مسار إعداد قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: عندما تتقاطع الحاجة المحلية مع التشجيعات الدولية


2020-11-17    |   

مسار إعداد قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني: عندما تتقاطع الحاجة المحلية مع التشجيعات الدولية
قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني

انتهت الدورة البرلمانية الأولى على حصيلة تشريعية ضعيفة كمّا وكيفا، وجوّ عام من المشاجرات والخطابات التخوينية والاقصائية، وانطباع شعبي بأن أداء البرلمان يزداد سوءا يوما تلو الآخر. وسط هذه العتمة، برزت المصادقة على القانون المتعلق بالاقتصاد التضامني والاجتماعي في 17 جوان 2020، بشبه اجماع الحاضرين، كنقطة ضوء تكاد تكون الوحيدة وبمثابة إنجاز تشريعي مهمّ لم يفوّت النواب فرصة الإحتفاء به. فقد اجتمعت مختلف الكتل النيابية على اعتبار هذا القانون حجر أساس في المنوال التنموي الجديد وفرصة غير مسبوقة للتقليص من نسب البطالة والفقر والحدّ من التهميش. لم يقتصر الإجماع حول أهمية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على الأحزاب السياسية بمختلف حساسياتها، وإنما شمل كذلك الشركاء الاجتماعيين، ابتداء بالاتحاد العام التونسي للشغل وصولا للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، مرورا بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. بل أن الاعتراف الرسمي بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني كقطاع ثالث، منذ انتهاء تجربة التعاضد في الستينات، جاء مع «العقد الاجتماعي» الذي جمع في شهر جانفي من سنة 2013، الحكومة مع اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف. هذه الخطوة مهّدت لمسار تشريعي فريد، جمع أطرافا متعددة، محلية وأجنبية، وتوّج بالمصادقة التوافقية على القانون في البرلمان.

«مُعجم جديد» يلتقي حوله الجميع

بعد سنوات طويلة من الدعاية حول «المعجزة الاقتصادية التونسية»، عرّت ثورة 2010-2011 هشاشة المنوال التنموي والتفاوت الجهوي الكبير الذي أوجده. ورغم أن النقاش العام تركز أكثر على القضايا السياسية والهووية، كان هنالك إجماع على ضرورة البحث عن منوال تنموي بديل أكثر عدالة. بالتوازي مع ذلك، فتحت الثورة الباب على حرية تكوين الجمعيات، وتحولت تونس إلى قبلة للمنظمات والممولين على اختلاف أصنافهم. ساهم الفاعلون الدوليون، من منظمات دولية أو غير حكومية وممولين ومؤسسات التعاون الدولي التابعة لعدد من الدول الأوروبية، في تعميم استعمال معجم «الاقتصاد الاجتماعي والتضامني» شيئا فشيئا وإبرازه كبديل اقتصادي «مدمج» (inclusif). فظهرت عشرات الجمعيات المختصة في الموضوع، سواء ذات البعد الوطني أو المحلي، ونشأت شبكات سعت لتجميع هياكل الاقتصاد الاجتماعي الموجودة وتبادل الخبرات فيما بينها، وأُطلقت مبادرات محلية نموذجية، خصوصا في المناطق المهمشة، حظيت بالدعم والمرافقة.
هذه التجارب كانت كذلك منطلقا لدراسة آفاق تطوير القطاع الثالث والصعوبات التي تعترضه، كما في تقرير للبنك الدولي، صدر سنة 2017، وخلص إلى أن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لا يزال متأخرا في تونس، حتى بالمقارنة مع تجارب قريبة كالمغرب ومصر وكينيا، وأن بامكانه المساهمة على المدى القريب والمتوسط في سدّ الفجوة الموجودة في التمتع بالمرافق العمومية وفي إدماج الشباب والنساء في قوة العمل. تقرير البنك الدولي لم يكن الأول من نوعه. فقد أصدر البنك الأوروبي للاستثمار، وهو من أبرز الممولين في العالم وفي جنوب المتوسط تحديدا، دراسة سنة 2014 حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في المغرب ومصر وتونس. اعتبرت هذه الدراسة أن القطاع الثالث، إذا ما تم استغلال الفرص التي يمنحها، يمكن أن يصبح عنصرا رئيسا في السياسة التنموية لهذه البلدان.
دفعت جاذبية فكرة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بالإضافة إلى افتقار جلّ الأحزاب السياسية لرؤى وبرامج اقتصادية واضحة وقابلة للتنفيذ، إلى تبني الفكرة تدريجيا من قبل الأطياف السياسية، سواء من اليمين كحركة النهضة أو حزب آفاق تونس، أو من اليسار حيث كانت أحد محاور البرنامج الانتخابي للجبهة الشعبية. فكان الاقتصاد الاجتماعي والتضامني تقريبا محلّ إجماع في الطبقة السياسية، سواء في الحكم أو في المعارضة، قبل الشروع أصلا في صياغة مشروع القانون.

