“بس يكبر الواحد بيبطّل إله قيمة”، هكذا يعبّر أحمد (83 عامًا)، الأستاذ الجامعي المتقاعد، عن حزنه هو المقيم منذ 5 سنوات في دار للمسنّين. يتمتم يوميًا “مش أنا جيت عالدار، الظروف جابتني”. فيومها، طلب منه أولاده مرافقتهم إلى الجنوب لشراء بعض الحاجيات ليجد نفسه في دار للمسنّين ويغادر أبناؤه من دون عودة.
كثيرون لم يتخطّوا ترك أولادهم لهم، وهو تخلٍّ يشبه ترك الدولة لأبنائها المسنّين بلا أيّ تغطية صحيّة أو ضمان شيخوخة، وحتّى من دون سقف لائق وآمن في دور تشمل برعايتها اليوم 4282 مسنًّا ومسنّة على حساب وزارتيْ الصحة والشؤون الاجتماعية، وبتغطية لا تتجاوز 34000 ليرة من “الشؤون” و100000 ليرة من “الصحة” عن كل يوم وهي مبالغ لا تكفي لشراء منقوشة.
لم ينجُ المسنّون في لبنان من الانهيار. وإلى جانب تقصير الدولة، تنكرّت لهم بعض بيوتهم، وهم بُناتها، فباتوا تحت رحمة جشع الأبناء وإهمالهم، أو قسوة بعض الأخوة. وفي جولة لـ “المفكرة القانونية” على دور المسنّين، وجدنا الحال عالقًا ما بين سندان الوضع الاقتصاديّ الصعب الذي يهدّد المؤسّسات الاجتماعيّة، في ظلّ فتات ما تدفعه وزارتَا الصحّة والشؤون الاجتماعيّة، ومطرقة الرعاية المتفاوتة التي تميّز بين مسنّ يدفع بالدولار، وآخر لا يملك سوى الليرة البائسة.
وأكدت مصادر لـ “المفكرة” أنّ بعض دور الرعاية التي تشكي عدم قبض مستحقّاتها منذ 3 سنوات من الدولة، وفقدان قيمتها بالأساس، تعمد إلى تدفيع عائلات بعض المسنّين فرق الكلفة تحت خطر عدم استقبال المسنّ، علمًا أنّ هذه الدور نفسها تحصل على مساعدات من أشخاص وجهات محلية ودولية وعربية، من دون أن تنفي أنّ لا قيمة مادية فعلية لمساهمات وزارتيْ الشؤون والصحة اليوم بعدما لامس الدولار عتبة المئة ألف ليرة. هذا الأمر، ووفق ما علمت “المفكرة”، دفع وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار إلى العمل على تأمين جهة ثالثة مموّلة للدّور تشكّل مع الوزارة ومؤسّسات الرعاية، الركيزة الثالثة لسيبة تمويلها.
وإضافة إلى تدنّي مستوى الخدمات في العديد من دور المسنّين، وخصوصًا للذين لا يدفعون “الفريش دولار”، يتعرّض هؤلاء لانتهاكات منها العنف المعنوي والإساءة والمسّ بالكرامة الإنسانية والتهميش والإذلال الجسديّ والمعنويّ، وباتوا كمن وُضع على رفّ الحياة، لينتظر نهايته، علمًا أنَّ الكثير من بينهم لا يزالون في قمّة نشاطهم وعطائهم، وتركيزهم الفكريّ، وقد أسرّوا لـ “المفكرة” أنَّ ذنبهم الوحيد في هذا الوطن أنّهم صاروا “كبارًا”.
الدولة تغطّي 2% من الكلفة
“للأسف ما بقى قادر إستقبل ولا مسنّ على حساب الوزارة، وإلّا منكون عم نغرّق حالنا وعم نقول للعالم رايحين لنسكّر”، يقول د. بدر زيدان، رئيس مجلس إدارة دار العجزة الإسلامية في بيروت، بانفعال ويضيف: “عندي اليوم 250 مسنّ ومرضى نفسيين (ليسوا بالضرورة من كبار السنّ) على حساب الوزارة التي تغطي 2% من الكلفة فقط، يعني كأنّه مجّانًا، قديش بعد بدنا نحمل؟”. وإذا ما قارنّا هذه النسبة مع ما زوّدتنا به وزارة الشؤون الاجتماعيّة من خطط عن معايير الجودة الخاصّة بمؤسسات كبار السنّ وعن الاستراتيجية الوطنية لكبار السنّ في لبنان 2020–2030، وعن إنشاء هيئة وطنيّة دائمة لرعاية شؤونهم، (التزامًا بمؤتمر مدريد للشيخوخة 2002)، نجد أنّ النسبة لا تكفي لتلبية معايير الجودة والهيئة لم تُفعَّل بشكل كامل، وتفتقر إلى نظام داخليّ يحدّد عملها، وإلى رصد اعتماداتها، وبالتالي يبقى ما كُتب في الخطط مجرّد أمنيات.
