مراجعة كتاب “من الشّاة إلى الزيتونة: في تحوّلات الأرياف المَغاربيّة”


2024-08-26    |   

مراجعة كتاب “من الشّاة إلى الزيتونة: في تحوّلات الأرياف المَغاربيّة”

صَيف عام 1991، شَاهدَ الباحث في علم الاجتماع مولدي الأحمر فعاليّة محليّة لمباريات كرة قدم في بلدة الحنشة (ولاية صفاقس). ومن بين جلّ تفاصيلها شَدَّه مُعطى محدّد هو تشكيلة الفرق المحلية، والتي قام جلّها على أساس قَبَلي، كفريقي أولاد يوسف وأولاد طاهر. هذا الحدث على بساطته،  حَدّدَ اختياره مقدمة كتابه “من الشاة إلى الزيتونة: في تحوّلات الأرياف المغاربية” ومن وراءه سَعَى إلى تتبّع مسارين: تحوّل المجال الريفي التونسي من البداوة إلى الاستقرار، وتتبّع قدرة البدو على إعادة بناء الهياكل القَبَلية التقليدية وقولَبتَها ولو تحت عناوين جديدة في “سياق الدخول المغاربي العنيف إلى العصر الرأسمالي” كما وصفَه.

اختَارَ الأحمر مجالاً محدّدا للبحث هو ريف ظهير صفاقس، المجال الذي يحتوي اليوم “هنشير الشّعَّال” أكبر غابات الزيتون التونسية، بعد أن كان لقرون خَلت مجالا شبه قاحل إلا من بعض البساتين والمراعي الممتدة لقبائِله الثلاث: المثاليث بوصفهم القبيلة المستقرة فيه منذ الفترة الوسيطة، وقبيلة المهاذبة المرابطية، وقبيلة نَفّاتْ. هذا الكتاب ليس دراسة في تاريخ هذه القبائل، ولكنه دراسة لسيرورتها من زمن رَعي الشّاة إلى زمن غراسة الزيتون وما رافقَها، عسى أن يوفّر وسيلة أفضل لفهم الظاهرة الريفية وتحولاتها المُقبلة، بخاصة أمام التحديات البيئية والديمغرافية التي تعمّقَت أكثر في العقدين الأخيرين، ونالَت حيّزًا من مقدمة الكتاب في نسخته المترجمة إلى العربية، الصادرة سنة 2023، والتي تأتي هذه المراجعة في سياق صدورها.

البدَوي والفلاّح

منذ صفحات الكتاب الأولى دافعَ المؤلّف عن الفصل بين الفلاّح والبدَوي. دون أن يُغفِلَ الحُمولة التاريخية السلبية لمصطلح البدَوي، بداية من جذورها الخَلدونية التي اعتبرَت البدو “أمة وحشية” واستمرّت فيمَا بعد كمقاربة شبه وحيدة للتعاطي الفكري والسياسي مع القبيلة وصولا لدولة الاستقلال.  غير أن الفجوة الأساسية للمقاربَة الخلدونية تكمن في غياب الفلاّح لا البدوي. إذ يَحضر البدوي كنقيض مباشر للمجتمع الحضري، في إطار صراع متواصل على السلطة. بينما يَغيب الفلاّح ولا يحضر إلا كطرف هَامشي عاجز سياسيا، وللمفارقة مُحتقَر خلدونيًّا.

فقط مع الغزو العثماني لتونس، سنة 1574، ستَنكسر الدورة المغاربية، وعوضًا عن السلطة السياسية القادمة من البادية ستتحوّل السلطة لعنصر أجنبي، على الأقل في مستوى هرمها. أما بالنسبة لقاعدتها فقد حافظَت فيها البادية على استقلاليتها النسبية تجاه المركز، وكذلك على قدرتها  في التأثير  خاصة خلال الأحداث الكبرى كالحروب الأهلية، وبذلك تواصل نموذج البدو الرّحّل أو شبه الرّحَّل في كامل المجال المغاربي. ومع دخول الاستعمار الفرنسي، ستَفقد القبيلَة  قدرتها على التأثير المباشر والممتدّ في الزمن. وبذلك تَحقّقَ ما أطلق عليه الأحمر “أحد مفاتيح التحول الاجتماعي والسياسي الحالي في المنطقة المغاربية” أي ظهور الفلاح المُستقر على حساب البدَوي الراعي.