ساهم الفاعلون الدوليون في إبراز الاقتصاد التضامني” كبديل اقتصادي مدمج”

عنصر قارّ في المخططات والاستراتيجيات الحكومية
انعكس هذا الاجماع، منذ 2016، في المخططات والبرامج الاقتصادية للحكومة. فقد اعترف مخطط التنمية 2016-2020، وهو أول مخطط تنموي بعد الثورة، بأهمية القطاع الثالث، وخصّص له فقرة نصّ فيها على «التوجه نحو إيلاء مكانة متميزة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني في منظومة خلق الثروة وتوزيعها والخدمات الاجتماعية والإحاطة بالبيئة». كما شدد مخطط التنمية على أن ذلك يمر عبر «إرساء الإطار التشريعي والمؤسساتي المحفز وإحداث آليات للتسويق والتمويل بما في ذلك الزكاة»، وهو ما يظهر كاستجابة لأحد شعارات حركة النهضة.
كما ظهر التركيز على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في جملة من الاستراتيجيات التي أشرفت عليها وزارات مختلفة، كالخطة الوطنية لتنمية الصناعات التقليدية (2017-2020)، والاستراتيجية الوطنية للتمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء والفتيات في المناطق الريفية (2017-2020)، والاستراتيجية الوطنية للإدماج الاجتماعي ومقاومة الفقر، والاستراتيجية الوطنية للتشغيل. وكان الاقتصاد الاجتماعي والتضامني من بين المحاور الخمسة للاستراتيجية الوطنية للإدماج المالي (2018-2022)، في حين أعدت وزارة الفلاحة استراتيجية لدفع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في القطاع الفلاحي. فكان واضحا أن الدولة تتجه، بجميع أجهزتها، إلى التعويل على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كحلّ للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية. بالتوازي مع ذلك، بدأ هذا المفهوم يجد مكانا له في بعض النصوص القانونية، منذ سنة 2012، وصولا إلى تكريسه في مجلة الجماعات المحلية.
علاوة على ذلك، وكدليل إضافي للداخل والخارج على الأهمية التي توليها الحكومة للقطاع الثالث، عيّن يوسف الشاهد رئيس الحكومة السابق وزيرا مكلفا بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، في التحوير الوزاري الذي أجراه في شهر نوفمبر من سنة 2018.

بين اتحاد الشغل والحكومة… تشارك برعاية دولية
بدأ العمل على مشروع القانون بعد ندوة ثلاثية حول «الاقتصاد الاجتماعي والتضامني كمحرك للتنمية والتشغيل»، جمعت في ماي 2015 الحكومة مع الشريكين الاجتماعيين الممثليْن للشغالين وأرباب العمل، برعاية من مكتب العمل الدولي، الأمانة الدائمة لمنظمة العمل الدولية. خلصت هذه الندوة إلى جملة من الإشكاليات التي تعيق تطوير قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وأبرزها تشتت النصوص القانونية الموجودة واقتصارها على تنظيم هياكل بعينها وعدم مواكبتها للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، علاوة على عدم وضوح الامتيازات التي تتمتع بها هذه الهياكل وعدم وجود آليات تمويل خاصة بها، ولا مؤسسة للإشراف على القطاع. ظهرت إذن الحاجة إلى إطار تشريعي جديد وموحّد يسمح بتجاوز كل هذه المعوقات.
أوكلت الندوة الثلاثية مهمّة صياغة مشروع القانون للاتحاد العام التونسي للشغل. ورغم الدور التاريخي للمنظمة الشغيلة في علاقة بالشأن الوطني عموما، وانطلاق تجربة التعاضد في الستينات من البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد، يبقى تكليف المركزية النقابية، بموافقة من الحكومة، بصياغة مشروع قانون أمرا غير معتاد، دفعت نحوه على الأغلب رعاية مكتب العمل الدولي لهذا المسار.
وقبل أن يسلّم الاتحاد العام التونسي للشغل مشروع القانون للحكومة، في نوفمبر 2016، أطلقت وزارة التنمية والتعاون الدولي مشروع دراسة استراتيجية حول الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بدعم من صندوق الأمم المتحدة للتنمية، تهدف لتشخيص شامل للقطاع، ووضع استراتيجية للنهوض به مع خطة عمل واضحة. انتظرت الحكومة استكمال الدراسة في جويلية 2017، للشروع في صياغة مشروع القانون بناء على مخرجاتها. أنشئت لجنة قيادة، تضم ممثلين عن مختلف الوزارات المعنية إضافة إلى الشركاء الاجتماعيين الثلاثة «لمتابعة تنفيذ مشروع تطوير منظمات وآليات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني… وذلك بالتعاون مع مكتب العمل الدولي»، حسب الفصل الأول من القرار المحدث لها.
ورغم إقرارها بأن مبادرة الاتحاد قلبت التمشي، لأن الأصل هو أن ينبع مشروع القانون من استراتيجية وطنية شاملة، تبنّت الدراسة الاستراتيجية معظم ما جاء في مشروع الاتحاد، مع تحليل مواطن قوته وضعفه، أسوة بسيناريوات أخرى مستوحاة من القانون المقارن في أكثر من مسألة. وقد اعتمدت لجنة القيادة كثيرا على هذه الدراسة، وكذلك على مشروع القانون الذي أعدّه الاتحاد العام التونسي للشغل، واستندت أيضا إلى القوانين المقارنة، في فرنسا والبرتغال وإسبانيا واللكسمبرغ. كما استنجدت اللجنة بخبير دولي «ساهم في إعداد 18 مشروع قانون متعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني عبر العالم». نفس التمشي، أي الاستنجاد بخبير دولي في القانون، تكرّر عند صياغة مشروع قانون التمويل التشاركي، ضمن مسار تشريعي حظي هو الآخر بتمويل خارجي.
وبعد سنتين من الأشغال والاستشارات، انتهت لجنة القيادة في صيف 2019 إلى مشروع قانون كانت الغلبة فيه لرؤية ممثلي الإدارة حول بعض النقاط الخلافية، ورفع إلى مجلس الوزراء مرفقا بتحفظات الأطراف المتدخلة، وتحديدا الاتحاد العام التونسي للشغل.

وفق دراسة للبنك الدولي في 2017 لا يزال الاقتصاد التضامني متأخرا في تونس، بالمقارنة مع المغرب ومصر وكينيا.

نقاش مقتضب في البرلمان، واتهامات للحكومة بالتعطيل

انتظرت حكومة يوسف الشاهد أشهرا عديدة، أجريت خلالها الانتخابات التشريعية والرئاسية وبدأت مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، لتصادق على مشروع القانون وتحيله للبرلمان. نظرت لجنة الفلاحة والتجارة والخدمات ذات الصلة، برئاسة النائب عن حركة النهضة معز بالحاج رحومة، في مشروع القانون، ولم تحتج أكثر من أربع جلسات استماع وجلستي مناقشة وتصويت، يومي 21 و22 ماي، لإنهاء العمل عليه. هذه السرعة غير المعهودة دفعت عددا من النواب، سواء من الائتلاف الحاكم أو من المعارضة، لطلب إرجاع مشروع القانون إلى اللّجنة. كما سعت حكومة الياس الفخفاخ لسحب مشروع القانون في انتظار مزيد دراسته. إلّا أن طلب الحكومة جاء متأخرا، إذ لم تكن تتوقع إنهاء اللجنة أعمالها بهذه السرعة. أصرّت لجنة الفلاحة ومكتب المجلس، ووراءهما كتلة حركة النهضة، على تمرير القانون على مصادقة الجلسة العامة، مستندين للنظام الداخلي الذي يمنع سحب المشاريع طالما أحيلت على نظر الجلسة العامة. بل أن رئيس اللجنة اتهم الحكومة بمحاولة “إفشال المشروع” بالضغط على عدد من النواب، وهدّد بالخروج في ندوة صحفية وتصعيد لهجته إذا تمّ تعطيل مرور مشروع القانون، في سياق أزمة لم تعد وقتها خافية بين الحكومة والحزب الأكبر فيها.
لم تمنع هذه الأجواء من التوافق حول تعديلات عديدة على مشروع القانون، بعضها كان استجابة لمطالب الاتحاد العام التونسي للشغل، مع الحفاظ على الخيارات الكبرى. في النهاية، صادق البرلمان على مشروع القانون بإجماع الحاضرين (131 صوتا)، ليصف بالحاج الرحومة هذه المصادقة بأنها «أفضل هدية قدمها البرلمان للتونسيين منذ الثورة». تصريح يترجم لا فقط رغبة في الاستثمار السياسي لإنجاز تشريعي، وإنما بالخصوص آمالا عريضة معلقة على هذا القانون، ومن وراءه على الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كحلّ سحري لأبرز المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، ومدخل للازدهار والعدالة الاجتماعية، في انتظار ما قد يحمله الواقع ومسار تطبيقه من عقبات وعبر.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 19 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بين زمنين

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة تونس ، البلد ، مجلة ، سياسات عامة ، أطراف معنية ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، تونس ، حراكات اجتماعية ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني