تستعر حرب المراسيم في لبنان، منذ مرسوم منح القدم لضباط الجيش مروراَ بمرسوم التجنيس وصولا لمرسوم تعيين قناصل فخريين حاليا. والحقيقة أن هذا الصراع يعكس تضارب مصالح أركان النظام الحاكم في سعيهم لتكريس مواقع نفوذ لهم داخل الإدارة عبر توخي الحجة القانونية لتحقيق أهدافهم. وبغض النظر عن التراشق الاعلامي والجدل السياسي، سنحاول معالجة قضية توقيع وزير المالية على مرسوم تعيين قناصل فخريين انطلاقا من مبادئ القانون الإداري واجتهاد مجلس شورى الدولة.
دأبت العادة أن تصدر مراسيم تعيين القناصل الفخريين موقعة من وزير المالية إضافة طبعا لتوقيع وزير الخارجية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية. فالمرسوم مثلا رقم 17043 تاريخ 7 آب 1964 والصادر في عهد الرئيس فؤاد شهاب حمل توقيع وزير المالية حينها أمين بيهم. وفي سنة 1978، صدر المرسوم رقم 1531 بتعيين عدد من القناصل الفخريين موقعا من قبل وزير المالية فريد روفايل. ولم تتغير هذه الممارسة بعد التعديلات التي أدخلها اتفاق الطائف على الدستور, فقد وقع فؤاد السنيورة بوصفه وزيرا للمالية على مرسوم تعيين قنصل فخري في أوكرانيا بموجب المرسوم رقم 10394 تاريخ 4 تموز 2003. وفي الأمس القريب، تكرر الأمر عينه مع توقيع وزير المالية علي حسن الخليل على مرسوم تعيين قنصل فخري في الأرجنتين رقم 2345 الصادر في 13 شباط 2018.
جراء ما تقدم، السؤال الذي يطرح نفسه: هو معرفة هل عادة قيام وزير ما بتوقيع نوع معين من المراسيم كافية للقول بأن هذا التوقيع هو شرط أساسي لاكتمال عناصر دستورية المرسوم؟ فالاجتهاد الإداري في لبنان اعتبر بشكل ثابت ومستقر بأن خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختص يجعل هذا المرسوم عملا إداريا باطلا لصدوره عن سلطة غير صالحة لأن ذلك يتعلق بقضايا الصلاحية وليس بالشكليات؟
نصت المادة 18 من نظام وزارة الخارجية والمغتربين (قانون موضوع موضع التنفيذ بموجب الرسوم رقم 1306 تاريخ 18 حزيران 1971) أنه "يجوز أن يعين بمرسوم قناصل فخريون لبنانيون وغير لبنانيين في بعض البلدان الأجنبية". كما أنه "يجوز إنهاء مهمة القنصل الفخري في أي وقت من دون أي شرط ودون أن يستحق له أي تعويض". وبالفعل صدر أكثر من مرسوم بإنهاء مهمة بعض القناصل الفخريين ممهورة أيضا بتوقيع وزير المالية. لكن من الملاحظ أن المادة المذكورة لا تشترط صدور المرسوم بناء على اقتراح وزير المالية أو وزير الخارجية، حتى بل هي تكتفي بالقول أن التعيين يتم بمرسوم عادي أي بمرسوم لا يحتاج لصدوره إلى الحصول على موافقة مجلس الوزراء. أمام هذا الواقع القانوني من جهة والسوابق التي تكرس توقيع وزير المالية، لا بد لنا من إبداء الملاحظات التالية:
لوزير المالية أن يوقع على مرسوم تعيين قناصل فخريين. بل أكثر من ذلك، لجميع الوزراء التوقيع على المراسيم كلها كون هذا الأمر لا يشكل عيبا من شأنه إبطال المرسوم. فصدور العمل الإداري مذيلا بتوقيع الجهة المختصة هو كفيل بتحصينه من الناحية القانونية إذ تعتبر سائر التواقيع مجرد إضافة فائضة لا تأثير لها إطلاقا على وجود العمل المعني. وهذا ما أكده العلامة رينيه شابو[1].