المشهد قبل الاستعمار

إلى حدود أواسط القرن التاسع عشر كان المجال الريفي، في ظهير صفاقس، محكومًا بمعادلة واضحة المعالم: سلطة سياسية مركزية مهتمة فقط بتحصيل العائدات الجبائية منه ومُكوّن حضري صفاقسي، وثلاث قبائل بدوية تَستغلّ المجال بشكل رَعَوي جماعي. وبذلك بقيَ المجال مستقرّا أمام الأحداث الكبرى، من قبيل ثورة علي بن غذاهم مثلاً. ومع هذا فإن بعض ملامح الأزمة العقارية للجهة ظهرَت نهايات تلك الفترة معَ “أرض السيّالين” التي صُودِرت تدريجيا منذ القرن الثامن عشر لصالح الدولة عن طريق لُزمة مُنِحت لعائلة سيّالَة إلى حدود سنة 1871، ومن خلالها احتكَرت عمليات ترسيم الأراضي وتشجيرها في المنطقة وكذلك مصادرة الأراضي لصالح التّاج (السلطان). وفي النهاية فقدَت الأسرة هذه اللّزمة. ليتمكن الصفاقسية من التوسّع في تشجير المجال المحيط بالمدينة على حساب سكّانه وعلى حساب السلطة التي لم تَكبح عمليات تَملّك تلك الأراضي، أو الأراضي الواقعة في مجال البدو، ممّا  تركَ في النهاية خلافًا حول ملكيّتها تَواصلَ لليوم داخل أروقة المحاكم[1]. لكن هذا التوسّع الصفاقسي بدوره بقيَ محدودًا ولم يتجاوز رقما ضعيفا، بلغ 3620 هكتارا. وهو ما يُفَسَّر بعاملين: محدودية قدرة الأسر الصفاقسية والمعتادة فقط على نمط بستَنة ضيعات صغرى وممَارسة نشاط فلاحي، وبخاصة استمرار قُدرة القبائل على التأثير سياسيا وحماية مجالِها الرّعوي.

شرعَنة الافتكاك: بحثا عن إطار قانوني مُتخيّل

حَمَلت السلطات الاستعمارية مُقاربة جديدة للمجال الريفي التونسي؛ مقاربة رأسمالية هدفها تحويله إلى مجال زراعي واسع، ورَفع أيدي البدو عنه. ولكن قبل الخوض في تفاصيل عملية المصادرة نفسها يقف الأحمر على الإطار النظري الذي أحاط بها. بداية من الخطاب الاستعماري، حيث وقع التسويق للتدخل الكولونيالي باعتباره مهمة حضارية  تتمثّل في “إعادة بناء غابة الزيتون التي كانت تُحيط بمدينة صفاقس، التي دمّرها البدو العرب” مثلما كتب بول بورد، أحد أبرز دعاة التوسع الاستعماري. وركّز هذا الخطاب على تحميل البدو وِزر انحطاط المجال الفلاحي، والتشكيك في شرعية تواجدهم فيه.

هذَا التّشكيك وقَعت ترجمته في شكل محاولات قانونية هدفها الرّئيس نزع سيادة البدو عن أراضيهم، ولكنها سرعان ما اصطدمت بتشعّب المشهد العقاري لريف صفاقس. فعوض التصوّر الكولونيالي المسبق عن البدو باعتبارهم مجرّد حائزين للأرض بشكل عرضي، كشَف الواقع  التباين من قبيلة لأخرى، إذ أن تملّك المهاذبة لأراضي “هنشير سيدي مهذب” تَمّ في إطار وَقْف جماعي، وهو ما يَعني وجود سَنَد ملكيّة مُوثّق ودائم يَعسُر افتكاكه والتفويت فيه. أما المْثَالِيثْ القبيلة المعادية للعرش الحسيني، وهو ما كلّفها مصادرة بعض من أراضيها، فقد تَمتّعَت أيضا بسند قانوني فريد لجزء من مساحاتها الرعوية هو “حبس عزيزة عثمانة”  الذي يَحمِيه من المُصادرة.

