دعماً لحق ضحايا التحرّش في أماكن العمل في الوصول إلى العدالة، أنجزت “المفكرة القانونية” مرافعة نموذجية بإمكان أي محام استخدامها في أي قضية تحرّش في أماكن العمل قد يوكّل فيها كما بإمكان مجلس العمل التحكيمي الاستلهام منها في حال النظر في قضايا مماثلة. إذ ننشر لاحقاً المرافعة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ”المفكرة”، نكتفي هنا بنشر مقدمة قصيرة عنها وأبرز المبادئ والقواعد المشتركة التي استندت إليها المرافعة والقابلة للتطبيق على جميع حالات التحرّش (المحرر).
هذه المرافعة النموذجية مخصصة لمكافحة مختلف أنواع التحرّش الواقعة في مكان العمل أو خلال تنفيذ عقد عمل ما. وقد ارتأت “المفكرة” ضرورة صياغتها نظراً لتفشّي حالات التحرّش في لبنان وضعف الوسائل القانونية المتوفرة لدرئها أو ردعها. والواقع أن المشرّع اللبناني لم يخصّص حتى الآن أي تشريع خاص لمكافحة التحرّش على الرغم من التزاماته الدولية في هذا الإطار. فقد نصّ التعليق العام رقم 23 الصادر سنة 2016 من اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة المتعلق بالحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية، أنه يقع على عاتق الدول الأطراف (من ضمنها لبنان) إلتزام أساسي (core obligation) بضمان الوفاء، على أقل تقدير، بالمستويات الأساسية الدنيا من هذا الحق. ويوضح التعليق أنه يترتب على الدول في هذا السياق الإلتزام: بتضمين قوانينها “تعريفاً للمضايقةَ في مكان العمل، يشمل التحرّش الجنسي”، و”إجراءات وآليات تظلّم مناسبة، […] وعقوبات جنائية على التحرّش الجنسي”[1]. وكنت فنّدتُ في دراسة نقدية سابقة لي نُشرت في “المفكرة”[2]، المقترحين المقدمين من النائب السابق غسان مخيبر والوزير السابق لشؤون المرأة جان أوغاسبيان لمكافحة التحرّش، مبدياً تحفظاتي لما قد يترتب عليهما في حال إقرارهما من مفاعيل معاكسة للغاية المنشودة منهما. كما يجدر التذكير بأن “المجموعة النسوية” كانت تبنّت مقترحاً آخر، شاركتُ في وضعه في سنة 2012 مع عدد من المحاميات[3] والناشطات النسويات والعمّاليات[4].
يبقى أن التشريعات المعمول بها حالياً تخلو من أية أحكام خاصّة بالتحرّش في أماكن العمل. وفي حين بإمكان ضحايا التحرّش في بعض الحالات أن يستمدّوا من قانون العقوبات أسناداً للتحرك، إلا أن هذا الأمر يصعب تحقيقه خارج حالات الإعتداء الجسدي. هذا عدا عن أـن ضحية التحرّش قد لا ترغب في سلوك المسار الجزائي أصلاً، وبخاصة في الحالات التي يقتصر فيها مرادها على وضع حدّ للمتحرّش – من دون معاقبته جزائياً – والأهم، المحافظة على عملها ومصدر رزقها. وقد تؤدي قلة الخيارات هذه إلى ثني الضحية عن اتّخاذ أية إجراء بحق المتحرّش. وهذا ما خلصت إليه العديد من الجلسات التي تسنّى لي عقدها كمحامٍ مع العديد من الضحايا.
لكل هذه الأسباب، عمدنا في “المفكرة” إلى البحث في النظام القانوني اللبناني، لإيجاد أداة دفاع تملأ الفراغ التشريعي الحالي. وقد أملنا أن ينتهي بحثنا إلى صياغة مرافعة نموذجية تكون متاحة مجاناً لضحايا التحرّش والمحامين والقضاة الذين قد يتعين عليهم المساعدة القانونية أو الحكم في مثل هذه القضايا، على أمل أن يسهم هذا الأمر في إنصاف هؤلاء وتطوير المنظومة الحقوقية في هذا المجال. قد لا تدرأ هذه المرافعة ظاهرة التحرّش وقد لا تُشكل الحل المثالي للتعامل معها، ولكنّها هي تشكل في ظلّ القوانين المعمول بها وسيلة نضعها في متناول الضحايا، ومدخلاً لإطلاق ورشة حقيقية لتعديل هذه القوانين.