لذا، فُرِز المسنّون اليوم بين “زبون ليرة-وزارة” مرفوض أحيانًا، وبين “زبون فريش دولار” مرحّب به دائمًا. وهو واقع محزن لا ينكره عدد كبير من القيّمين على الدُّور الذين قابلتهم “المفكّرة” في الشمال، وبيروت، والجنوب، والبقاع، وجبل لبنان.
في المقابل، لا تلوم وزارتَا الصحّة والشؤون الاجتماعيّة مراكز الرعاية: “الأزمة الاقتصاديّة خانقة”، يبرّر مدير العناية الطبيّة في وزارة الصحّة العامّة د. جوزيف الحلو. ويقول: “تَ نحكي منطق: مين بيستقبل مريض آكل، شارب، نايم مع علاجه وكلّ احتياجاته بــ 100 ألف ليرة عالنهار؟ شو بتجبله للختيار؟ منقوشة؟!”.
وتشير رئيسة مصلحة الرعاية بالإنابة، في وزارة الشؤون الاجتماعيّة، ريتا عطا إلى التهديد الحقيقي الذي تواجهه دُور الرعاية، بخاصّة في ظلّ التأخّر في دفع مستحقّاتها منذ العام 2021، “نحن أعددنا فواتير الدور وأحلناها إلى وزارة الماليّة حيث تكدّست، وذلك لأسباب مرتبطة بآليّة وزارة المالية والروتين الإداريّ الذي تضاعف مع إضراب موظّفي القطاع العام. وعليه، وفق عطا، “ماتت قيمة الدفعات قبل استحقاق آجال دفعها”، وتشرح: “لو رفعنا التعرفة التي تمنحها الوزارة لتغطية المسنّ… وتمّ تحويل الأموال اليوم قبل بكرا، هناك أزمة مصارف، والدّور ما عم تقدر تسحب من المصرف إلَّا 10 ملايين ليرة كل شهر”.
وتنبّه عطا إلى ضرورة “إيجاد آليّة للدفع لتلافي حجز أموال الدُّور في المصارف، وإلّا رح يقبضوا الزيادات بعد سنتين وثلاث، يعني للأسف في دُور ممكن تكون سكّرت يومها”. وتتساءل: “كيف بدنا نلومهم؟ وكم من الوقت ستصمد الدور؟”.
طابق بسمنة طابق بزيت: “سقف معفّن ولا سقف يعَنّف”
جولة سريعة في أروقة بعض الدُّور، كفيلة لرصد التمييز بين “طابق الفريش” و”طابق الوزارة”. ففي الأول تُحتَرم الخصوصيّة والاستقلالية والهدوء، وأقصى معايير السلامة والصحّة الجسدية كما النفسيّة وحيث لكلّ نزيل غرفته الخاصة. أما في “طابق الوزارة” فليس هناك استقلالية ولا احترام للخصوصية والنزلاء ستة في غرفة واحدة، ورغم إصرار القيّمين على عدم التمييز بين “الطابقين” إلّا أنّه على أرض الواقع كان التمييز واضحًا من حيث الترتيب والنظافة وتجهيز الغرف وطريقة المعاملة. ورغم أنّ القيّمين على الدُّور أكّدوا عدم التمييز بين “الطابقين”، إلَّا أنَّ الزائرة تلحظ غياب الإنصاف والعدالة بينهما وهو ما يبرره بعض القيّمين بالمثل الشعبيّ: “بالنهاية، كلّ شي بحقو”.
تقول مديرة إحدى دُور الرعاية في حديث مع “المفكّرة”: “هيدا الطابق بالاسم عالوزارة، بس بالحقيقة، كلّو ع حساب الدار، عم نعاني شوي من الرطوبة ومش قادرين نزبّط”، مستدركة ما تسمّيه “النعمة” التي يحظى بها نزلاء “طابق الوزارة”: “رغم كل شي… ولو بعض الغرف فيها 6 أشخاص، بس أحسن ما يكون الختيار مهمل بالبيت”. وتسأل: “مش أفضل يعيش تحت سقف معفّن من إنو يكون معنّف من الكنّة أو الأولاد، لأنّ البيت ضاق عليهم؟” وتسارع للإجابة: “الدار ما عم تقصّر معهم بشي، وكلّو ع نفقتنا، ع القليلة في سقف فوقهم، وعم ياكلوا ويشربوا، أفضل بمية مرة من إنّو ينتركوا بالطرقات”. وتأسف: “يلّي بيوجّع إنو معظم الموجودين مش مقطوعين من شجرة، وبس بدّن معاملة… الكلّ بدو هَمّ بالناقص… عنّا بالدار مدرا عامّين وأساتذة جامعيين وزوجة قاضي”.
