“
يكاد يكون أمراً طبيعياً أن يتوجه مواطنون إلى الشارع احتجاجاً على كم الأفواه والمطالبة بعدم المس بحرية الرأي والتعبير، لكن أن يتوافد سياسيون من نواب ووزراء إلى ساحة الاعتصام تضامناً مع صحيفة مدعى عليها أمام محكمة المطبوعات هو أمر يستدعي طرح أسئلة، علماً أن محكمة المطبوعات تكاد خزائنها تنفجر من كثرة الملفات التي تجر الصحافيين إلى قاعاتها.
بتاريخ 10/10/2019، توجه حشد كبير من السياسيين والصحافيين والإعلاميين إلى قصر العدل لأجل دعم صحيفة “نداء الوطن” التي كانت على موعد جلسة أمام محكمة المطبوعات برئاسة القاضية هبة عبد الله بتهمة المسّ بكرامة رئيس الجمهورية. وكانت الجريدة قد نشرت في عددها رقم 83 في 12 أيلول 2019، مقالاً بعنوان “سفراء جدد في بعبدا… أهلا بكم في جمهورية خامنئي”، وفي مقدمة المقال انتقدت الصحيفة موقف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي أطلقه في مناسبة اليوم العاشر من محرم تاريخ 10 أيلول 2019، الذي جاء فيه “… نقول للعالم كله إن إمامنا وقائدنا وعزيزنا في هذا الزمام هو الإمام علي حسين الخامنئي…”. فردّت الصحيفة في مقالها قائلةً: “من “دويلة داخل الدولة” إلى “دولة داخل الدويلة”… هكذا أضحت الصورة باختصار في لبنان، بعدما أسقطه الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله بالضربة القاضية في قبضة الوليّ الفقيه، مطوّباً إياه ولياً آمراً ناهياً على جمهورية الأرز ومنصّباً إياه قائداً أعلى على حرب اللبنانيين وسلمهم، حيث لا طاعة ولا إمرة لـ “فخامة الرئيس” إنما لـ “سماحة آية الله العظمى إمامنا وقائدنا وسيّدنا السيّد علي الحسيني الخامنئي…”.
بعد صدور المقال طلبت وزارة العدل من المباحث الجنائية المركزية استدعاء رئيس تحرير صحيفة نداء الوطن بشارة شربل والمدير المسؤول عن الصحيفة جورج برباري للحضور إلى جلسة تعقد في قصر عدل بيروت الأربعاء في 18 أيلول. وبعد إجراء التحقيقات تم إحالة الملف إلى محكمة المطبوعات.
الاعتصام الذي امتد لنحو ساعة من الوقت قبل أن يحل موعد الجلسة، تخللته مشاركة واسعة من ممثلو جمعيات غير حكومية وعشرات الصحافيين ومالكو مؤسسات الإعلام. وحضور واسع لسياسيين، ونواب في البرلمان اللبناني من بينهم بولا يعقوبيان، نديم جميل، الياس حنكش. وكانت لحضور المنتمين إلى حزب “القوات اللبنانية” ميزة خاصة، حيث كانت لائحة الجلسات الخاصة في هذا اليوم تغرق بملفات ادعت فيها “القوات” ضد صحافيين ومؤسسات إعلامية أو ادعاءات رفعها رئيس الحزب سمير جعجع شخصيا. ومن نواب القوات الحاضرين، زياد حواط، جورج عقيص، فضلا عن الوزيرة مي شدياق.
بعد الاعتصام، توجه غالبية منهم مع المدعى عليهم إلى قاعة المحكمة، ليُظهروا دعمهم للصحيفة، وعلى مسامع ممثلي حزب القوات اللبناني المشاركين بدعم “نداء الوطن”، نادت القاضية عبد الله لأكثر من مرة باسم “القوات اللبنانية”، مرة القوات ضد مراسلة الجديد ليال بو موسى، ومرة القوات ضد جريدة الأخبار.
وبسبب غياب ممثل النيابة العامة لفترة وجيزة من الوقت، لانضمامه إلى اجتماع مع النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، تأخرت الجلسة بعض الوقت علماً أن موعد انعقادها على لائحة الجلسات هو ثاني جلسة بعد جلسة في قضية رفعها رئيس الجمهورية بوجه مجلة الشراع.
مواجهة بالمرافعات: موقف حادة من النيابة العامة في الملف
بعد عودة ممثل النيابة العامة الاستئنافية القاضي زاهر حمادة بدأت جلسة “نداء الوطن”، مثل فيها رئيس تحرير الصحيفة بشارة شربل والمدير المسؤول جورج برباري، مع وكلائهم الوزير السابق المحامي بطرس حرب والمحامي ألكسندر جبارة. القاضي حمادة استهل الكلام قائلاً: “لا بد أن القضية هي قضية حرية الرأي والتعبير، لم أحضر مرافعتي بسبب أنني أناوب عن زميلي في هذه القضية”، وأضاف: “في الدعوى الراهنة كتب الصحافي والمدير المسؤول مقالاً يُظهر وجود انحياز، في الوقت الذي على الصحافي عدم التجني على مقام رئاسة الجهورية في كتاباته، وعدم الكيل بمكيالين، بل الحفاظ على الموضوعية كمعيار في إجراء أي نقد صحافي”. واعتبر القاضي حمادة أنه “لو لم تكن الصحيفة منحازة لكانت كتبت في مقال آخر وتطرقت على سبيل المثال عن قصر الحكومة بأنه تابع لدولة ما”. وأضاف، “هذا الانحياز هو ما يعاب عليه الصحافي، فله الحق في الانتقاد وإبداء الرأي السياسي الذي يريد، دون القدح والذم”.
ولفت إلى أن “المقال من شأنه النيل من مقام رئاسة الجمهورية وكرر مآل الادعاء وطلب تطبيق المواد المدعى بها”.
حرب، الموكل بالترافع عن الجريدة والمدعى عليهما في هذه القضية، قدم مرافعة شفهية، مستهلاً إياها بالرد على ما جاء على لسان ممثل النيابة العامة. إذ قال: “إن من حق الصحافة أن تنحاز وأن توجه نقدا إلى السلطة، ومن حق المواطنين بالتعبير دون أن يُعاقبوا أو يُسجنوا”. وشرح بأن هذه القضية لا تتعلق بنداء الوطن، إنما هي قضية تتعلق بمسألة الحريات والنظام القائم عليها، وبالحقوق الدستورية للمواطنين بالتعبير عن الرأي”. ومن هنا سأل حرب إذا ما “كان نظام الحريات لا يزال قائماً في لبنان، أم أنه لم يعد له وجود وأصبح هناك نظام من نوع آخر”. ودعا حرب رئاسة المحكمة أن تتمعن بالحضور الذين لم يأتوا لأجل المدعى عليهم، بل أتوا إلى هنا لدعم الحريات”. وبالنسبة إلى طلب النيابة العامة إدانة المدعى عليهم بمواد الادعاء، قال حرب أنه “لو تمعن ممثل النيابة العامة في الدعوى لما ذهب إلى ذلك المنحى”.
وتوسع حرب في مرافعاته في وصف الحريات التي تُشكل حجر الأساس في النظام اللبناني الذي يعتمد النظام الديمقراطي البرلماني، وقال: “الصحافة هي حجر الرحى لو انهار هذا الحجر ينهار النظام بأكمله”. وشرح بأن “جذور نشأة لبنان كدولة تعتمد النظام البرلماني الديمقراطي تُظهر أن الحريات هي شرط أساسي فيه”.
ولفت إلى أن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة الذي فيه رؤساء جمهورية ورؤساء مجالس نيابية ورؤساء حكومات سابقون أحياء وخارج السجون وغير منفيين أو هاربين إلى الخارج”.
من ثم، شرح حرب ما هو متوقع من الحكم الذي ستصدره المحكمة بقوله: “إن قراركم سيحدد هوية النظام ومصير الحريات فيه”.
“ادعاء من وزراء البلاط مموهاً بالنيابة العامة”
حرب اعتبر أن الادعاء على “نداء الوطن” هو ادعاء من السلطة السياسية مموهاً بالنيابة العامة التمييزية، وصوّب كلامه نحو وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي، الذي اعتبره المحرض لرفع هذه الدعوى، وذلك بهدف تبييض الوجه لكسب عطف السلطة، حيث أثار مسألة مقال نداء الوطن في مجلس الوزراء، وطالب بملاحقة الصحيفة كما بتعديل قانون المطبوعات لتشديد العقوبات فيه”.
ورفض حرب تبرير النائب العام التمييزي بأنه تحرك من تلقاء نفسه ضد الصحيفة حرصاً منه على كرامة رئيس الجمهورية، معتبراً أن النائب العام التمييزي “لم يتحرك عندما هتك البعض كرامة الرئيس وكرامة الدولة وكرامة مجلس الوزراء وصلاحياته وصلاحيات مجلس النواب في تقرير إقحام لبنان في حروب لم يقرروها”.
وشدّد حرب على التصويب على ماهية الحكم الذي سيصدر عن المحكمة، ملمحاً إلى الظروف التي تواجهها. إذ قال: “نعلم أن إغضاب وزراء البلاط قد يدفعهم إلى محاسبتكم”، مشدداً على إيمانه باستقلالية القضاء. واعتبر حرب أن وزراء البلاط تمكنوا وقد تمكنوا من القضاء في التشكيلات الأخيرة، التي كان “أقرها مجلس القضاء الأعلى بالأكثرية الموصوفة التي يضطر وزير العدل لإصدارها بمرسوم، ولم يصدرها إلا بعد أن خضع المجلس لإملاءاته بتعيين المقربين منه ومن التيار السياسي الذي ينتمي إليه، وفي مراكز القرار التي تبت بشؤون الناس اليومية، ولا سيما الجزائية منها”.
ومن ثم انتقل حرب إلى الكلام عن فحوى المقال موضوع الدعوى، الذي لم يأت إلا بسبب موقف الصحيفة من حزب الله وسلاحه، وهو موقف يعبر عن فئة كبيرة من اللبنانيين، بحسب تعبيره. إذ أن “العديد منهم يرفضون وجود سلاح حزب الله، وأي سلاح خارج عن مؤسسات الدولة”. وعندما زاد حرب في الكلام عن حزب الله وسلاحه والتزاماته بتوجيهات الإمام الخامنئي، اعترض القاضي حمادة بمقولة كررها مرتين: “أرفض الخروج عن القضية ومحاكمة أي حزب سياسي في هذه الجلسة”.
وقد حصلت بعض المواجهات الكلامية بين حرب والقاضي حمادة. فحرب شدد على أن الموقف من حزب الله هو ما يُعبر عنه المقال موضوع الدعوى ولا يُمكن الخروج منه، أما القاضي حمادة رد عليه بالقول: “أنا أتكلم مع رئاسة المحكمة وليس معك”. ومن جهتها، طلبت القاضية عبد الله من حرب إبقاء المرافعة ضمن إطار الدعوى الراهنة. فرد حرب على القاضي حمادة بمقولة فولتير “إنني لا أتفق معك فيما تقول، ولكنني على استعداد لأن أضحي بحياتي دفاعاً عن حقك في أن تقوله”. واعتبر أن منعه من وصف الواقع الذي يتخبط فيه لبنان يعارض الديمقراطية. وفي هذه الأثناء، أخذ القاضي حمادة نسخة من عدد الجريدة الذي نُشر فيها المقال، وراح يقرأه بتمعن، ويدون الملاحظات، ملمحا لرغبته بالرد حالما ينتهي حرب من مرافعته.
في ختام مرافعته، أشار حرب أن ما يُريد أن يقوله عن سلاح حزب الله، هو رأي الكثير من اللبنانيين، فلو كان الادعاء محقاً، لاستدعت النيابة العامة جميع هؤلاء”. وشدد على أن المقال بريء من تهمته القدح والذم أو المس بكرامة الرئيس، إنما على العكس هو أن الجريدة عبرت عن استياء الكثير من اللبنانيين الذين لا يرون قائدا لهم إلا رئيس الجمهورية اللبنانية، وأنهم لا يقبلون بإيران ومرشدها الروحي، ولا بالمملكة العربية السعودية وملكها، ولا بالولايات المتحدة ورئيسها، ولا الدول الغربية أو الشرقية قادة لهم وسادة عليهم.
بالنبرة العالية تترافع النيابة العامة: “جمهور مليء بممثلي الأحزاب الذين يدعون على صحافيين”
القاضي حمادة، عاد من جديد للرد على حرب وليقدم مرافعته، وقف وباشر بالكلام مستخدماً نبرة عالية وحادة. وقال: “لقد وقع خصمي في فخين، أولاً أنه تكلم معي مباشرة، والثاني، أنه دافع عن الحريات واستشهد بمقولة فولتيير، بينما استشاط غضباً من رأي النيابة العامة”. ثم التفت ممثل النيابة العامة إلى كلام حرب عن “جمهوره” الذي أتى إلى القاعة ليدافع عن الحريات وقال: “أرى أن الجمهور ممتلئ بممثلين عن الأحزاب، ومن هذه الأحزاب من يتقدمون بدعاوى ضد صحافيين أمام محكمة المطبوعات التي تضج بهذه الملفات”. ومن ناحية ثانية، رد على قول حرب بأن النيابة العامة تحركت بدفع من الوزير جريصاتي بالقول إن “النيابة العامة لا تنحاز ولها أن تدعي وفقاً للقانون، وهي لا تحتاج لادعاء شخصي بل تتحرك عفواً”.
واستمر القاضي حمادة يترافع بصوته العالي، مشدداً على أنه آثر عدم قراءة المقال موضوع الدعوى، غير أن “خصمي كان صوته خافتاً عندما نفى التهمة عن موكليه”. وقرأ حمادة مضمون بداية المقال الذي يُفيد بأن “…لا طاعة ولا إمرة لـ “فخامة الرئيس” إنما لـ “سماحة آية الله العظمى إمامنا وقائدنا وسيّدنا السيّد علي الحسيني الخامنئي…”. فشدد حمادة على أن “المقال يُلمح إلى أن رئيس الجمهورية تابع لخامنئي، وإن لم يقلها صراحة، والقانون يعاقب على التلميح، وهذا يُعد قدحا وذما ومساً بمقام رئيس الجمهورية”.
القاضية عبد الله حددت تاريخ 21 تشرين الثاني موعداً للنطق بالحكم، وانتهت الجلسة بسلام وطيد بين القاضي حمادة وحرب.
“