تجدر الإشارة إلى أن هذه المرافعة النموذجية كما أردناها، لا تصلح لشكل واحد من أشكال التحرّش بل تشمل مختلف أنواعه، سواء كان التحرّش جنسياً أو معنوياً أو نفسياً آخذين بعين الإعتبار أن أكثر الفئات عرضة للتحرّش هي الفئات المهمّشة قانونياً وإجتماعياً، لا سيما النساء والأشخاص المثليين والمتحوّلين جنسياً إلخ. وعليه، يمكن لمستخدمات ومستخدمي هذه المرافعة إزالة الفقرات التي لا تنطبق على حالتهم (في حال كانت الضحية رجلاً مثلاً، يمكن إزالة الفقرات الخاصة بالنساء إلخ.). فضلاً عن ذلك، لا يحول إستخدام هذه المرافعة دون اللجوء إلى القضاء الجزائي في حال توفّر أركان إحدى الجرائم في الحالة المعنية، علماً أنني خصصت فقرة خاصة في نهاية هذه المرافعة بشأن الخطوات القضائية الممكن إتباعها قبل التقدم بدعوى تحرّش أمام مجلس العمل التحكيمي ومن بعد حصول ذلك.
مقتطفات أساسية من المرافعة: ما هو التحرّش وما هي أبعاد هذه الدعوى؟
التحرّش، لا سيما الجنسي منه، ليس ظاهرة جديدة، إنمّا هو تصرف تعسّفي غالباً ما يطال المرأة والفئات الاجتماعية المهمّشة بشكل خاص، وغالباً ما يترافق مع تشييء أو تسليع للأشخاص وانتهاك لحرمة الأجساد. وقد تزايدت هذه التصرفات التعسّفية مع “الثورة الصناعية” الثانية في القرن التاسع عشر. وفي حين كان يتم التكتّم على مثل هذه التصرفات أو التسامح معها أو حتى اعتبارها أمراً شائعاً وبديهياً، جعل الحراك النسوي خلال سبعينيّات القرن الماضي (لا سيما في أوروبا وفي الولايات المتحدة) من هذه الآفة، إشكالية أساسية في صلب النقاش العام. وكان للقضاء دور ريادي في إيجاد وسائل قانونية لمكافحة التحرّش في ظل الفراغ التشريعي السائد آنذاك، والأهم في تحويل مقاربة الفعل المؤسّس للتحرّش من “رغبة يصعب مقاومتها” إلى “أداة للسيطرة على الضحية في إطار تعسّف في إستعمال السلطة”. هذا هو الوجه الحقيقي للتحرّش. فلا اللباس ولا سلوكيات الضحية ولا صمتها ولا حتى خضوعها يعني أنها بالضرورة راضية بالتصرّف. والواقع أن الضحية ترضخ وتسكت أحياناً لأن مصدر رزقها وأجرها وبالتالي نجاتها في ظل الأوضاع الاقتصادية الهشة، تُلزمها أن تخضع وظيفياً بصفة “تابع” لمن يتحرّش بها ومن يتمتع بسلطة وظيفية عليها. فهي ليست حرّة، وإرادتها مقيّدة بضرورات الحياة، الأمر الذي يجعل منها هدفاً سهلاً لمن أراد أن يتعسّف في استعمال سلطته، فيتحرّش بها ويتسبب تلقائياً في الآن نفسه في إرساء بيئة عمل يسودها العنف والعدائية والخوف، بدرجات متفاوتة.
ولا تقتصر تداعيات التحرّش عموماً على حياة الضحية خلال دوام العمل، بل تطال مختلف الجوانب اللصيقة بشخصها وحياتها خارج دوام العمل وتبلغ مساحاتها الخاصة والحميمة أحياناً. ومن البديهي الإشارة إلى أن معاملة الضحية والنظر إليها كشيء يؤدّي فعلياً إلى إنكار إنسانيّتها والمسّ بكرامتها مع ما يستتبع ذلك من أضرار هائلة على صعيد صحتها النفسية والجسدية، وهذه الأضرار غالباً ما تتبلور عبر عوارض الإكتئاب المزمن والقلق السريري. لا بل عندما تكون الضحية امرأة، فإن مثل هذه التصرفات قد تؤدي إلى إعاقة وصولها إلى فرص العمل والترقّي في العمل والإنتاجية أسوة بزملائها الرجال. وقد آل إجماع الفقه والإجتهاد في القانون المقارن إلى اعتبار التحرّش شكلاً من أشكال العنف والتعذيب. فتخيّلوا للحظة تلقّيكم يومياً هذا النوع من المعاملة العنيفة من قبل رئيسكم في مساحة عملكم التي تقضون فيها النصف الأهم من أيامكم في الأسبوع، فتتحول هذه المساحة إلى غرفة تعذيب مزمنة يصعب الفرار منها. هذا هو واقع التحرّش على حيوات الضحايا، وهذا ما نطلب من جانبكم اليوم التصدّي له ودرءه بشكل فعّال. المطلوب منكم اليوم هو حماية ضحايا العنف في مكان العمل أسوة بالحماية الرائدة التي قادها القضاة لضحايا العنف الأسري.
وما سوف تظهره هذه المرافعة هو مدى تعدّي المتحرّش على حقوق الضحية المنصوص عنها في كل من قانون العمل اللبناني وأحكام العهود الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها لبنان وباتت جزءاً لا يتجزأ من دستوره بفعل ما جاء في مقدمته. فالمُنتظر من القضاء أن يؤدي دوره الاجتماعي الذي يفرضه إعمال الحقوق والحريات الأساسية، والذي ذكرته لجان الأمم المتحدة المعنية، لا سيما في ظل تقاعس بقية سلطات الدولة عن تنفيذ موجباتها في هذا الخصوص. فقد لاحظت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة أن “التمتّع بالحقوق المعترف بها في العهد يمكن أن تكفله بشكلٍ فعّال السلطة القضائية [ذاتها] بعدّة طرق مختلفة، من بينها إمكانية تطبيق أحكام العهد تطبيقاً مباشراً، أو تطبيق ما يماثلها من أحكام دستورية أو غيرها من أحكام القانون، أو ما لأحكام العهد من أثر تفسيري في تطبيق أحكام القانون الوطني”، وهو أمر سوف نعود إليه تفصيلياً في متن هذه المرافعة.
أما فيما يتعلق بتعريف التحرّش، فيصحّ الإسترشاد بالتعريف المعتمد في القانون الدولي من خلال التعليقات العامة الصادرة عن اللجان الأممية المنبثقة عن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما أن لبنان قد وقّع وصادق على المواثيق المطبّقة على الدعوى الراهنة، وفق ما سوف نفنّده أدناه. وإن هذا الأمر جائز أيضاً في ظلّ تمتّع هذه المواثيق وتعليقات اللجان الأممية المعنيّة بها بقيمة ذات أبعاد كونية. فوفق اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة التابعة للأمم المتحدة، “يشمل التحرّش الجنسي أي سلوك غير مرحب به ذي طابع جنسي مثل الإتصال الجسدي والعروض ذات الطابع الجنسي والملاحظات ذات الطابع نفسه وتبيان مواد إباحية والمطالب الجنسية سواء بالكلام أو بالأفعال. قد يكون هذا السلوك مُهيناً وقد يشكّل مشكلة في الصحة أو في السلامة؛ وهو يشكّل تمييزاً عندما يكون لدى المرأة سبب معقول للإعتقاد بأن اعتراضها عليه سيضرّها في وظيفتها، بما في ذلك التوظيف والترقية أو عندما يخلق هذا السلوك بيئة عمل عدائية”. وهو تعريف يمكن نقله ليشمل أنواعاً أخرى من التحرّش غير الجنسي.
فضلاً عن ذلك، وبحسب دراسات منظمة العمل الدولية، وفيما قد يتكوّن التحرّش من فعل واحد، فهو غالباً ما يتكوّن من أفعال متكررة وغير مرحّب بها تُفرض على الضحية، مع الإشارة إلى أن معظم المتحرّشين في قطاع العمل يشغلون مواقع أعلى في التسلسل الوظيفي تمنحهم سلطة على الضحية (مثل صاحب العمل أو المدير المباشر إلخ.). وقد تناولت هذه الدراسات مختلف أنواع التحرّش على نحو يشمل: أفعالاً جسدية وأفعالاً لفظية، مثل الملاحظات ذات الطابع الجنسي أو التحقيري أو الأسئلة المتعلقة بحياة الضحية الخاصة إلخ. كما قد يشمل الإيماءات أو المراسلات أو تصرفات عدائية متنوعة أو إرساء بيئة عمل تخويفية إلخ.
