بعد أيام قليلة من صدور تقرير أممي يصف الأوضاع داخل السجون المصرية بـ “القاسية”، قررت الدولة في محاولة لدحض ما جاء بالتقرير أن تفتح سجونها للإعلام. فقامت الهيئة العامة للاستعلامات، أحد أذرع الدولة، بالتعاون مع وزارة الداخلية، بتنظيم زيارة للصحافين والإعلاميين إلى مجمع سجون طرة يوم الاثنين 11 نوفمبر. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في السابق لم يكن يسمح للإعلام بالقيام بزيارات للسجون أو طرح أسئلة تخص وضع السجناء في السنوات الأخيرة. كما يجدر التنويه أن في هذه الزيارة تم انتقاء هوية الإعلاميين الزائرين بعناية حتى يقوموا بالدور المطلوب منهم وهو الإشادة بأوضاع السجون. كما أنه لم يُعلن، قبل الزيارة، عن معايير الاختيار، كما لم تعلن قائمة بأسماء المختارين من قبل الهيئة للزيارة، واكتفت بالقول بأنهم من المصريين والأجانب. يذكر أن تقريرًا صحفيًا أشار، في وقت سابق، إلى تدخل مصلحة السجون في اختيار أسماء أعضاء الزيارات. وقد جاء منع عضوة المجلس القومي لحقوق الإنسان راجية عمر من مشاركة وفد المجلس لزيارة سجن برج العقرب في 2016 خير دليل على ذلك. عندما نطلع على الأسماء التي قامت بالزيارة، والتي تم الإفصاح عنها بعد الزيارة، يمكن تقسيم المدعوين إلى نوعين: الأول من المعروف انتماءاتهم للدولة، على تنوع المجالات التي ينتمون لها، مثل محمد الباز، ورامي رضوان وأحمد شوبير. أما النوع الثاني فهم من المراسلين الأجانب الذي أشار ضياء رشوان (نقيب الصحفيين)، في مداخلة مع عمرو أديب، أنه تم دعوتهم للانضمام للزيارة.
سردية غير مُحكمة
توزيع جدول الزيارة ركز في القسط الأكبر منه على جولات استعراضية، أظهرت منتجات حيوانية ومفروشات لمصانع السجن، ثم مطبخ السجن. وأدت هذه المبالغة في محاولة عرض صورة إيجابية للأمور داخل السجن، خلال الزيارة إلى إغفال تفاصيل تتعلق بمنطقية الرواية الرسمية. لأنها تُغيب تماما أي قصور، وإن كان شكليًا. فحتى بعيدا عن السجون لا يبدو مستوى الخدمات بأي مؤسسة حكومية على هذا النحو البادي في صور الأطعمة والمشروبات المُغلفة في أطباق، مما يعطيك انطباعا بأنك تتطلع إلى مطبخ أحد الفنادق، لا إلى مطبخ سجن مصري، يعرف بـ “العقرب” إشارة إلى سوء الأوضاع فيه.
وهو ما أدى إلى وجود روايتين عن هذه الزيارة، الأولى للمراسلين الأجانب الذين رددوا ما حدث خلالها، من مشاهد ترغب السلطات في عرضها وأشاروا إلى رفض قيادات أمنية التسجيل مع مراسل فرانس برس، والذي غرد أثناء مشاركته في الزيارة رفض قيادي أمني السماح له بالاقتراب من أسوار السجن في وقت ماض.
أما الرواية الثانية فكانت للمؤيدين، الذين قاموا بتكذيب خبراء الأمم المتحدة الذين اعتبروا وفاة مرسي نتيجة لظروف “قاسية” عاشها في السجن، خاصة مع استعداد وفد الخارجية المصرية، حينها، لمقابلة خبراء للأمم المتحدة في المراجعة الدورية الشاملة لدى مجلس حقوق الإنسان، في جنيف. يذكر أن التوصيات التي وُجهت إلى مصر هذا العام هي الأكبر منذ بدء العمل بهذه الآلية قبل 15 عام، وبلغ عددها 365 توصية.
صحيح أن رواية كل طرف تعكس واقعا مختلفا. لكنها تلخص الفارق بين مجموعة من وجوه إعلامية استُخدمت أبواقا لنقل رواية الدولة وتسويقها عبر برامج التوك شوو الخاصة بهم في قنوات تملكها أجهزة الدولة نفسها. ومجموعة مراسلين يدركون أن ما سُمح لهم برؤيته هو ما ترغب الدولة في أن يقال عنها فقط.
على الجانب الآخر أغفلت الزيارة العديد من القضايا المحورية ذات الصلة بالأوضاع. توثق غالبيتها التعذيب والإهمال الطبي وسوء المعاملة. تحكي قصص السجناء وذويهم عن درجات متفاوتة من التنكيل، يختلف من حالة لأخرى لكنه حاضر دائما. يعتمد السجناء من مختلف التيارات والمناطق الجغرافية في ترجمة معاناتهم على منشورات إلكترونية، أو شهادات مُجهلة لمراكز حقوقية، أو غيرها من المساحات التي تتيح فرصة للبوح بعيدا عن كاميرات التصوير، ضمن زيارات رسمية تحيط بها القيادات الأمنية وتسبقها تعليماتهم للسجناء، وترتيبات خاصة، لا تكفل علانية أسئلة الزائرين عن وضع هؤلاء السجناء، وحاجتهم للحماية إن ألمحوا إلى وجود سلبيات.