عديدة هي المقابلات التي أجرتْها “المفكّرة” مع كبار السنّ في دور رعاية، وكان لكلٍّ منهم قصّته وذكرياته، إلّا أنَّ حزنهم هو نفسه… وقد اختصرها أحد المسنّين بالقول “شو بدي إحكي؟ مين سئلان؟… الله ياخدني لإرتاح”.
يعلّق د. حلو على هذا “الترك” بالقول: “1 أو 2% من الأولاد فقط بيطلّوا ع أهلهن، وبيعطونا أرقام تلفونات غلط حتّى ما نوصّلن، في مرضى صرلن 20 و30 سنة ما حدا عم يتطّلع فيهم، مرّة قلت لشخص بيّك على الخطّ عم يبكي مشتاق يشوفك.. ما تجي، بس خلّيه يسمع صوتك.. بيجاوبوني أنا ما عندي بَي.. بيي مات وبيسكر الخطّ”. ويضيف: “لو بترجع إلي، بشرّع قانون يجبر العيلة بالمسنّ، ويلّي ما بدو يسأل عن أهله بحبسه”.
“تغطية الوزارات لا تشتري حفاضات”
“قبل الأزمة الاقتصاديّة، كانت وزارة الصحّة تدفع 33 ألف دولار يوميًا لرعاية المسنّين”، وفق د. حلو: “نحن نتكفّل بالتغطية الكاملة: آكل شارب نايم مع الأدوية والعناية… كنا ندفع لحد 100 ألف باليوم بس اليوم شو بعد بيشتري هالمبلغ؟”.
وفقًا للبيانات الرسمية، تدفع وزارة الصحّة عن كلّ مسنّ لا يتمتع بتغطية أيّ جهة ضامنة، ما بين 50 و100 ألف ليرة لبنانيّة، حسب حالته، وتتعاقد مع 53 دارًا للمسنّين ترعى 2913 مسنًّا مقسّمين على الشكل التالي:
تصنيف المسنّين
عدد المسنّين
أمراض مزمنة
1460
أمراض عقليّة
807
عناية فائقة
14
قابل للتأهيل
494
غير قابل للتأهيل
138
المجموع
2913
وحول زيادة مساهمة الوزارة، يرفض د. حلو “إطلاق الوعود في الهواء، كلّ شي بينحل بس بدّك تمويل، والمسألة مش متعلّقة بقرار الوزارة وحدها”.
من جهة ثانية، يبلغ عدد مؤسّسات رعاية المسنّين المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة 34 مؤسّسة ترعى كبار السنّ، وعددهم 1339 مسنًّا، وفق شروط القرار رقم 121/1 الصادر عن وزير الشؤون الراحل أسعد دياب عام 2004، وأبرزها: “أنْ يكون تجاوز 64 من عمره وقادرًا على خدمة نفسه، على أن يتأهَّل للقبول ضمن فئة المسنّين المستفيدين من الرعاية الاجتماعيّة، إذا كان متسوّلًا أو متشرّدًا بلا مأوى، أو اجتمعت حالة الفقر مع عدم وجود أسرة ترعاه، أو عدم وجود مسكن لائق، أو إذا انطبق عليه تعريف الحالة الاجتماعيّة الصعبة” أو “التعرّض لإهمال أو رفض أو معاملة سيّئة ضمن أسرته”. وكمثال على الحالة الأخيرة قد تغطي الوزارة مثلًا امرأة خمسينية ارتأى أخوتها أنّ لا مكان لها في بيت الأسرة، وفق مصدر في وزارة الشؤون. وتتلقى هذه المؤسسة مبلغ 34000 ليرة عن كلّ مسنّ كبدل إيواء، ورعاية صحيّة أوليّة، وفحوصات طبيّة دوريّة، وطعام ونظافة شخصيّة وتنظيم نشاطات ترفيهيّة، وهؤلاء غير مشمولين بتغطية وزارة الصحّة، وموزّعون على الدُّور كما يلي:
المنطقة
عدد المؤسّسات
عدد المستفيدين
جبل لبنان
14
695
شمال
8
270
عكار
2
65
البقاع
3
60
الجنوب
3
155
النبطيّة
2
55
بيروت
1
14
بعلبك الهرمل
1
25
المجموع:
34
1339
بالإضافة إلى المؤسّسات المتعاقدة مع الوزارة، هناك فقط ثلاثة مراكز متخصّصة، تملكها وزارة الشؤون الاجتماعيّة في راشيّا وحاصبيا والمنصورة (البقاع الغربيّ)، أنشئت في عهد وزير الشؤون الاجتماعيّة الأسبق وائل أبو فاعور. تعمل الوزارة حتّى اليوم على تغطية كلّ نفقات هذه الدُّور، بحيث يُصرف عليها، وبحسب الجداول الأخيرة التي اطّلعت عليها “المفكّرة”، 906 ملايين ليرة، لا يستفيد منها أكثر من ثلاثين مسنًّا بالحدّ الأقصى، والمبالغ مقسّمة على الشكل التالي:
المؤسّسة
النفقات
عدد المستفيدين
مركز حاصبيا التخصصيّ
300 مليون ليرة
10
مركز المنصورة التخصصيّ
255 مليون ليرة
8
مركز راشيا التخصصيّ
351 مليون ليرة
12
المجموع
906 مليون ليرة
30
ومؤخّرًا، أقفلت وزارة الشؤون 15 ناديًا نهاريًّا للمسنّين نتيجة انتشار وباء كورونا والأزمة الاقتصاديّة التي تهدّد حاليًا عددًا كبيرًا من دُور المسنّين بالإقفال.
وفي هذا السياق، أكّدت وزارة الشؤون الاجتماعيّة لـ “المفكّرة”، أنّها تعمل على رفع قيمة الكلفة اليوميّة لكلّ مسنّ ثلاثة أضعاف، بحيث تصبح 102000 ليرة بدلًا من 34000، لتغدو موازنة وزارة الشؤون السنويّة للمسنّين 49 مليارًا و850 مليونًا و970 ألف ليرة، من أصل الموازنة الفعليّة لكلّ مؤسّسات الرعاية الاجتماعيّة، والتي ستبلغ في حال إقرارها 524 مليارًا و789 مليونًا و517 ألفًا و500 ليرة لبنانيّة.
كالمسنّين… أُثقلت كواهل الدُّور
تعاني دور المسنين أيضًا من هجرة الطاقم الطبّي، وموظّفي الخدمة اليوميّة: “كلّ الدور مهدّدة بالإقفال، أرهقنا مصروف البنزين والطاقة (بين 8 آلاف و10 آلاف دولار شهريًّا)، وارتفاع الرواتب وغلا الأسعار… والموظفين والطاقم التمريضي عم يتركوا مقابل فرص العمل خارج لبنان أو عم يطلبوا أجور كتير عالية”، يقول الحاج أسعد حيدر، مدير “دار أمان” في العباسيّة.
وتشير مديرة مستشفى “دار السلام”، عبير مملوك، إلى المنعطف في حياة الدُّور: “المصاري بالبنك راحت، وما قادرين نسحب التبرّعات، والمساهمات الرسمية بتتأخر وصارت بلا قيمة، وبرقبتنا مسنّين بحاجة لحدّ أدنى من المعيشة، والضو، والنظافة، وفي ناس عايشة ع الأوكسيجين… كلّ همّنا تأمين المازوت… والدولة غايبة”.
ويقول حسن صفدية، رئيس جمعيّة “جامع البحر” التي تملك “دار السلام”: “26 مسن ومسنّة عمرهم بالــ80 ولكن ما إلن أهل، أنا هودي يلّي كاسرينلي ظهري، غير الإقامة يلّي اليوم بتكلّفني بالقلم والورقة 486 دولار شهريًّا ع كل مقيم… عدا الأدوية يلي وحدها بتكسر”. وهذا ما تؤكّد عليه مديرة أحد دور العجزة في طرابلس: “معظم إيراداتنا تذهب لتأمين الطاقة رغم كلّ التقنين، بخاصّة أن قسمًا كبيرًا من المسنّين قاعد بشكل مجّاني”.
ويشدد د. حلو على أنّ العمليّات الجراحيّة والحالات التي تستدعي دخول مستشفى هي الأزمة الكبرى: “إذا احتاج مسنّ إلى عملية ورك، فهي تكلّف 3000 دولار إضافة إلى المستلزمات الطبيّة التي لم تعد مدعومة، والوزارة عاجزة عن تغطيتها”.
في جولتنا، رصدنا الهاجس نفسه يرافق إدارة شؤون مستشفى عين وزين: “تكاليف بآلاف الدولارات، مين بدّو يتحمّلها؟ لا تغطية وزاريّة، والأهل إن وُجِدوا، عاجزون عن تغطية التكاليف الهائلة بالدولار، وعم تطلع براس المريض، أو تبدأ رحلة السعي إلى مساعدات من الصناديق الخيرية…”.
