“في تونس، اعتقلوني من الشارع.. وبعد خمس ساعات تركوني في الصحراء”، “أمّ مهاجرة وابنتها ماتتا عطشا في الصحراء”، “في تركيا احتجزوني لستة أشهر حتى أطلب الترحيل لسوريا”، “أنا مهاجر مالي تعرضت للسجن والتعذيب حتى أصل إلى جزر الكناري”، “الجزائريون تركونا وسط الصحراء وأطلقوا النار في الهواء لإخافتنا ومن ثمة ترحيلنا للنيجر”، “المخيّم بصربيا ليس سجنا عاديا، إنه سجن نفسي بكل ما تعنيه الكلمة، أعتقد أن الحيوانات تعيش في ظروف أفضل من هذه”، “بليبيا كنّا في سجن مغلق حيث يرمون الطعام إلينا من السقف”، “في مالطا قالوا لي لا نكترث لما سيحصل معك. إما أن تنهي الإضراب عن الطعام أو تموت!”، “لن تتوقف قوات الأمن المغربية عن الضرب قبل أن يفقد المهاجر وعيه”، “في بولندا كانوا يضربون المهاجرين وهم يهتفون عودوا إلى بيلاروسيا”، “يشهد مخيّم اللاجئين بشمال اليونان ظروفا قد ترقى إلى مستوى المجاعة بعد قطع المساعدات المالية والغذائية”، “حرس الحدود السعوديين قتلوا مئات المهاجرين وطالبي اللجوء الإثيوبيين الذين حاولوا عبور الحدود اليمنية السعودية”…
إن كنت تريد تقفّي أثر جرائم الدول ضدّ المهاجرين واللاجئين فستجد ضالّتك على قارعة الوسائل الإخبارية. شهادات عن الانتهاكات تتراكم أمام المتابعين فلا تترك أية ريبة أو شكّ عن مسؤولية السلطات في انتزاع الحق الطبيعي في التنقّل لمهاجرات ومهاجرين ولاجئين ولاجئات “خطيئتهم الوحيدة” أنّهم يتشبّثون بالأمل للمطالبة بحياة أفضل أو للهرب من خطر محدق.
أمام الوثوق التامّ بتورّط السلطات وقلّة الحيلة أمام جرائمها، تتسرّب الطمأنينة وما يرافقها من تراخٍ وجمود إيمانا بوجود مؤسسات تُعنى بالمساعدة والإغاثة والحماية. منظّمات أمميّة تمّ تأسيسها على أعقاب الحرب العالمية الثانية في ظلّ النظام العالمي الجديد ترسيخا للحقوق والحريات المعلنة وحماية لإنسانية الأفراد وكرامتهم. وهي بذلك منظمات، نظريّا، تخدم الأفراد ضمن أُطر المبادئ الحقوقية وليس الدول ومصالحها. رغم ذلك، تتراكم شهادات الضحايا ونتائج التحقيقات الميدانية حول انحراف هذه المنظمات عن أهدافها ومبادئها المعلنة وحول الإضرار بالضحايا الذين وجبت حمايتهم. وهو ما يجعل التساؤل حول الدور الذي تلعبه هذه المنظمات ومدى فاعليتها أمرا جديّا. في هذا المقال، سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة بالتركيز على أهمّ منظّمتيْن دوليّتين في هذا المجال، وهما المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة وعلى أنشطتهما المنجزة بالدولة التونسية.
ملامح معاناة الضحايا تحت إكراهات خدمات “المساعدة” المهينة
قد تطأ قدماك الأراضي التونسية عبر المعابر البرية أو الجوية أو البحرية بقرار منك أو بعد عملية “إنقاذ”ً/إعتراض للمركب المتوجّه للضفاف الأوروبية. ستجد نفسك في بلد لا يقبل الاختلاف، لا يضمن الحقوق والحريات، لا يشجّع على الهجرة إليه، بلدٌ يتخبّط في أزماته المتعددة ويخضع لشروط الدول المهيمنة عليه ومصالحها. ستُجبر حينها على الانصهار في عالم الهوامش لتُدير شؤونك الحياتية في أطر لا مرئية عرضة للظلم والاستغلال. وقد تختار البحث عن المساعدة والحماية والتوجّه بذلك للمؤسسات التي تقدّمها، سترتطم حينها انتظاراتك بحقيقة هذه المساعدة ومحدوديتها.
إن واجه مسار تنقّلك أجهزة الشرطة الحدودية عند قدومك برّا أو بحرا، فسيتمّ إخضاعك لتحقيقات تحديد الهويّة وقد تؤخذ بياناتك البيومترية من دون رضاك[1]. في أغلب الأحيان، ستتلقّفك المنظمات الإنسانية التي قد تُقابلك بالحدود أو بالميناء الذي أُنزلت فيه بالتنسيق ما بينها وبين السلطات. قد تخضع للقاء أوليّ يديره ممثّل عن المجلس التونسي للاجئين وممثّل عن المنظمة الدولية للهجرة. يهدف اللقاء لا فقط للتعرّف عليك بل أيضا لظروف مسارك الذي قادك إلى هناك والأهمّ إلى نواياك ومشاريعك فيما يخصّ التنقل. سيَقترحُون عليك خدماتهم المتعلّقة بالعودة “الطوعية” إلى نقطة البداية التي صارعت طويلا لكي تُغادرها، أو البقاء هناك لتُجرّب حظّك لعلّ المفوضية السّامية تعترف بك كلاجئ وتمنحك بطاقة في الغرض، على أمل أن تكون ضمن الأكثر تميّزا والأوفر حظّا لكي يقبل أحد البلدان الأخرى باستضافتك لبدء حياة جديدة هناك. فتكون حينها على سبيل المثال أحد اللاجئيْن الاثنيْن فقط اللذيْن تمّ قبولهما ونقلهما خلال شهري جانفي وفيفري 2023 من مجموع 9474 لاجئ وطالب لجوء[2].
إذا كنت ضمن الـ 63% الذين اختاروا البقاء وطلب اللجوء أو ضمن الـ 5.7% الذين اختاروا العودة إلى بلدانهم[3]٬ سيتمّ استقبالك في أحد مراكز الإيواء التابعة لهذه المنظمات ولشركائها[4]. تعدّدت شهادات ساكني هذه المراكز المتعلقة بظروفها السيّئة من انقطاع للماء والكهرباء٬ وقلة الأثاث٬ واكتظاظها بالمتساكنين٬ وسوء معاملة المشرفين عليها وضعف عددهم٬ وقذارتها وعدم الاعتناء بها٬ وصولا إلى انتشار الاعتداءات داخلها كالتحرّش الجنسي، ممّا أدّى لمغادرة العديد من المهاجرين وطالبي اللجوء لهذه المراكز للبحث عن الأمان واللجوء خارجها.
ظروف إيواء مهينة وغير إنسانية، تمّ توثيقها أيضا في تقارير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية[5] وتأكيدها خصوصا بعد زيارة الوزير المكلّف بحقوق الإنسان سنة 2019 لمركز إيواء بمدنين تحت إشراف المنظمة الدولية للهجرة والهلال الأحمر التونسي. قرّر على إثرها الوزير إغلاق المركز الذي كان يستقبل 210 شخصا بينما لا تتجاوز سعته القصوى 80 شخصا[6].
سوء العناية بالمهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين يمتدّ أيضا للمساعدات الغذائية واللباس. فقد وثّقت شهادات عدّة عدم توفير ملابس تقي متساكني المراكز من البرد خصوصا في غياب التدفئة وعدم توفير الحاجيات الأساسية فيما يتعلّق بالغذاء. في ظلّ غياب أي مطعم بمراكز الإيواء (فيما عدا المركز المتواجد بالعاصمة[7])٬ يتمّ تقديم بطاقات الشراء التي يحتكر قبولها مزوّد واحد والذي قد لا يوفّر كل المواد التي يحتاجونها (كالملابس على سبيل المثال). هذا بالإضافة إلى اضطرارهم لصرف البطاقة دفعة واحدة لأنّ المزوّد لا يعيد ما تبقّى من المال مما يعني بقاءهم من دون موارد إلى حين توزيع بطاقات جديدة. أمّا فيما يخصّ الرعاية الصحية، وفي غياب الإطار الطبي بالمراكز، لا يتمّ تمكين المهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين من مبالغ العلاج مسبقا. كما لا يتمتّعون بمجانية الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية عند توجّههم إليها. ولم تبحث المنظمات الإنسانيّة عن صيغة مع الدولة لضمان ذلك عبر تسديد التكاليف بشكل لاحق، وهو ما انعكس مباشرة في عدم معالجة الأمراض حتى المستعجلة والخطيرة (سرطان، مشاكل صحية بعد الولادة، جروح وآثار تعذيب بعد المرور بمناطق نزاع مثل ليبيا، الخ) لعدم توفّر الأموال لدى أشخاص تنقّلوا هربا من الفقر والجوع والحرب. أدّى ذلك في أفريل 2019 لوفاة شاب أريتري[8] متأثّرا بالأمراض التي كان يشكو منها إبان هروبه من ليبيا وفي جوان 2020 لوفاة طالب لجوء سوداني[9] نتيجة سقم وأوجاع دائمة بالصّدر لم تتمّ معالجتها.
ينضاف ذلك إلى غياب أيّ إحاطة أو رعاية لصحّتهم النفسية رغم وقع وأهمية ما عايشوه من أذى وصدمات خلال رحلاتهم وتجاربهم السابقة والتي تتسبب الظروف اللاإنسانية للاستقبال في مضاعفتها. خلال مارس 2019 على سبيل المثال٬ أقدم شخصان بمركز الإيواء بمدنين على محاولة الانتحار٬ كان من بينهما قاصر في سن 15 سنة قام بقطع شرايينه. بعد أشهر٬ قام شخص آخر بمحاولة انتحار عبر إضرام النار بنفسه. فما كان من المفوّضية، إلا أن سلّمته إلى البوليس لاستنطاقه بينما قامت بمنع الصعود وغلق الطابق الرابع للمركز لمنع محاولات الانتحار عبر القفز من السطح[10].
نظرا لثقل كلّ ما سبق ذكره وأبعاده المهينة للكرامة الانسانية، سيكون من المنطقيّ أن تختار الخروج سبيلا. ستختار الخروج من المركز أوّلا لعلّ ظروف الشارع وقوانينه تكون أكثر رأفة بك، وستحاول الخروج من هذا البلد قانونيّا علّك تلامس حلم الاستقرار وتجعله حقيقة فتقدّم طلبا رسميّا للجوء.
لاجئون من دون ملجأ أو حقوق في بلد لا يعترف باللجوء
ستبدأ رحلة طلب اللجوء عبر مرحلة مهمّة ألا وهي التسجيل التي يُشرف عليها المجلس التونسي للاجئين[11] وليس المفوضية، والذي تحوم حوله شبهات فساد جدية تمّ فيما سبق إشعار هيئة مكافحة الفساد بها[12]. سيتوجّب عليك أوّلا أن تطلب تحديد موعد لتقديم طلب التسجيل. موعد قد يمتدّ انتظارك له أشهرًا طويلة. خلال أكتوبر 2019، تجاوز عدد طالبي اللجوء الذين ينتظرون موعد التسجيل 1000 شخص. يُثمر تسجيلك على تحصّلك على بطاقة “طالب لجوء”، أحيانا بعد مدّة انتظار ثانية. لن تُمكّنك هذه البطاقة من أيّة خدمات أو حقوق في تونس كالحقّ في العمل أو في العلاج، ولكنّها قد تقيك من بطش البوليس وممارساته العنصرية في الشارع والمتمثلة خصوصا في الإيقافات العشوائية على أساس اللون، فغالبا ما يتمّ إطلاق سراح الموقوفين الذين يستظهرون ببطاقة طلب اللجوء على أساس اتفاق مبرم بين المفوضية لشؤون اللاجئين والسلطات التونسية.
بعد التسجيل٬ سيتعيّن عليك انتظار موعد المقابلة المخصّصة لتحديد وضعيّتك التي ستُفضي إمّا للاعتراف بك كلاجئ أو لرفض طلبك. مرّة أخرى ستمتدّ مدّة انتظار المقابلة التي ستشرح خلالها وضعيّتك أشهرا عدّة وقد تصل إلى سنة. تُرجع المفوضية لشؤون اللاجئين أسباب هذا التأخير لتزايد عدد طالبي اللجوء الذي يتجاوز 8000 شخصًا حاليا٬ ولفترات الانقطاع عن العمل التي تُحدثها الاحتجاجات والاعتصامات التي يقوم بها اللاجئون وطالبو اللجوء، أمام مقرّ المفوضية، احتجاجا على تردّي أوضاعهم الانسانية. وقد تُحمّل مسؤولية هذا التأخير أيضا في خطاب الخبراء والموظفين، للمهاجرين الذين “لا يستحقّون اللجوء” والذين “يعطّلون” مسار تحديد الوضعيّة عبر إغراق المفوضية بملفات لا تستجيب للشروط. بقطع النظر عن التقسيم السياسي بين المهاجرين واللاجئين ومدى وجاهة المقارنة والفصل بين هشاشة المهاجرين لأسباب اقتصادية واجتماعية وهشاشة لاجئين فارّين من مناطق نزاع٬ فإنّ تحميل مسؤولية تأخّر النظر في الملفات للأشخاص الأكثر هشاشة والمعرّضين للانتهاكات اليومية يصبّ في خانة اللامسؤولية والصفاقة. فلماذا يتمّ توجيه أصابع الاتهام للمهمّشين الذين يبحثون عن بطاقة تحميهم فقط من انتهاكات البوليس وعنصريته في ظلّ سلطة لا تمكّنهم من أبسط حقوقهم بينما لا يتمّ مطالبة المفوضيّة بالترفيع من مواردها البشرية وآليات عملها للقيام بما يقع على عاتقها من مهامّ في أكمل وجه ومن دون الإضرار بحقوق الضحايا؟
سيأتي القرار المتعلق بطلبك أيضا بعد أشهر٬ ممّا يجعل مسار طلب اللجوء يمتدّ أحيانا لعامين أو أكثر. إن تمّ رفض طلبك، فستُصبح عُرضة للترحيل ولن يُعترف لك بأي حقّ. وإذا اعتبرت هذا القرار مجحفا، بإمكانك تقديم طلب لمراجعته، ولكن سترتدّ مساعيك حينها أمام إجراءات الطلب. فلا أحد مؤهّل لمراجعة قرار المفوضية غيرها وهي بذلك الخصم والحكم في آن واحد. عند سؤالها عن معدل الاعتراف بوضع اللاجئ بعد إجراء إعادة فتح الملفات٬ اختارت المفوضية لشؤون اللاجئين عدم الإجابة[13].
أمّا إذا تمّ قبول طلبك٬ فسيتمّ تمكينك من “بطاقة اللاجئ”. في ظلّ غياب أي إطار قانوني تونسي يعترف بحقوق اللاجئين، ستساعدك هذه البطاقة فقط على “السماح” لك بالبقاء على الأراضي التونسية ولكنّها رسميّا لا تُعتبر تصريحا بالإقامة ولا تُضاهيه. هذا بالاضافة إلى أنّها لا تمكّنك بالاعتراف بأي من حقوقك: فلن تُمتّعك بالرعاية الصحية، ولن تسمح لك بالالتحاق بسوق الشغل الرسمية٬ ولن تُمكّنك من مزاولة دراستك، ولن تُمتّعك بحقّ الملكيّة ولا حتّى بحصص تدريب على اللغة لتسهيل اندماجك الثقافي بالمجتمع. ستبقى إذا على الهامش في هشاشة مُطلقة مُكبّلا باختيارات معدودة تتلخّص في العمل بسوق الشغل الموازية بأجور منخفضة مقارنة بما يتلقّاه التونسيين٬ للقيام بأعمال شاقة (كالبناء والتنظيف والفلاحة٬ الخ)٬ عُرضة للتحيّل وللانتهاكات التي ستبقى من دون محاسبة. فلا أمل لك في التوجّه لأعوان البوليس والقضاء للمطالبة بحقّك. في ظلّ غلق أبواب البلدان لاستقبال اللاجئين٬ ستُرمى لاحتمالية شبه مستحيلة لقبول ملفّك في بلد آخر واستقرارك به. وكأنّ كلّ ما طالك حتى الآن لا يكفي، ستقُوم المفوضية برميك في الشارع إذا كنت ما زلت تتحمّل الظروف المهينة بمراكز الإيواء وستقطع عنك المساعدة المالية الضعيفة التي كانت تقدمها لك تحت ذريعة أهمية تحمّل المسؤولية وكسب قوتك والاندماج بالمجتمع في بلد لا يعترف بوجودك أصلا. وإن “تجرّأت” على مساءلة هذه المنظمة عن سبب عبثها بحياتك وإلقائها بك في مخاطر ومصير مجهول ستأتيك إجابة مسؤوليها بالقول “يمكنكم الذهاب لليبيا.. لا أكترث لذلك“[14] أو بالتبليغ عنك لأعوان البوليس والطلب منهم “بإزالتك” من أمام مقرّهم لإخماد احتجاجك[15].
كل ما سيتبقّى لك حينها إمّا الخضوع لضغوطات المنظمة الدولية للهجرة للعودة “طوعا” إلى بلدك الذي سبق لك أن تكبّدت عناء مغادرته بحثا عن حياة أفضل أو التشبّث بذلك الحقّ وقطع البحر من أجله. قد تختار حينها أن تأخذ بزمام حياتك ومستقبلك عبر مخاطرة كبرى بعد أن استنفذت كلّ السّبل والسياسات التي وضعتها الدول والمنظّمات الدولية وعلّقت آمالك عليها، بينما سيتّهمونك في خطابهم الرسمي بعدم الرغبة بالعمل في تونس وعدم الصبر والكفاح من أجل تغيير حياتك من جهة أو بالانخراط في مؤامرة كبرى ضدّ التونسيين “لاستيطان” بلدهم من جهة أخرى، مغذّين بذلك السردية المعادية للمهاجرين واللاجئين ومتخلّيين تماما عن مهمّتهم الأساسية ألا وهي حمايتك وحفظ كرامتك.
أبعاد الدور الباهت وسياسات اللاّحماية
لا تبرز المسافة التي تتخذها هذه المنظمات عن واجبها في توفير الحماية لمستحقيها من خلال ممارساتها وأنشطتها فقط. بل تجلّى ذلك أيضا من خلال الصوت الخافت الذي همست به خلال الهجمات العنصرية الأخيرة والتي نتجت عنها انتهاكات خطيرة وخسارة أرواح بشرية. باستثناء البيان الصحفي المشترك[16] الذي أصدرته المفوضية لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة الذي عبّرتا فيه عن حُزنهما لما آلت إليه الأوضاع٬ لم تسارع المنظّمتان إلى توفير خدمات استعجالية كالمساعدات الصحية أو القانونية التي كانت الضحايا في حاجة لها في ذلك الظرف بالذات أو حتى الإعلان عن إجراءات طارئة لحمايتهم (توفير الإيواء أو تسريع النظر في مطالب اللجوء وإعادة التوطين).
دور باهت يتمّ تفسيره غالبا بضعف الموارد، مما يُقيّد حركة المنظمتين ومدى استجابتها لطلبات المستحقّين. ويمثّل تمويل هذه المنظمات عنصرا هامّا لفهم تعقيدات ملفّ الهجرة واللجوء. فعلى سبيل المثال٬ إلى حدود 31 أوت 2023 تفتقر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ل42% من ميزانيتها المخططة بينما تحصّلت على ما يقارب 39% من ميزانيتها بشروط مجحفة تُقيّد كيفيّة استعمالها لهذه الأموال وبالتالي عدم قدرتها على صرفها في الحالات المستعجلة[17]. يبرز حينها السؤال المركزي حول الممولين لنشاط هذه المنظمات.
لا يخضع تمويل المنظمات الأممية إلى ميزانيّة موحّدة يتمّ تجميعها وتقسيمها حسب الأولويات والاستراتيجيات. بل تُموّل الدول مباشرة عمل المنظمات التي تختارها والتي تتناسب بداهة مع مصالحها ونفوذها. فعلى سبيل المثال، تتمركز هولندا وإيطاليا كأوّل المموّلين لمفوضية اللاجئين بتونس. وهو ما ينبئ بعملية إخضاع هذه المنظمات لسياسات هذه الدول ومصالحها. يُترجم ذلك على أرض الواقع في السياسات التي تعتمدها هذه المنظمات، والتي وإن اتخذت عناوين من قاموس الإغاثة والمساعدة الانسانية إلاّ أنّها تنضوي تماما تحت المقاربة الأمنية التي تتخذها الدول الاوروبية في ملفّ الهجرة. فيتمّ تعويض عبارة اعتراض قوارب المهاجرين بعمليات إنقاذ ويُصبح التعدّي على حقّ المهاجرين في التنقّل تشجيعا على العودة (التي قلّما تكون في هذا السياق طوعية)٬ أمّا عدم التحرّك لحماية المستحقين حتى في أكثر الوضعيات خطورة على الأرواح فيُصبح احتراما لسيادة الدول.
حتى وإن سلّمنا لمقتضيات بيروقراطية المنظمات ونظم عقلها الباطني وحتمية خضوعها لمصالح الممولين من الأنظمة الأوروبية٬ لا نكاد نفهم أسباب تخلّيها عن الحدّ الأدنى الإنساني الذي يحفظ الكرامة البشرية في التعامل مع المهاجرين واللاجئين والذي يتجلّى في تردّي قيمة الخدمات المقدّمة للضحايا. ولا نفهم الهدف من كمية الحيف والظلم المُمارس من قبل منظمات أممية نشأت على عقيدة حقوقية تُعلي القيمة الانسانية. قد نجد تفسيرًا لذلك في المنحى الإداري الجافّ الذي أصبح يتخذه عمل هذه المنظمات. فقد أصبحت مهامها تخضع لتوجّه تقنيّ تمّ إفراغه من كلّ مقاربة مبدئية مدافعة عن حقوق المهاجرين واللاجئين وهو ما يتمظهر في الأنشطة التي تنفّذها[18]. فمثلا٬ ستنكبّ هذه المنظمات على دعم قدرات الموظفين العموميين والمتدخلين في كيفية التصرّف وإدارة مسائل الهجرة (كيفية تجميع البيانات، إحصائيات الهجرة، تقديم الخدمات، الخ) لكنّها لا تدافع على مسائل مركزية في حماية المستحقّين كتسوية وضعياتهم القانونية أو الترفيع في عمليات استقبال اللاجئين وتحقيق استقرارهم.
ينبع انحراف عمل هذه المنظمات الإنسانية عن مبادئه التأسيسية من طريقة تمويلها وكيفية إدارة مواردها المالية. فتُصبح بذلك رهينة سياسات الدول الأوروبية المهيمنة من جهة ورهينة العقل الإداري الباطني المشوّه الذي يحكمها من جهة أخرى. منظمات بيروقراطية منزوعة من أي مقاربة مبدئية ، تستبطن المعنى من وجودها وهدفه من هشاشة الضحايا وبؤسهم الذي تقتات منه٬ فكأنها نسيت الهدف من وراء ابتداعها وأنها وسيلة لخدمة الضحايا لا غاية بحد ذاتها.
نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
للاطلاع على العدد كاملا، إضغطوا هنا
[1] لا تُعلم السلطات التونسية المهاجرين عن حقوقهم المتعلقة بحفظ معطياتهم البيومترية وسريّتها ولا عن فرضية تبادلها مع سلطات أو جهات أجنبية.
[2] Tunisia, Operational Update, UNHCR, February 2023.
[3] إحصائيات شهر فيري 2023 المتعلقة بالشريحة التي تمّ لقاءهم واستجوابهم. اختار 18% من المستجوبين البقاء في تونس من دون طلب اللجوء واختار 7% مواصلة التنقّل بينما عبّر 6% بأنهم لم يتخذوا أيّ قرار بعد. نشرت هذه الإحصائيات ب: “Tunisia: overview of mixed movements profiling, UNHCR, February 2023.”
[4]
[5] “تقرير حول وضعية المهاجرين في مركز الهلال الأحمر بمدنين”٬ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية٬ 5 مارس 2019.
[6] “Fermeture du foyer d’hébergement de migrants et demandeurs d’asile Al Hamdi”, communiqué de l’OIM, 22 Mars 2019.
[7] على غرار كل مراكز الإيواء التي تتواجد بالجنوب التونسي٬ يقع هذا المركز بالعاصمة وهو مخصص لاستقبال الأشخاص الذين “اختاروا” العودة “الطوعية” لبلدانهم قبيل سفرهم.
[8] “مسؤول أممي يهدد اللاجئين”٬ بيان للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية٬ تونس في 23 أفريل 2019.
[9] “وفاة طالب لجوء في تونس تفتح النقاش حول دور المنظمات المعنية برعاية المهاجرين”٬ مهاجرنيوز٬ 10 جوان 2020.
[10] “Politiques du non accueil en Tunisie: des acteurs humanitaires au service des politiques sécuritaires européennes”, FTDES, Migreurop, Juin 2020.
[11] تعتمد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على المجلس التونسي للاجئين٬ وهو جمعية تونسية٬ للإشراف على عملية الإيواء والتسجيل لطلب اللجوء٬ وتمّ الاعتماد على منظمة الهلال الأحمر لإدارة المراكز التابعة للمنظمة الدولية للهجرة.
[12] “المجلس التونسي للاّجئين: أَمْوَالُ اللاّجئين في جيوب العائلة؟!”٬ أمل المكي٬ منصة إنسان٬ 20 ماي 2020.
[13] قامت الباحثة صوفي آن بيزيو بتوجيه عدة أسئلة كتابية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ونشر الإجابات بالملاحق المتعلقة بالتقرير المنشور تحت عنوان:
“Politiques du non accueil en Tunisie: des acteurs humanitaires au service des politiques sécuritaires européennes”, FTDES, Migreurop, Juin 2020
[14] مقتطف مسرّب لإجابة مبعوث مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة “فانسون كوشتال” على احتجاجات اللاجئين على وضعيتهم في مركز الإيواء وطول انتظارهم لإعادة توطينهم بأحد بلدان القبول٬ تمّ نشره على الصفحة الرسمية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتاريخ 23 أفريل 2019.
[15] تونس.. الأمن يفض اعتصام مهاجرين أفارقة أمام “مفوضية اللاجئين”٬ وكالة الأناضول٬ 11 أفريل 2021.
[16] “L’OIM et le HCR plaident pour une résolution urgente de la crise des réfugiés et des migrants bloqués à la frontière entre la Tunisie et la Libye”, OIM, UNHCR, 31 Juillet 2023.
[17] Funding Update, UNHCR Tunisia, 31 August 2023.
[18] “L’immigration subsaharienne en Tunisie : de la reconnaissance d’un fait social à la création d’un enjeu gestionnaire, Camille Cassarini, 2020.