المراجعة الدورية لوضع حقوق الانسان: السبب الخفي وراء تنظيم الزيارة
دعوة الهيئة تُشبه في توقيتها دعوات أخرى سابقة، تزامنت تأكيدَاتها بجودة السجون مع تزايد الشكوى ممّا يحدث للسجناء بداخلها، واتهام المنظمات الدولية للنظام المصري بانتهاك حقوق السجناء. إلا أن هذه الدعوة تختلف عن سابقاتها من خلال الزيادة النسبية في الزيارات الرسمية للسجون على مدار الأيام الماضية، وقرب موعد المُراجعة التي تجريها الدول الأعضاء بالأمم المتحدة كل خمس سنوات، بشأن الوضع الحقوقي في بلد ما ومدى التزامها بالاتفاقيات الدولية، حيث نتبين حرصا رسميا على إبراز “الإصلاح” المختص بتحسين الأوضاع في السجون، كما جاء في جزء من تقريرها المرسل للمجلس.
حرص الدولة والمسؤولين على تعزيز الرواية الإيجابية عن وضع السجناء، لا ينجح دائما في إلغاء الخلل بمنظومة السجون. يمثل تصريح رئيس المجلس القومي عن وجود سجون يُمنع زياراتها عليهم، ومُماطلات في السماح بزيارة سجون أخرى، قبل حوالي 4 أشهر، أحد أوجه هذا الخلل. كما يساهم القصور القانوني وجها آخر.
فبينما تنص المادة 27 من قانون السلطة القضائية على اختصاص النيابة العامة بالإشراف على السجون1، يحصر قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956، في المادة الأولى مكرر منه2 هذا الاختصاص على النائب العام أو من ينيبه من رجال النيابة العامة بدرجة رئيس نيابة على الأقل. وبرغم حصر دور الإشراف على أماكن احتجاز، مثل مقرات أمن الدولة ومعسكرات الأمن المركزي، على الفئة المذكورة وحرمان باقي أعضاء النيابة، ممن هم أقل درجة. الجدير، أن بعض أماكن الاحتجاز مثل مقرات أمن الدولة ومعسكرات الأمن المركزي لا تخضع لأي نوع من الإشراف، فعلى سبيل المثال، انحصرت زيارة النيابة العامة بإبريل 2015 على سجون مثل طرة وأبو زعبل.
بالإضافة إلى ذلك، لا يقوم المحافظون بممارسة دورهم المنصوص عليه قانوناً حسب المادة 84 من قانون تنظيم السجون في زيارة السجون بدوائر اختصاصهم في كل وقت، ولهم حق تدوين ملاحظات على الأوضاع بداخلها، وعلى إدارة السجن أن تبلغ ملاحظات المحافظين إلى مدير السجن3. كما تعطي المادة (83) الحق لمفتشي مصلحة السجون للتحقق من استيفاء شروط النظافة والصحة والأمن داخل السجن، وكافة النظم الموضوعة للسجن4. إلا أنه وبحسب المبادرة المصرية للحقوق والحريات تفتيش المصلحة الفعلي لا يتعدى التأكد من عدم وجود ممنوعات، دون أن يهتم بشروط النظافة والصحة كما ينص القانون.
وهي الأمور التي نستنج منها غياب الرقابة الفعلية على السجون في السنوات الأخيرة.
1 تنص المادة 27 من قانون السلطة القضائية على: “تتولى النيابة العامة الإشراف على السجون وغيرها من الأماكن التي تنفذ فيها الأحكام الجنائية ويحيط النائب العام وزير العدل بما يبدو للنيابة العامة من ملاحظات في هذا الشأن”.
2 تنص المادة على: “يودع كل من يحجز أو يعتقل أو يتحفظ عليه أو تسلب حريته على أي وجه في احد السجون المبنية في المادة السابقة أو احد الأماكن التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الداخلية وتسرى عليها جميع الإحكام الواردة في هذا القانون على أن يكون حق الدخول فيها المنصوص عليه في المادة 85 للنائب العام أو من ينوبه من رجال النيابة العامة بدرجة رئيس النيابة على الأقل “.
3 تنص المادة 84 من قانون تنظيم السجون على “للمحافظين والمديرين حق الدخول إلى السجون الكائنة في دوائر اختصاصهم في كل وقت وعلى إدارة السجن أن تبلغ الملاحظات التي يدونونها إلى مدير عام السجون.”
4 تنص المادة 83 على “يكون لمصلحة السجون مفتشون للتفتيش على السجون للتحقيق من استيفاء شروط النظافة والأمن داخل السجن ومن تنفيذ كافة النظم الموضوعة للسجن ويرفعون تقاريرهم في هذا الشأن إلى مدير عام السجون.