ونحن إذ نأتي اليوم إلى القضاء، فلأننا ننتظر ونطلب منه أن يلعب دوراً ريادياً يتوافق ودوره الإجتماعي، لا سيما في قضايا العمل وتلك المتعلقة بالتحرّش في مكان العمل، بهدف درء التحرّش والحكم على المتحرش وصاحب العمل بشكل رادع نظراً لخطورة فعل التحرّش اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. ولا يرد على ذلك أن المشرع اللبناني لم يتناول حتى الآن صراحة فعل التحرّش في مكان العمل، إذ أن هذا الفعل يقع رغم ذلك تحت عدد من أحكام قانون العمل وأحكام المعاهدات والعهود الدولية التي وقعها لبنان والتي تتمتع بمفعول آني على فرقاء هذه الدعوى. ونحن نطلب إذ ذاك من القضاء أن يصدر حكماً يتناسب مع خطورة القضية وينصف الضحية التي استنفذت كل ما لديها من طاقة وشجاعة لرفع هذه الدعوى.
في المبادئ والأحكام التي تخضع لها جميع أفعال التحرّش
1- في الحق في العمل والتمتّع بشروط عمل عادلة ومرضية سنداً للمادة 7 فقرة 2 (ب) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
تنص المادة 7 فقرة 2 (ب) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حرفياً على ما يلي:
تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بما لكل شخص من حق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل على الخصوص:
[…]
“2” عيشاً كريماً لهم ولأسرهم طبقاً لأحكام هذا العهد،
(ب) ظروف عمل تكفل السلامة والصحة،
وقد اعتبرت اللجنة المعنيّة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة أن القائمة المحددة في هذه المادة هي غير حصرية، بحيث أن ثمة عناصر أخرى أساسية تضمن شروط عمل عادلة ومرضية، منها: عدم التعرّض للعنف والتحرّش، بما في ذلك التحرّش الجنسي. وقد أضافت اللجنة المذكورة أنه ينبغي ألّا يتعرّض أي عامل للمضايقات البدنيّة والعقلية، بما في ذلك التحرّش الجنسي (على أن يُفهم بكلمة “مضايقات” التحرّش الجسدي والمعنوي)؛ مضيفة أنه يتوجّب على أي سياسة وطنية توضع للتطبيق في مكان العمل، في القطاعين العام والخاص، أن تتضمن حكماً: حظر الأفعال التي تُعتبر مضايقةً (تحرشاً)، بما فيها التحرّش الجنسي (التعليق العام رقم 23/2016). .
2- في وجوب عدم إخضاع أحد للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والحاطّة بالكرامة، سنداً لأحكام المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية:
تنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حرفياً على الآتي:
“لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطّة بالكرامة”.
من المتفق عليه فقهاً وإجتهاداً في القانون المقارن، لا سيما في دول أوروبا وشمال أميركا، أن التحرّش يشكل مسّاً بكرامة الضحية، لا سيما نظراً لتحوّل تلك الضحية من فرد إلى شيء بالنسبة للمعتدي، وهو ما يترجم من خلال معاملة هذا الأخير للضحية ككائن مجرّد من أي إنسانية (اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، الدورة الرابعة والأربعون (1992)، التعليق العام رقم 20: المادة 7 – حظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة).
3- في الحق في بيئة عمل خالية من العنف سنداً للمادة 75 فقرة 4 من قانون العمل:
نصت المادة 75 فقرة 4 من قانون العمل حرفياً على ما يلي: “يحق للأجير أن يترك عمله قبل إنتهاء مدة العقد ودون ما علم سابق في الحالات التالية: […] 4- إذا أقدم رب العمل أو ممثله على إرتكاب أعمال عنف في شخص الأجير”،
وقد ذهب اجتهاد المحاكم اللبنانية منذ خمسينيات القرن الماضي بإتجاه توسيع مفهوم أعمال العنف بحيث لا تقتصر هذه الأعمال على العنف الجسدي وحسب، بل تشمل أيضاً أعمال العنف ذات الطابع النفسي أو المعنوي معتبراً إياها بمنزلة العنف الجسدي. وقد تتراوح هذه الأعمال من مجرّد تغيير أقفال ومفاتيح مكتب العمل وإستثناء أجير دون سواه من تسلّم النسخة الجديدة من المفاتيح، وصولاً إلى توجيه مختلف أنواع الشتائم أو العبارات النابية والتحقيرية إلى الأجير.
يراجع:
م.ع.ت.، بيروت، رقم 432 تاريخ 27/6/1950 (الرئيس نجيم) – حاتم ج 8 ص 46:
وم.ع.ت. جبل لبنان– قرار رقم 65/2010 تاريخ 15/3/2010:
“وحيث إن العنف المعنوي ينزّل منزلة العنف الجسدي ويندرج في مفهوم الشتم والإهانة”.
تمييز – الغرفة الثامنة – قرار رقم /47/ تاريخ 10/5/2001- صادر في التمييز – عام 2001 – صفحة 636 – صادر ناشرون:
“وحيث أن نائب رئيس المؤسسة عمد إلى تغيير أقفال ومفاتيح مكتب بدارو…، وأن المفاتيح الجديدة سلّمت للموظفين الحائزين على المفاتيح القديمة، بمن فيهم ناطور البناية، باستثناء المميزة التي لم تعط نسخة عن المفاتيح الجديدة”.
يُضاف إلى ذلك، الدور الهام والرائد الذي لعبه في الإتجاه نفسه قضاة الأمور المستعجلة في لبنان لدى تطبيقهم أحكام قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، حيث وسّعوا هنا أيضاً مفهوم العنف على نحو يشمل أعمال العنف النفسية والمعنوية التي تتعرض لها الضحية. وهو أمر يدل إلى نظرة القضاء الشاملة للعنف، بما فيه العنف النفسي أو المعنوي، كعمل خطير ذات أوجه مختلفة قد تؤدي كل منها إلى الضرر عينه في شخص الضحية.
يراجع:
قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، القاضي جاد معلوف، قرار رقم 539/2014، تاريخ 26/05/2014:
اللجنة المعنيّة بالقضاء على التمييز ضد المرأة التابعة للأمم المتحدة، التوصية العامة رقم 35 بشأن العنف الجنساني ضد المرأة، الصادرة تحديثاً للتوصية العامة رقم 19، 26/07/2017:
14 – ويضرّ العنف الجنساني بالمرأة في جميع مراحل حياتها، وبناء على ذلك، فإن الإشارات إلى المرأة في هذه الوثيقة تشمل الفتيات. ويتخذ ذلك العنف أشكالاً متعددة، بما فيها الأفعال أو أوجه التقصير التي يقصد منها أو يحتمل أن تسبب الوفاة أو الضرر البدني أو الجنسي أو النفسي أو الاقتصادي أو المعاناة للمرأة، أو أن تفضي إلى ذلك، والتهديد بتلك الأفعال، والتحرّش، والإكراه، والحرمان التعسفي من الحرية. ويتأثر العنف الجنساني ضد المرأة بالعوامل الثقافية والاقتصادية والإيديولوجية والتكنولوجية والسياسية والدينية والاجتماعية والبيئية وغالباً ما يتفاقم بسببها، كما يتضح، في جملة أمور، من سياقات التشرد، والهجرة، والعولمة المتزايدة للأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك سلاسل الإمداد العالمية، وقطاع الصناعات الاستخراجية والبحرية، والعسكرة، والاحتلال الأجنبي، والنزاعات المسلحة، والتطرف العنيف، والإرهاب. كما يتأثر العنف الجنساني ضد المرأة بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاضطرابات المدنية، والطوارئ الإنسانية، والكوارث الطبيعية، ودمار الموارد الطبيعية أو تدهورها. كذلك تمثل الممارسات الضارة والجرائم المرتكبة ضد المدافعات عن حقوق الإنسان أو السياسيات أو الناشطات أو الصحفيات أشكالاً من أشكال العنف الجنساني ضد المرأة تتأثر بتلك العوامل الثقافية والإيديولوجية والسياسية.
