في 30 حزيران الماضي، صدر مرسومٌ يقضي بتخفيض الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ من 30 ألف ليرة إلى 26 ألف ليرة، بحجّة حصول خطأ ماديّ عند احتسابه. وكان البدل اليوميّ قد حُدّد إلى جانب الحدّ الأدنى للبدل الشهريّ (675 ألف ليرة) تبعاً لجدلٍ اجتماعيّ واسعٍ، انتهى بصدور المرسوم رقم 7426 في 25-1-2012، وباستقالة وزير العمل السابق شربل نحاس من منصبه حينها. اليوم، رأت الحكومة أن قسمة الحدّ الأدنى الشهريّ على 26 يوماً (أيام الشهر باستثناء الآحاد)، يؤدّي إلى خفض البدل اليومي إلى 26 ألفاً.
ولّد هذا المرسوم ردود فعلٍ كثيرة، ذهب بعضها حدّ القول بأنه يشكّل سابقةً هجينةً وغير قانونيّةٍ[1]. بالنظر إلى إستثنائيته وخطورته، سيعمل هذا المقال على تقييم المرسوم من زواياه القانونيّة المختلفة.
في دحض الإدعاء بوجود خطأ ماديّ
بعد أقل من ثلاثة أشهرٍ على إستقالة شربل نحاس، أعلنت وزارة العمل أن الحدّ الأدنى الرسميّ للأجر اليوميّ المحدّد في مرسوم 2012 لا يتوافق مع أحكام المادة 2 من القانون رقم 36/67 المتعلّق بتعيين الحدّ الأدنى للأجور ومعدّل غلاء المعيشة[2]. للوصول إلى هذه النتيجة، ذكرت الوزارة أن هذه المادة الأخيرة تنصّ على أن الأجر الشهري يتألف “من أجرة 26 يوماً في الشهر على الأكثر للأجراء المياومين”. ما يفرض إحتساب الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ من خلال قسمة بدل الحدّ الأدنى الشهريّ على 26، كما سبق بيانه. تبعاً لذلك، سارعت جميع الجهات المستشارة[3]، ومنها مجلس شورى الدولة[4] ومجلس الوزراء إلى اعتماد هذه القراءة. إلا أن القول بوجود خطأ ماديّ على أساس هذه المادة يتعارض مع الأسباب الآتية:
الأول، أن نطاق تطبيق المادة 2 بدا محصوراً بتطبيق المادة الأولى من قانون 67 حصراً، والتي حدّدت الحدّ الأدنى للبدل الشهريّ بـ 160 ليرة، بدليل استهلالها بعبارة “تطبيقا لأحكام المادة السابقة” التي هي المادة الأولى المتصلة بزيادة الحدّ الأدنى الحاصلة في 1967. ومن هنا، يخطئ المرسوم بإعطائها طابعاً عاماً ملزماً كلما توجب تحديد الحد الأدنى للأجر اليومي،
الثاني، أن آلية الاحتساب الواردة في هذه المادة، هدفت إلى إحتساب الحدّ الأدنى للأجر اليوميّ انطلاقاً من الحدّ الأدنى الرسميّ للأجر الشهريّ على أساس أن قانون 37/67 اكتفى بتحديد هذا الأخير من دون أن يحدّد الأول. ومن البيّن أن هذه المادة نصّت على أمرين: أولاً، لا يمكن أن يتجاوز عدد الأيام هذه 26 يوماً طالما أن قانون العمل يضمن راحة أسبوعية لا تقل عن 36 ساعة متواصلة. وثانياً، عدد الأيام هذا يتدنى عن 26 يوماً (وإلا فما معنى قولها “على الأكثر”؟) في حال تضمّن شهرٌ مؤلف من ثلاثين يوماً خمسة آحاد أو في حال أقرّت مؤسّسة معينة راحة أسبوعية أطول، كأن تقفل أيام السبت والأحد مثلاً. ففي الحالة الأولى، قد يصل عدد الأيام إلى 25 يوماً، فيما قد يصل في الحالة الثانية إلى 20 يوماً، من دون أن يتجاوز بحال من الأحوال 23 يوماً تبعاً للحالات. من هنا، بدا تفسير هذه المادة على أنها توجب احتساب الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ على أنه 1/26 من الحدّ الأدنى للبدل الشهريّ مخالفاً تماماً لمضمونها،
الثالث، على فرض اعتبار أن المعايير المحدّدة في المادة 2 هي عامّة وسارية المفعول، فإنه من البيّن أنه يكون للحكومة، في حال رغبت بتحديد الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ (كما فعلت في 2012)، أن تحدّده على ضوء المعايير المذكورة أعلاه، من دون أن تكون ملزمة بالحدّ الأقصى الذي هو 26 يوماً. ما ينفي هنا أيضاً فرضية الخطأ الماديّ. على العكس من ذلك، لإنه يتوجب على الحكومة في هذه الحالة أن تحدّد الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ بطريقةٍ مختلفة، لسببين إثنين: الأول، اعتماد مؤسّسات عدّة عرفاً بمنح إجازة أسبوعيّة طويلة (أيام السبت والأحد)، والثاني، أن الحدّ الأدنى للبدل اليوميّ سيطبق أيضاً، وربما في أكثر الحالات، على أشخاصٍ لا يتمتعون بأية ضمانة لاستمرارية العمل، ولا يتمتّعون بالكثير من مزايا العمل الشهريّ، ومنها الإجازات المدفوعة، العطل الرسمية، إجازات المرض أو الأمومة، فضلا عن عدم تسجيلهم لدى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، إلخ. وقد جاءت شهادة الوزير السابق شربل نحّاس لتؤكد ذلك[5].
الحدّ الأدنى للأجور: في عدم قانونية تخفيضه
كرّست المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة الذي انضم لبنان إليه في 1972 حقّ كلّ إنسان “في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل على الخصوص: أ- مكافأة توفر لجميع العمال، كحدّ أدنى (…)، عيشاً كريماً لهم ولأسرهم”. وقد نظمت إتفاقية تحديد الحد الأدنى للأجور، لـ”منظمة العمل الدولية” رقم 131 (1970)[6]، هذا الحق، مؤكدة على عدم جواز “تخفيضه” في مادته 2. كما أن إتفاقية “منظمة العمل العربية” رقم 15 كرّست مفهوم الحدّ الأدنى للأجور بحيث “يكون كافياً لإشباع الحاجات الضرورية للعامل وأسرته، كالملبس والتغذية والسكن، للعيش بمستوى إنساني لائق”[7].
في الإتجاه نفسه، كرّس قانون العمل اللبناني (المادة 44) مبدأ الحدّ الأدنى للأجور، ووضع أنه يعادالنظرفيهذا الحدّكلمادعتالظروفالإقتصاديةإلى ذلك (المادة 46). ويُذكر هنا أن المادة 6 من القانون37/67 فوّضت الحكومة بأن تحدّد بمرسوم “عند الإقتضاء وكلما دعت الحاجة الحدّ الأدنى الرسميّ للأجور ونسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها بناء على الدراسات وجداول تقلبات أسعار كلفة المعيشة”.
وإذ خلت القوانين الوطنية من أيّ نصٍّ يحظر تخفيض الحدّ الأدنى للأجور، فإن المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية نصّت على أن المعاهدات الدولية تتمتع بقوة القانون[8] وأنها تسمو على القوانين الداخلية في حال التعارض. وقد أكّد مجلس شورى الدولة في رأيه الإستشاري رقم 103 تاريخ 11/1/2012 على ذلك بقوله الصريح بأن الحدّ الأدنى للأجور “غير قابل للتخفيض”، بالإستناد إلى المادة 2 من إتفاقية “منظمة العمل الدولية” رقم 131. وتالياً، يكون لأصحاب الصفة والمصلحة طلب إبطال قرارٍ إداريّ كما هي حال المرسوم موضوع هذا المقال، لتعارضه مع الإتفاقية 131 المشار إليها أعلاه، طالما أنه ثبّت أن تخفيض الحدّ الأدنى حصل بإرادة الحكومة وليس تصحيحاُ لخطأ ماديّ.
تراجع الإدارة عن حقوق مكتسبة: غير جائز
بغض النظر عن شرعيّته وقانونيّته، يقتضي التساؤل عن مدى جواز إلغاء بعض أحكام المرسوم رقم 7426 على ضوء قواعد القانون الإداري. ومن البيّن أن الإجابة على هذه المسألة تتطلب أولاً تحديد طبيعة القرار الإداري، فضلاً عمّا إذا كان منتجاً للحقوق المكتسبة. وهنا، وإذ كنا نوافق وزارة المالية[9] والمستشار القانونيّ في رئاسة مجلس الوزراء، في توصيف القرار على أنه قرار إداري غير تنظيميّ أنشأ حقوقاً مكتسبة للمعنيين، فإننا نخالف هذين المرجعين النتيجة التي توصلوا إليها بفعل هذا التوصيف. فقد رأيا أن قراراتٍ مماثلة لا تقبل الإسترداد أو الإبطال بعد إنقضاء المهلة القانونيّة، لكن يمكن إدخال تعديلات عليها بما يتصل بمفاعيلها المستقبليّة بلا أثرٍ رجعيّ.
إلا أن هذا الطرح غير قانونيّ، طالما أن تخفيض الحدّ الأدنى على النحو الوارد في المرسوم هو من الناحية الفعليّة بمثابة إلغاء للمادة في صيغتها القديمة[10]، ومن البيّن وفق إجتهاد القضاء الإداريّ أنه لا يجوز إلغاء عملٍ إداريّ غير تنظيميّ مُكسِب للحقوق، حتى في حال كان هذا العمل مشوباً بمخالفة قانونيّة[11]. وهذا الإجتهاد ينطبق من باب أولى في حال كان القرار قانونياً كما هي حال المرسوم موضوع التعديل.
ولا يردّ على ذلك بأن الاجتهاد الفرنسي قد تطور في هذا المضمار، بحيث بات يميّز بين القرارات الإدارية غير التنظيمية المنشئة للحقوق. فمن جهة، القرارات التي تتمّ مفاعيلها بشكلٍ فوريّ (كمنح رخصة سوق) والتي لا مجال لإلغائها عند إنقضاء المهلة القانونية للطعن. ومن جهة أخرى، القرارات التي تنتج مفاعيلها طوال فترة معينة ويسمح بإلغائها لجهة مفاعيلها المستقبليّة فقط[12]. فحتى ولو أخذنا بهذا الإجتهاد، فهو لا يختصّ في تبرير الإلغاء إلا في حال أصبح المرسوم المذكور مشوباً بعيب مخالفةٍ قانونيّةٍ بعد إصداره[13]. ما ينتفي تماماً في الوضع الراهن موضوع البحث.
نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
[3]وكان ذلك رأي وزارة العمل (الكتاب رقم 2447/3 تاريخ 4/10/2012) ووزارة المالية (الكتاب رقم 558/ص16 تاريخ 13/8/2014) والمستشار القانوني في رئاسة مجلس الوزراء ومجلس الخدمة المدنية (الكتاب رقم 2595/2014).
[5]وارد في أيفا شوفي، “بلى… الحكومة خفّضت الحد الأدنى للأجور!“، المرجع المذكور أعلاه.
[6] المبرمة بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 71 تاريخ 25/6/1977.
[7]المادة 16 الاتفاقية العربية رقم 15 (1983) بشأن تحديد وحماية الأجور، المبرمة بموجب القانون رقم 183 تاريخ 24/5/2000.
[8]شورى فرنسا 30 أيار 1952، كيركوود Kirkwood، مجموعة 1952، ص. 291.
[9]الكتاب رقم 558/ص16 تاريخ 13/8/2014 والكتاب رقم 68/ص16 المسجل لدى رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 29/5/2015
[10]V.Répertoire Dalloz de contentieux administratif, V. Acte administratif : régime, n. 509 : La modification de l’acte « consiste à abroger certaines de ses dispositions pour les remplacer par d’autres (CE 19 nov. 1986, Sté Smanor, Lebon 260, AJDA 1986. 681, chron. Azibert et de Boisdeffre ; 30 juill. 2003, Synd. des avocats de France, req. no 247940,Lebon 358, JCP Adm. 2003. 1999, note Tchen) ».
[11]يوسف سعدالله الخوري، المرجع المذكور أعلاه، ص. 405. أنظر أيضاً :Répertoire Dalloz de contentieux administratif, V. Acte administratif : régime, n. 429 et 470.
[12]V. Répertoire Dalloz de contentieux administratif, V. Acte administratif : régime, n. 478-479.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.