تشكو جوزيان معوّض من “دار الراحة” في زغرتا، عدم تغطية الوزارة لتكاليف العمليَّات الجراحيّة في المستشفيات، ولكنّها تشير إلى كارثة أخرى حين يموت المسنّ الذي لا يسأل عنه أحد “صرنا دافنين كذا ختيار، ماتوا وما حدا سأل.. دفنّاهن بمدافن العيلة، بمدفن المأوى…”. وهذا ما يؤكده د. حلو أيضًا: “في ناس ما بتستلم جثث مسنّيها، في دُور عم تشتري أرض لتدفن الموتى”.
كارثة إنسانيّة تلوح في الأفق… والدولة غائبة
ترى المساعِدة الاجتماعيّة سمر سليلاتي، ورئيسة دائرة الأسرة بالإنابة في وزارة الشؤون الاجتماعيّة أنّ “إنشاء بيئة آمنة وداعمة وصديقة لكبار السنّ، تُحتّم وضعهم على رأس سلّم الأولويَّات في لبنان، بدءًا من القيام بدراسات رقميّة محدّثة ومفصّلة وموثوقة، كي لا يبقى غياب البيانات عائقًا أساسيًّا أمام تطوير واقع حماية كبار السنّ. خصوصاً أنّنا نتّجه إلى تحوّل ديمغرافيّ، من مجتمع شابّ إلى هرم بعد الهجرة التي يشهدها المجتمع اللبنانيّ. كما أنَّ الامكانيات لتطبيق الخطط شبه معدومة، والجهات المعنيّة بإيجاد الحلول، لا تملك سوى التوصيات”.
ونرى دُور رعاية المسنّين تناشد الوزارات المعنيّة المساعدة، ملوّحة بخطر الإقفال الذي بات قاب قوسين وأدنى لولا الرهان على المبادرات الخيريّة والأيادي البيضاء، إلَّا أنَّ صرخات الدُّور قد خفت صداها أمام صرخات الوزارات المعنيّة نفسها، والتي ترزح بدورها تحت انهيار الدولة.
يقول د. حلو من وزارة الصحة: “ليس لدينا عصا سحريّة، وليت الحلّ بيد الوزير، القضيّة تتطلّب سياسات وقوانين، وقرارات من مجلس الوزراء، فالأزمة أزمة تمويل، والدولة أفلست، ومساعي الوزير للحصول على مساعدات من البنك الدوليّ قوبلت باشتراط الإصلاحات السياسيّة”.
واقتصر تعليق وزارة الشؤون على تبنّي صرخة الدُّور، فالأزمة وفق عطا، “تعدّت دُور رعاية كبار السن، لتنسحب بأثقالها على مختلف دور الرعاية في لبنان التي تتّجه نحو الإقفال”.
وفي المقلب الآخر، يدقّ البروفيسور نبيل نجا، الاختصاصيّ في أمراض الشيخوخة، ناقوس الخطر: “الأوضاع تدهورت بشكل دراماتيكيّ في لبنان، والمقلق ليس وضع المسنّين في المؤسّسات وحسب، بل الأخطر هو وضع المسنّين في المنازل الذين يشكلون نسبة 90%. حيث ترافق الكآبة عدم القدرة الماديّة عند النسبة الأكبر منهم، فباتوا عاجزين عن شراء الأدوية والقيام بالتحاليل المخبريّة، وعن متابعة تطوّر أمراضهم المزمنة، وتركوا ليواجهوا مصائرهم بمفردهم”.
يتمنّى د. نجا أن يكون مخطئًا، إلَّا أنَّه يتوقّع، وفي المستقبل القريب، ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة كبار السنّ العاجزين، كما ويلفت إلى أنَّ: “معظم كبار السنّ كان يجالسهم في البيوت عاملات من جنسيَّات أجنبيّة، وإثر الأزمة، لم يعد بمقدور معظم الأسر الاستعانة بهنّ، بالإضافة إلى أنَّ اللجوء إلى أصحاب الخبرة بات متعذّرًا ومكلفًا… بخاصّة في ظلّ هجرة 50% من العاملين في هذا القطاع”.
ويخشى نجا من استمرار الأوضاع الراهنة، محذّرًا من انهيار دُور رعاية كبار السنّ: “سنكون أمام كارثة اجتماعيّة لا حدود لها”.
نشر هذا المقال في العدد 69 في مجلة المفكرة القانونية- لبنان
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.