فضلاً عن ما تقدم، فقد نصت المادة 75 فقرة 4 من قانون العمل أن صاحب العمل مسؤول أيضاً عن إقدام ممثله على إرتكاب أعمال عنف في شخص الأجير. وقد ذهب الإجتهاد نحو توسيع مفهوم هذا النص ليشمل الأشخاص الذين يمارسون في الواقع سلطة ما على الأجراء، بمعزل عمّا إذا كانوا يستمدّون هذه السلطة من القانون أم لا، بحيث يُعتبر صاحب العمل مسؤولاً عن أعمالهم أيضاً. هذا، بالإضافة إلى اعتبار صاحب العمل مسؤولاً بصفته صاحب سلطة تأديبية داخل مكان العمل وذلك عن أعمال التحرّش التي يقوم بها أحد أجرائه، عندما يتقاعس صاحب العمل هذا عن إعمال سلطته التأديبية للتصدي للتحرش داخل مكان العمل.
4- في موجبات صاحب العمل تجاه أجرائه سنداً للمادة المادة 75 فقرة 2 من قانون العمل:
تنصّ المادة 75 فقرة 2 من قانون العمل حرفياً على ما يلي: “يحق للأجير أن يترك عمله قبل إنتهاء مدة العقد ودون ما علم سابق في الحالات التالية: […] 2- إذا لم يقم رب العمل بموجباته نحو الأجير وفقاً لأحكام هذا القانون”،
وقد ذهب الإجتهاد والفقه نحو توسيع مفهوم هذه الفقرة بحيث لا تشمل فقط موجبات صاحب العمل المنصوص عنها في قانون العمل حصرياً وحسب، إنما على نحو يشمل أيضاً أي موجب قانوني أو تعاقدي أو تنظيمي تجاه الأجير مهما كان مصدره.
وبهذا المعنى، يقتضي تطبيق أحكام هذه المادة أيضاً في حال مخالفة صاحب العمل لموجباته المستمدة من أحكام معاهدات وعهود الحقوق والحريات الأساسية المذكورة تفصيلياً في متن هذه المرافعة. فموجبات صاحب العمل لا يمكن أن تقتصر على تسديد الأجر الدوري والموافقة على العطل السنوية إلخ. وإلاّ يكون المشرع ينظر إلى علاقات العمل عبر غمامات الخيول بشكل محدود جداً ومقيّد من دون إيلاء أي إعتبار لمساحة بيئة العمل ومكان العمل في حيوات الأجراء ونفسياتهم. ونبيّن تفصيلياً في متن هذه المرافعة كيف يشمل موجب صاحب العمل، فضلاً عما هو مذكور بوضوح في قانون العمل، تأمينه لسلسلة من الحقوق والحريات للأجراء مستمدة من أحكام المعاهدات والعهود الدولية، منها تلك المتعلقة بتأمين بيئة عمل وشروط عمل سليمة وخالية من التحرّش وخالية من الأعمال التمييزية والعنيفة والتخويفية، تحفظ صحة الأجير الجسدية والنفسية وتحفظ له خصوصيته وكرامته وتالياً كيانه.
وعليه، لا يمكن قراءة المادة 75 فقرة 2 من قانون العمل إلاّ على ضوء أحكام معاهدات وعهود الحقوق والحريات الأساسية المذكورة تفصيلياً في متن هذه المرافعة، فيما يقتضي اعتبار أي مخالفة لتلك الأحكام مخالفة أيضاً للمادة 75 فقرة 2 المذكورة.
للاطلاع على الدراسة:
مرافعة نموذجية لمكافحة التحرّش في مكان العمل
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة
[1] اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، التعليق العام رقم 23 بشأن الحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية (المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، 27/04/2016.
[2] كريم نمّور، “التحرش الجنسي يُربك المشرعين“، المفكرة القانونية، 19/04/2017.
[3] تعتمد هذه المرافعة مبدأ الحياد الجندري، بمعنى أنها تستخدم صيغة المؤنث تارة والمذكر طوراً للدلالة على مجموعة من الأفراد الذكور والإناث (مثلاً محامين أو محاميات)، أو للدلالة على فئة معينة (مثلاً: القاضي أو القاضية).
[4] وذلك ضمن إطار مشروع “مغامرات سلوى”