فمجرد توقيع وزير ما لا يجعل من ذلك الأمر عرفا يجب اتباعه. بل في نهاية الأمر حتى لو جرت العادة على توقيع وزير المالية، يظل هذا التوافق مجردا من كل قوة قانونية إذ يعود القرار النهائي إلى القضاء الإداري الذي سيحدد ما إذا كان هذا التوقيع يدخل ضمن المفهوم الدستوري "للوزير المختص" أو هو مجرد توقيع فائض لا تأثير له في حال غيابه على مشروعية العمل الإداري. وقد أكد مجلس شورى الدولة على الطابع الفائض لتوقيع وزير المال مثلا على مرسوم الاستملاك: " وبما أن توقيع وزير المال في حال وجوده يفسر في مثل هذه الحالة على أنه تعبير عن التضامن الوزاري الذي يفترض وجوده بين مختلف وزارات الدولة في مختلف الظروف والأحوال" (قرار رقم 338 تاريخ 10/3/2005). أي أن توقيع وزير المال في هذه الحالة له طابع سياسي فقط ولا يعتد قانونا بغيابه من أجل إبطال المرسوم.
أما بخصوص فرضية الأعباء المالية التي ستترتب في مستقبل غير أكيد على مرسوم تعيين قناصل فخريين، فلقد كان لمجلس شورى الدولة أكثر من قرار أجاب بشكل واضح حول تحديد مفهوم الوزير المختص بشكل عام واختصاص وزير المال بشكل محدد. هذا علما أن القنصل الفخري لا يرتب أي أعباء مالية على خزينة الدولة كونه لا يتقاضى راتبا معينا أو أي مخصصات. لا بل أن المادة 18 من نظام وزارة الخارجية أكدت على أن القنصل الفخري لا يحصل على أي تعويض عند إنهاء مهامه.
فقد اعتبر مجلس الشورى بأن "الفقه والاجتهاد يعتبران أنه لم يعد من مبرر لاشتراط التوقيع من كل وزير له علاقة جانبية بتطبيق المرسوم. وبالتالي فان الوزير المختص أو المسؤول وفق أحكام الدستور هو الذي يقع على عاتقه بصورة رئيسية تحضير المرسوم والإشراف على تطبيقه ومتابعة تنفيذه" (قرار رقم 379 تاريخ 30/3/2006). وأضاف المجلس في القرار ذاته أول معيار لمعرفة متى يكون اختصاص وزير المالية على المحك، فقال بأن "توقيع وزير المالية يكون مطلوبا في الأحوال التي تتعلق بتخصيص اعتمادات مالية من الموازنة العامة".
وفي قرار أكثر وضوحا يذهب مجلس شورى الدولة إلى التأكيد على التالي: " وبما أن الوزير المختص في أمر ما هو الوزير الذي يدخل هذا الأمر ضمن نشاط وزارته. أما وزير المالية فإنه لا يعد مختصا في ما يعود إلى المراسيم التي لا تدخل مواضيعها ضمن نشاط وزارته إلا عندما يترتب على هذه المراسيم نفقات أكيدة وقابلة للتحديد بتاريخ صدورها بحيث يصبح تنفيذها جزءا من هذا النشاط" (قرار رقم 120 تاريخ 27/11/2006). ويتابع المجلس تحليله معتبرا أن مراسيم إعلان المنفعة العامة لا تترتب عليها نفقة أكيدة أو حتى يمكن تحديدها مباشرة، بل ذلك يتطلب إحالة الملف إلى لجان الاستملاك لاحقا بغية تحديد التعويضات المناسبة، لذلك رأى المجلس أن مرسوم إعلان المنفعة لا يدخل ضمن نشاط وزارة المالية ما يجعل توقيعه عليه غير ضروري.
والظاهر أن هذا القرار أتى من أجل توضيح الغموض الذي اكتنف قرار المجلس رقم 74 تاريخ 16/11/1995 الذي أعلن "أن وزير المالية يجب أن يوقع كل المراسيم التي تترتب عليها بصورة مباشرة وحتى بصورة غير مباشرة نتائج مالية او أعباء على الخزينة". فشمول توقيع وزير المالية للمراسيم التي تترتب عليها نفقات غير مباشرة يفتح الباب للإجتهاد واسعا حول تحديد المقصود من تلك العبارة العامة والمطلقة. وبالفعل في قراره رقم 338 الذي ذكرناه سابقا، ينقل المجلس رد الدولة على المستدعي الذي طالب بتوقيع وزير المالية على مرسوم الاستملاك. فقد اعتبرت الدولة أنه لا يمكن الأخذ بما ذهب إليه المستدعي "لأنه ينتج عنه القول بأن ينبغي اقتران جميع المراسيم والقرارات الإدارية بتوقيع وزير المالية، باعتبار أنها ترتب نتائج مالية مباشرة أو غير مباشرة على خزينة الدولة، الأمر الذي يجعل الوزير المذكور رقيبا على أعمال جميع الإدارات العامة".
وعليه، يصبح جليا عملا باجتهاد مجلس شورى الدولة الحديث أن مجرد احتمال أن يترتب على مرسوم ما نفقات لا يشكل معيارا كافيا لاعتبار توقيع وزير المال من الشروط الدستورية لاكتمال المرسوم. لا بل أن المراسيم التي تصدر في الجريدة الرسمية قد تكون ممهورة بتوقيع وزير ما علما أنه غير ضروري ويعتير من التواقيع الفائضة أو الزائدة. فمراسيم تعيين قناصل فخريين صحيح أنها صدرت دائما بتوقيع وزير المالية، لكن تلك الممارسة ليست كافية لجعل هذا التوقيع لازما من الناحية الدستورية. وبالتالي، فإن الحكم النهائي دائما سيعود إلى القضاء الإداري ما يؤكد مجددا أن كل الصخب المتعلق بمرسوم تعيين قناصل فخريين لا علاقة له بمنطق القانون.
وهنا لا بد لنا من التذكير، وتفاديا لثقافة التسويات والمساومات التي تطبع نظامنا السياسي، أن المرسوم بعد توقيعه من قبل رئيس الجمهورية لا يمكن ارساله مجددا إلى وزير المالية أو أي وزير آخر من أجل توقيعه كون استدراك العمل الإداري المشوب بعيب ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال إصدار عمل جديد لأن توقيع الوزير المختص يجب أن يتم منذ الأصل أي قبل إصدار رئيس الجمهورية للمرسوم. لذلك لو سلمنا جدلا بضرورة توقيع وزير المالية لتعيين قناصل فخريين، فإن هذا الأمر يتطلب في مطلق الأحول صدور مرسوم جديد[2].
[1] « Mais dans de tel cas, la signature de l’autorité compétente figure dès l’origine sur l’acte, ce qui permet de considérer les signatures indues comme surabondantes et la mesure comme émanant de l’autorité compétente » (René Chapus, Droit administratif général, Tome 1, p. 1029).
[2] كما تجدر الاشارة انه بخصوص موضوع مرسوم التجنيس لا يوجد شيئ في القانون الإداري يتكلم عن "تجميد المراسيم" فالمرسوم يصبح مكتملا لحظة صدوره ومن أجل تعديله أو تعليق العمل به لا بد من صدور مرسوم أخر ينص على ذلك. فالأعمال الادارية هي اختصاصات منحها القانون لمؤسسات الدولة وليست ملكا شخصيا لمن يمارس السلطة كي يجمدها في حال قرر العدول عن رأيه الذي حكم اصدارها في المقام الأول.