لو كن في مذيلة لائحة الأصوات المحصل عليها.
مستجدات مسودة قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية علامات تساؤل
يمكن الوقوف في هذا السياق على عدة جوانب من مسودة المشروع الجديد:
أ- حذف مجموعة من المقترحات :
استهدفت التعديلات الجديدة التي مست مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مراجعة عدد من المقتضيات الواردة في المشروع، أبرزها الآتية:
– تعديل المادة 101 من المشروع التي تتعلق بمدونة سلوك القضاة: فمن بين النقاط المهمة في مسودة مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية تلك المتعلقة بمهمة وضع مدونة سلوك للقضاة. ففي الوقت الذي تركزت فيه أهم الانتقادات التي وجهت للمسودة السابقة في كونها تعرضت وبإطناب شديد للمقتضيات التي ينبغي تضمينها في مدونة السلوك. إلا أن واضعي المسودة الجديدة اقترحوا الابقاء على نفس المقتضيات السابقة المتعلقة بمضامين مدونة السلوك بعد اختزالها. ولعل من المفارقات التي تم الوقوف عليها في هذا الصدد هو حذف المقتضى الذي كان ينص على وجوب امتناع القضاة "عن طلب أو قبول أي هدية أو هبة أو أي فوائد أخرى من أي نوع كانت، بشكل مباشر أو غير مباشر، قد يكون لها تأثير مهما كان حجمه على أداء الواجبات القضائية حالا أو استقبالا". وهو مقتضى على درجة كبيرة من الأهمية في علاقته بملف التخليق تم حذفه، بينما تم اضافة مقتضى جديد ينص على تقيد القضاة "بتأمين استمرارية مرفق القضاء والعمل على ضمان سيره"، الشيء الذي يؤكد الحضور القوي للمقاربة الأمنية في المسودة الجديدة في مواجهة أي توجه للقضاة نحو استخدام تعليق العمل في المحاكم كأداة مطلبية أو أداة احتجاج.
– حذف المقتضيات القانونية التي كانت تنص في مسودة ديسمبر (المادة 84) على احداث لجنة خاصة في المجلس تعرض عليها نتائج الأبحاث والتحريات التي تم اجراؤها في الاخلالات المنسوبة للقضاة ترفع مقترحاتها إلى المجلس على ضوء نتائج الأبحاث والتحريات المنجزة. وهي تتكون من الرئيس المنتدب للمجلس والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، و أربعة أعضاء على الأقل يعينهم المجلس كالتالي:
* عضو من بين القضاة المنتخبين عن مختلف محاكم الاستئناف؛
* عضو من بين القضاة المنتخبين عن محاكم أول درجة؛
* عضوين من بين الأعضاء غير القضاة.
وهكذا أصبحت المادة 82 من المسودة الجديدة تنص على أنه: "يعرض الرئيس المنتدب للمجلس نتائج الأبحاث والتحريات المنجزة على أنظار المجلس الذي يقرر على إثر ذلك إما الحفظ أو تعيين قاض مقرر تفوق درجته أو توازي درجة القاضي المعني مع مراعاة الأقدمية في السلك القضائي".
ان قراءة المادة الجديدة من المشروع تدفع لإبداء عدة ملاحظات أهمها أنه تم تحويل الاختصاص الذي كان مخولا للجنة من المجلس متنوعة من حيث تركيبها بحسب تركيبة المجلس ذاته، لتصبح هذه المهمة من اختصاص شخص واحد وهو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية : الذي له أن ينظر لوحده في الاختلالات المنسوبة للقضاة،
وفي الوقت الذي تم فيه قصر مجال اهتمام اللجنة المذكورة أعلاه في تقديم المشورة للرئيس المنتدب فيما يتعلق بالبت في طلبات الحاق القضاة وجعلهم في حالة استيداع أو رهن الاشارة أو توقيف قاض مؤقتا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو أرتكب خطأ جسيما، تم تحويل باقي الاختصاصات للرئيس المنتدب وهو ما يعني تركيز السلطات في يد شخص واحد. ويعيد هذا الأمر تكرار نفس الصلاحيات التي كانت مخولة للسيد وزير العدل حيث اكتفى المشروع بنقلها حرفيا لتصبح من صلاحيات الرئيس المنتدب وكأن جوهر الاصلاح الجديد اكتفى بتغيير المسميات ونقل الصلاحيات من شخص لآخر دون التفكير في اعادة توزيع هذه الصلاحيات ووضع حد لتركيزها، باعمال المقاربة التشاركية التي أقرها الدستور الجديد.
من جهة أخرى ومن علامات الاستفهام التي لا تزال عالقة تلك المرتبطة بعلاقة المديريات التابعة لوزارة العدل والحريات بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومرد هذا الغموض هو أن التعديل الذي طرأت عليه المادة 47 من المسودة المتعلقة بتنظيم المجلس الأعلى للسلطة القضائية عمد إلى حذف عبارة "مديريات" من مشتملات مكونات المجلس، وهو ما يدفع للتساؤل حول مآل المديريات التابعة اليوم لوزارة العدل، ومن بينها مديرية الشؤون الجنائية، ومديرية الشؤون المدنية.. فهل سيبقى الوضع على ما هو عليه وستبقى تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، أم ستصبح تابعة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في اطار المساعي الرامية إلى فك الارتباط بين القضاء ووزارة العدل وفق ما يقتضيه التأويل الديمقراطي للدستور الجديد، وما يدفع لطرح هذا التساؤل هو الغموض الذي أوجدته المادة 109 من المسودة الجديدة التي قصرت الوثائق الواجب احالتها من لدن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل على المجلس وفي اطار الاجراءات الانتقالية على تلك التي تخص القضاة دون سواهم.
إن هذا الموضوع يدفع للبحث في قضية أشمل تتعلق بحدود العلاقة بين وزارة العدل والسلطة القضائية في ظل مسودة القوانين الجديدة التي يبدو أنها تعمدت الحفاظ على شعرة تكرس الارتباط بين الجهتين رغم ما يمكن ان تخلقه هذه الوضعية من اشكاليات.
ب- إدخال مجموعة تعديلات :
عملت المسودة الجديدة على تدقيق عدد من المقتضيات الواردة في مسودة 25 ديسمبر 2013 ومن بينها ما جاء في المادة 72 من المسودة السابقة التي أصبحت وفق التعديل الجديد هيالمادة 70 والتي عملت على نقل كل صلاحيات الأمين العام للمجلس بخصوص اعداد لائحة الأهلية للترقية ونشر هذه اللائحة والبت في طلبات تصحيح اللائحة.. إلى صلاحيات الرئيس المنتدب للمجلس، وهي ذات الملاحظة التي يمكن ابداؤها بخصوص المادة 77 من المسودة الجديدة التي عملت على نقل مهمة اعداد لائحة القضاة المتقاعدين أو طلبات التمديد وما يرتبط بها من مقتضيات من دائرة اختصاص الأمين العام للمجلس لتضاف لمهام الرئيس المنتدب.
من جهة ثانية، برز هاجس تكريس واجب التحفظ على أعضاء المجلس والعاملين فيه. ففيما نصت المادة 10 من المسودة السابقة على أنه: "يلتزم الأعضاء بواجب التحفظ والكتمان فيما يخص مداولات المجلس ومقرراته، وكذا الوثائق والمستندات والأسرار التي يطلعون عليها خلال مزاولتهم لمهامهم"،بل تمت اضافة فقرة جديدة لهذه المادة تضمن تمديد نطاقها من حيث الزمان. وقد جاء فيها: "يبقى هذا الالتزام ساريا ولو بعد انتهاء مدة عضويتهم بالمجلس". بل إن المتأمل للمسودة الجديدة يلاحظ تمديد نطاق موجب التحفظ من حيث الأشخاص أيضا بحيث أضيفت فقرة جديدة للمادة 47 من المسودة: "يجب على جميع العاملين بالمجلس بأي صفة من الصفات التقيد بواجب كتمان السر المهني فيما يطلعون عليه من معلومات ووثائق بمناسبة مزاولة مهامهم، ويبقى هذا الالتزام ساريا ولو بعد انتهاء مدة عملهم بالمجلس".
ج- الابقاء على نفس المقتضيات القانونية رغم الانتقادات المسجلة:
من أمثلة الانتقادات التي لم تجد لها آذانا صاغية من قبل واضعي المسودة الجديدة اغفالها لدور التكوين المستمر للقضاة والشواهد العلمية "العليا" المحصل عليها كعامل يمكن اعتماده للترقية، من خلال الابقاء على نفس صياغة المادة 73 من مسودة ديسمبر التي تغير ترقيمها لتصبح المادة 71 من المسودة الجديدة. فقد جاء فيها أن المجلس يراعي عند ترقية القضاة ضمن معايير عدة: "الحرص على إصدار الأحكام في أجل معقول"؛
ومرد الانتقاد هو أن صدور حكم داخل آجال معقولة أمر غير موكول فقط لمدى كفاءة القاضي أو مهارته بقدر ما يتعلق بعدة أمور موضوعية أخرى ترتبط بنصوص قانونية وآجالات بل وحتى بجهات تنتمي لمنظومة العدالة، وبمجموعة من المعوقات على رأسها آفة التبليغ ومشكل التوصلات القانونية. ومن ثم، لا يمكن الاستئناس بهذا العنصر كمؤشر لترقية القضاة وتحميلهم أعباء لا دخل لهم بها، فضلا عن أن اقرار هذا المؤشر يعد انتصارا لسياسة دأبت الوزارة وكذا الإدارة المركزية على تكريسها من خلال تغليب سياسة الكم على الكيف وتشجيع اصدار الأحكام القضائية دون مراعاة بعض المقتضيات التي لها علاقة بالتبليغ.
كما أن ربط الترقية بحسن استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة والقدرة على التواصل والتأطير هو من المقتضيات التي تتطلب من الجهات المسؤولة توفير التكوين المستمر الجيد للقضاة. فالأمر يتعلق بحق من حقوق القضاة معترف به وفق المعايير الدولية لا مجرد التزام. وقبل محاسبة القضاة على عدم قدرتهم على التواصل أو محدودية تأطيرهم أو استعمال الوسائل التكنلوجية الحديثة ينبغي أن نسائل الجهات المسؤولة عن دورها في توفير التكوين الجيد للقضاة في هذا المجال.
ان ذات الملاحظات يمكن تسجيلها على مستوى المؤشرات المعتمدة في ترقية قضاة النيابة العامة التي جاءت فضفاضة وغير دقيقة، بحيث شملت: تنفيذ التوجهات العامة للسياسة الجنائية؛ وتطبيق التعليمات الكتابية القانونية؛ وجودة الملتمسات.
فكيف يمكن الجمع بين هامش ونطاق حرية قاضي النيابة العامة وخضوعه للسلطة الرئاسية، وعلاقة ذلك بتنفيذ التوجهات العامة للسياسة الجنائية؛ وتطبيق التعليمات الكتابية القانونية؟ ثم لماذا تم الاقتصار على اعتماد عنصر "جودة الملتمسات" بشكل فضفاض غير دقيق مع أن عمل النيابة العامة يشمل عدة عناصر أخرى على درجة كبيرة من الأهمية لم يتم الاعتماد عليها من قبيل : الاشراف على الضابطة القضائية، اعطاء التعليمات الشفوية خاصة خلال فترة الديمومة وتسيير اجراءات البحت التمهيدي إما بشكل شفوي أو كتابي من خلال دراسة الشكايات والمحاضر، وجودة المرافعات الشفوية خلال الجلسات، وجودة التقارير الاستئنافية وغيرها من المعطيات التي غابت عن واضعي المشروع.
من جهة أخرى أبقت مسودة مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية على ذات المقتضيات القانونية التي تكرس وضعية الهشاشة التي تعاني منها عدد من المناصب القضائية "السامية": وهو ما يبدو من خلال هذه الحالات :
· منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية: تنص المادة 47 من المشروع على أنه : "يتولى الأمانة العامة للمجلس أمين عام يعين بظهير من بين قضاة الدرجة الاستثنائية على الأقل باقتراح من الرئيس المنتدب للمجلس بعد استشارة أعضاء المجلس،لمدة ست (6) سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ويعتبر هذا التعيين قابلا للتراجع عنه قبل انقضاء المدة المشار إليها".
· منصب المفتش العام للشؤون القضائية: تنص المادة 50 من المشروع على أنه : "يشرف على المفتشية العامة للشؤون القضائية مفتش عام يعين بظهير باقتراح من الرئيس المنتدب للمجلس، بعد استشارة أعضاء المجلس،من بين قضاة الدرجة الاستثنائية على الأقل، لمدة خمس (5) سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، غير أنه يمكن وضع حد لهذا التعيين قبل ذلك".
· التعيين في مناصب المسؤولية القضائية: حسب المادة 67 من المشروعيعين القضاة في مهام المسؤولية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة؛غير أنه يمكن وضع حد لهذا التعيين قبل ذلك. ويمكن تعيين المسؤولين القضائيين، بعد انتهاء المدة المشار إليها، في مهام المسؤولية بمحاكم غير التي تولوا المسؤولية بها.
إن تأمل هذه المقتضيات تدفع أي باحث أو مهتم بالمجال لاستخلاص مدى هشاشة الحماية القانونية المخولة لبعض مناصب ما يعرف بـ "كبار القضاة" : فالمفتش العام، والأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمسؤولون القضائيون ورغم أنهم ووفق المقتضيات الواردة في المسودة يعينون لمدة محددة إلا أنه يمكن وضع حد لولايتهم قبل انتهاء هذه المدة دون أي مبرر، مما قد يشكل مسا بمبدأ ثبات المنصب القضائي. فخطورة هذه المناصب القضائية تستدعي تحصينها بالقانون من خلال التنصيص صراحة على حالات انتهاء المهام على سبيل الحصر على غرار حالات انتهاء مهام أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية.