“
تصعد سيدة ستينية مع ابنتها العشرينية في الحافلة الصغيرة من النبطية باتجاه المصيلح-الزهراني. لحظات وتبدأ الصبية بالصراخ “ما بدي روح ع المدرسة”. ترتبك الأم وتهمس “خمسة أرواح مختلفة حلت في جسد واحد”، تقول موصفة ما تعتبره وضع ابنتها العقلي. كانت السيدة تقصد مستشفى” الفنار” للامراض النفسية والعصبية. ذلك المبنى الحجري المسقوف بالقرميد والذي يطلق عليه عامة الناس إسم مستشفى “المجانين”.
وضع زهرة، كما أسمتها أمها، أثار شفقة سائق الحافلة، فلم يتقاض الأجرة منهما. ربما تكره ما تسميه “المدرسة” بسبب كل ذلك الجوع والبرد والوسخ والرطوبة والروائح الكريهة التي يغرق فيها المشفى الجميل الذي لا يشي مبناه بما يعتريه من كوارث. مسألة أخرى مهمة: زهرة لا تحظى بكامل علاجها، بسبب نقص الأدوية أيضاً.
قفز مشفى الفنار للطب النفسي من تلة الزهراني إلى مواقع التواصل الاجتماعي ليتحول إلى قضية رأي عام، إثر “بوست” كتبته المواطنة حياة جابر على صفحتها على الفيس بوك تروي مشاهداتها عن واقعه بعدما قصدته مع صديقة لها رغبت بتوزيع أغطية شتوية على المرضى. وفي بوست طويل روت حياة جابر جوع المرضى وبردهم وغياب أدنى معايير النظافة، ومآسي المتروكين هناك مع أدنى معايير العناية والإهتمام.
“المفكرة” قصدت مشفى الفنار، هناك حيث يتواطأ أكثر من طرف معني بالمكان على حجب حقوق نحو مائتي مريض ومريضة، ليتحول المبنى إلى ما يشبه السجن، ولكنه بالتأكيد لا يشبه السجون الأوروبية التي تراعى فيها معايير صون الكرامة الإنسانية.
مرضى بلا أدوية
بعيداً عن “القمل والسيبان” الذي يتغذى من دماء المرضى المنهكين، وفق ما أكد أحد الموظفين للمفكرة، يتوقف ” طبيب المستشفى شبه الوحيد، الدكتور حسن طفيلي عند التأثير السلبي لتقنين”أدوية وعلاج المرضى، وخصوصا المصابين بأمراض صعبة ومعقدة”، كما يقول طفيلي.
يؤكد طفيلي أن منح العلاج بالكميات الموصوفة طبياً والضرورية للحفاظ على صحة المريض نفسيا أو عصبياً هو من أهم الخدمات التي يجب تقديمها للمرضى، وهذا ليس كاملاً في مشفى الفنار”. يتحدث طفيلي عن عدم دفع وزارة الصحة العامة مستحقات المشفى المالية حيث وصلت المتأخرات إلى نحو مليار و300 مليون ليرة “تعود الوزارة إلى دفعها عاجلاً أم أجلاً”. هذه المستحقات لا تغطي ديون المشفى التي لامست المليار و700 مليون ليرة لبنانية، وفق ما يقول الموظفون ل”المفكرة”.
في مقابل امتناع وزارة الصحة عن دفع مستحقات مشفى الفنار، يغمز بعض الموظفين من قناة اتهام إدارة المشفى بالتقصير. وتديره اليوم إبنة وزير الصحة الأسبق الراحل عبد الرحمن اللبان الذي أسس مع صديقين له، المشفى في العام 1962، وأعتبر يومها إنجازاً مهما لمنطقة الجنوب. يقولون أن ابنة اللبنان أساءت إدارة المكان، وأن دعاوى قضائية عدة رفعت بوجه المشفى حتى من “الخضرجي” واللحام وغيره ممن كانوا يزودون المشفى بالإحتياجات.
يتألف مشفى الفنار من ثلاث طبقات تتوزّع حسب حالات المرضى، وهو مستشفى خاص بذوي الإحتياجات الخاصة والأمراض العصبية والنفسية والعقلية؛ وكذلك المدمنين على المخدرات. كانت تديره عادلة اللبان، ثم تولته ابنتها سمر اللبان. وحاولت المفكرة الوقوف على رأيها من دون جدوى، إذ رد أحد مساعديها على الهاتف في المرة الأولى وقال أن هاتفها ليس معها، وبعد ذلك لم ترد ثانية على اتصالاتنا.
شهران بلا حمام
إذن، المأساة تطال شح الدواء العلاجي وسوء التغذية وصولاً إلى التجويع، والبرد الذي ينخر العظام ويتسبب بالأمراض، ومن ثم النظافة وعلى رأسها “جحافل” القمل والسيبان التي تتغذى من دماء المنهكين المتروكين هناك، والسبب عدم توفر الشامبو والصابون والمياه الساحنة “صارلهم المرضى أكتر من شهرين بلا حمام”، يقول موظف مسؤول عن نظافتهم ل”المفكرة”.
بعدما انتشر بوست حياة جابر، تبرعّت إحدى عاملات المشفى الى إزالة النفايات عند المدخل وهو ما استفز الموظف المسؤول. وعليه، بعد أن كان يرفض السماح لنا بالتقاط صورة من الداخل، “ممنوع التصوير إلا بإذن من الإدارة”، أصر على إدخالنا عنبري الرجال الاول والثاني، وإلى الطابق السفلي المخصص للنساء: “هنا الصورة الحقيقية، تفضلي صوري، صوري الارض المكسرة، الحيطان التي تشربت الرطوبة حتى تقشّرت، وشروخ الاسقف والنش”. للاسف، الصورة لن تستطيع نقل الرائحة النتنة المنبعثة من الطوابق ومن المرضى، “المؤسسة.. تموت بمن فيها”، يقول الموظف، فيما 60 بالمئة من أقارب المرضى لا يزورونهم، ولا يهتمون بهم.
في عنبر الرجال “هل تعرف معنى الألم؟”
ما أن همّ الموظف بفتح باب عنبر الرجال المقفل، حتى اجتمع المرضى حوله. أشخاص يتجولون في المكان ببطئ، يتنقلون بين أروقة جدرانها بلا طلاء وداخل غرف ببلاط مكسور. يعلو صوت أحدهم متحدثا عن الجوع ونوعية الطعام المحدود. هناك تشعر بالظلم بسبب منع أدنى مقومات العيش الكريم لكل هؤلاء. الرائحة في غرفة الطعام تشبه الرائحة في الحمامات العمومية، مقاعد وجدران تشبه سجناً مهجوراً، أوان معدنية غير لائقة حتى لإطعام الحيوانات. في خضم كل هذا يرتفع صوت رجل هادئ ووحيد ليقول “هل تعرف معنى الألم، كأن يأتون بك الى هنا والى الأبد”. في هذا السجن الذي يبدو أبدياً، لا ينال المرضى العلاج اللازم ولا حتى أدوية الأمراض المزمنة. سوء التغذية لا يطال فقط محدودية أنواع الطعام واقتصاره على الأرز مع العدس أو أي نوع رديء أخر، بل يصل إلى الكمية. لا ينالون سوى وجبة طعام واحدة يومياً، هي عبارة عن صحن طبيخ يأكلونه عند الظهر. لا يعرفون طعم الفاكهة إلا في ما ندر. يقول الطباخ “ليس لدينا مواد غذائية إلا ما يتبرع به بعض الخيرين، العدس والرز، البندورة…، فالديون تراكمت على المستشفى، حتى أن اللحام رفع دعوة قضائية على إدارة المشفى مطالباً بديونه المتراكمة منذ أكثر من سنتين.
في عنبر النساء
في الطابق السفلي، تقبع نحو 60 الى 75 مريضة (حسب حركة الخروج والدخول). تتراكم من حولهن ثياب ملونة لا تشبه واقعهن. أسرّة ممزقة متعبة من الفوضى والإتساخ وطول السنين. نساء بملابس بالية، يقفن الى جانب بعضهن البعض على جدار العنبر. إحداهن تبتسم بحرارة لتسأل “رح تسكروا المستشفى”؟ وكأنها تتمنى أن يذهب هذا المكان إلى الجحيم. هنا، الجوع نفسه، الروائح نفسها مع نتانتها، والبرد القارس باد على أجساد المريضات اللواتي تنزوي بعضهن في ركن بعيد عن المدخل والنوافذ.
موظفون من دون رواتب
بعد عدوان تموز 2006، قدمت الحكومة الايطالية هبة لأصحاب مستشفى “الفنار”. يومها تم ترميم المبنى تجديد الأجنحة والأسرة، والمراحيض والملاعب، وإنشاء مطبخ حديث، وحدائق جديدة، واستحداث أقسام للأشغال اليدوية والحرفية منها قسم للزراعة، الخياطة، الحياكة على النول، الرسم الموسيقى، الدبكة، التمثيل وغيرها. ولكن ومنذ العام 2013، تعاني المؤسسة حال يرثى لها نتيجة غياب دعم الدولة وإهمالها رغم أهمية هذا الصرح الطبي في الجنوب. .
في مشفى “الفنار” يبذل الموظفون والموظفات جهودا مضاعفة برغم عدم قبضهم رواتبهم. يقول المسؤول عن المطبخ “في إحدى المرات قررت عدم الحضور صباحا، ولكنني في تمام الساعة الثامنة الا ربع استقليت سيارتي وتوجهت الى المشفى لتحضير وجبة الفطور للمرضى. من كان سيطعمهم؟”. في “الفنار” مشاعر الموظفين أكثر اضطرابا، يشكون التقصير من الإدارة والشركاء والوزارة المعنية، ويناشدون وزارة الصحة الإفراج عن المخصصات الإستشفائية للمرضى، ويعتبر بعضهم أن “الإدارة” هي المعنية المباشرة في الإهمال الحاصل والمستشري إلى هذه الدرجة منذ شهر حزيران 2018.
منذ أشهر، سمحت المسؤولة عن المشفى بالخروج لنحو 40 مريضا عقليا، لأن المصاريف والديون تضاعفت. يحمّل مصدر من الداخل إدارة المشفى المسؤولية كونها تتقاضى ما بين 200 ألف ليرة لبنانية و300 دولار أميركي عن كل مريض (وفق حالة العائلة) وكون معظم أهالي معظم المرضى “غير قادرين على إيوائهم لظروف صحية ونفسية وإجتماعية”.
إنعاش “الفنار”
بعيدا عن الطعن بأي طرف، تصوّب إحدى الموظفات المشكلة نحو هدف واحد “نحن ما بدنا نستهدف حدا، أو نشهّر بصاحبة المستشفى أو بوزارة الصحة، بدنا مصلحة المرضى المساكين، وتشرّف الوزارة تقوم بواجباتها، فمن المعيب أن تُهمل مؤسسة خدمت الجنوب لفترة طويلة بسبب صراعات شخصية”. وبحسب كلام الموظفة “هذه المؤسسة حمت أشخاص، وفتحت بيوت، وهي بحاحة إلى التفاتة من وزارة الصحة لإعادة إنعاشها، لما فيه مصلحة الجميع؛ سواء موظفين أو مرضى أو منطقة، وخصوصا أنها لا تخدم أهل الجنوب فقط، بل تستقبل مرضى من كل لبنان”.
وتعتبر موظفة أخرى أنه يجب “وضع حد لإذلال الأشخاص المصابين بأمراض نفسية وعصبية وذهنية، ولماذا تم تغييب الخطط لإشراك بعض المرضى في الخدمات الداخلية في المشفى مثل الطبخ والغسيل والزراعة وغيرها، وهو ما يشغلهم ويسليهم وقد يكون مفيداً في علاجهم؟”.
“