لم يفهم قانونيّو الإدارة الاستعمارية هذا التنوع العقاري وتعقيداته، وإنّمَا وقعَ اختزاله في الصورة الأبسط: استغلال جماعي وبدائي للمرعى يجب تجاوزه نحو نموذج مستورد؛ ملكية فردية خاصة. وهو ما لم يكن  ممكنًا إلا من خلال افتكاك الأراضي من البدو وتوطينهم فيها عبر نظام تسجيل مستورَد وقعَت محاولة “شرعنته” فقهيّا مع محاولة “ج. ركتنفالد” الذي انطلق من مقولات الفقه الإسلامي ليُعيدَ حق ملكية مجمل المجال الريفي للدولة، مُعتبرا أن البَدو لا يتمتّعون فيها بأي حق ملكية، بل فقط استغلال عشوائي تغضّ عنه الدولة الطرف. هذا الاستنتاج كان وسيلةً لافتكاك الأراضي باعتبارها ملكًا للدولة، وهو ما يتعارَض مع الفِقه الذي يَمنح ملكية الأرض لمن يُحيِيها، المبدأ الذي أسّسَ لسيادة أي مجموعة على الأرض التي تشغَلها ولو كان استغلالها رعويا. وأمام هذا المأزق عاد ركتنفالد إلى مَقولات فقهية قديمة ربطَت بين إحياء الأرض واستخراج المياه بهدف الزراعة. ونظرا لهيمنة الأسلوب الرّعوي على مجال صفاقس، والذي لا يعتمد أصحابه على المنشآت المائية الاصطناعية كالقنوات أو الآبار بل العيون والوديان، استنتج ركتنفالد أن شرط إحياء الأرض يُعتبر مفقودا، وبالتالي فلا ملكية للبدو لمجالهم.

من الافتكاَك إلى التوطين

من بين القبائل الثلاثة، كان افتكاك أراضي المْثَالِيثْ الأيسر، إذ أن غياب نفوذ القبيلة سياسيا جَعلَ أراضيها الشاسعة شمال صفاقس أوّل هدف التوسع الاستعماري. في البداية كانت العملية بسيطة وصَادمة وكارثية على حدّ وصف الكاتب، حيث أعلنَت السلطات بيع أراضي السيّالين للخواص (وهم تحديدا المعمّرون الفرنسيون) باعتبارها ملكًا للدولة، ونظرا لأن المجال “المثلوثي” في جزء كبير مِنه يقع ضمن هذه الأراضي حلّت الكارثة بالقبيلة. طلَبَ الفرنسيون من كل حائزي المجال إثبات ملكيتهم الخاصة، وهو الأمر المستحيل عمليا في سياق ملكية مشتركة. وبذلك صُودِرَت جلّ أراضيهم.

يُعدّ أولاد نجم مثالا على ذلك، إذ أنه من أصل 47 ألف هكتار لم يبقَ للقبيلة سوى 12 ألفا. ليَكتب أولاد نجم بحسرة في أحد شكاويهم: “في الماضي، كان لدينا أرض أكثر مما نحتاج، أما اليوم نحن نفتقدها ونحن مضطرون للتقاتل من أجلها”. وبهذه الشّكوى انطلقت أولى معارك القبائل للحفاظ على ما تبقّى من أراضيهم، معركة خاضوها داخل محاكم المستعمر وَحيدين أمام تخلّي النخب السياسية التقليدية ولامبالاَتها نحوهم[2]. غير أن مَوازين القوى المختلة لم تُثمِر سوى ضياع أراضٍ كثيرة من جرّاء قضايا خاسرة، إلا فيما ندر وبثمنٍ غال. هنا يتتبّع المولدي الأحمر شكلا فريدا من وساطة ما بقي من الأعيان القدامى وأثرياء مدينة صفاقس، بل وحتى بعض المحامين والمُعمّرين الفرنسيين، الذين نَجَحوا في حماية بعض الأملاك الجماعية للبدو، ولكن بثمن يتجسّد اقتطاع أجزاء ضخمة منها لفائدتهم الخاصة. وبذلك أصبحت ملكيتهم الجماعية مخترقة بأملاك خاصة أجنبية عنهم.

سلاح آخر لجأ إليه البدو، المْهَاذبَة تحديدا، هو الركون لآخر نظام عقاري قادر على الصمود، أي الأحبَاس. إذ أن منظومة الأوقاف تُعتبر في النهاية شكلا من أشكال الملكية المُسجّلة، وبالتالي عجزت الإدارة الاستعمارية على افتكاكِها. وهنا، توجّهَت قبيلة المْثاليثْ لتبني “تكتيك” مماثل، وهو التخلي عن الادّعاء القديم بأن أراضيهم المصادرة من البايات قديما قبل تحويلها لوقف خاص ملك خاص لهم، بل أصبحوا مدافعين على اعتبارها وقفًا قديما. وبهذا التراجع الجزئي عن بعض ادّعاءات الحقوق السابقة تمكّنوا من إنقاذ جزء من أراضيهم. يكشف هذا المثال -حسب الأحمر- عن الديناميات الداخلية للقبائل عشيّة الاستعمار، وقُدرتها على إعادة بناء دفاعاتها ضد الاستعمار ولو بشكل ارتجالي.

من الخيمة إلى “الحُوش”[3]

“أين نمت شجرة الزيتون تَراجع القطيع”، هكذا صاغَ الأحمر معادلة لم تقتصر على السلوك الاقتصادي للبدو التونسيين، بل شملت كل جوانب حياتهم. بداية لم يرغب -ولم ينجح- المستعمرون في طرد البدو من كامل مجالهم الفلاحي، وإنما احتاجوهم أساسًا كيد عاملة  لزراعة الزيتون. إذ اضطر المُعمّرون ومعهم كبار الملاّك الصفاقسيون للاستعانة بالبدو ضمن علاقة جديدة هي “المُغارسة”[4].

من خلال هذه الممارسة تمكّن الكثير من بدو صفاقس من استرجاع بعض من أراضيهم المُصادَرَة. غير أن النتيجة الأبرز كانت التحوّل من حالة البدوي إلى الفلاح. ولأول مرة هَيمَن نمُوذج الفلاّح على المجال الريفي لظهير صفاقس منذ العهد الروماني. ومع التحول للفلاحة فقدَت القبيلة الكثير من سلطتها: فعوض اتخاذ القرار في “المِيعاد” المستقل لأبناء القبيلة أصبحَ الفلاحون خاضعين مباشرة لقرارات السلط الإدارية الاستعمارية. وعوض الدفاع المشترك على القبيلة تمّ التنازل عن هذا الالتزام لصالح الدولة وأجهزتها الأمنية. وعوض “بيت الشْعَر” (الخيمة) المتنقّل ظهرَت الأشكال البدائية للسّكن المستقر: من الكِيب[5]  فالكوخ، وصولاً إلى المنازل الحجرية في النهاية. وبذلك فقدت عبارة “الدوّار” دلالتها الأصلية: أي مجموعة الخِيم نصف الدائرية المحيطة بقطيع الأغنام، لصالح استعمال جديد يقصد به مجموعة المساكن المتناثرة، لم يبق من ماضيها القبلي إلا تسميات كــ”دوّار اللطايفة” وغيرها.

ومع ذلك استمرّت علاقة الهيمنة والتبعية نحو المدينة، ففي المراحل القديمة مثّلت المدينة الفضاء الوحيد لمبادلة المواد والمنتوجات البَدوية. ومع التحول نحو الفلاحة حافظَت المدينة على احتكار تحويل الزيتون وتصنيعه وتسويقه من خلال ملكية المَعَاصِر والتحكّم في أسواقِه وأسعاره. وهو ما جعل فلاّحي الظهير غير مُتحكّمين أو قادرين على التحكم في نشاطهم الاقتصادي الرئيس أو تطويره داخليا، لولا اللجوء إلى قطاعات أخرى لم يَخبرها البدو القدامى أصلا.

الفلاحة الهشة وما بعدها

عشية الاستقلال، أسفرَت الأزمات العقارية المتراكمة من القرن التاسع عشر عن تفاوت رهيب في الملكية الفلاحية بين قلة من كبار ملاّك الأراضي ومَعاصر الزيتون، وفي الآن نفسه يملكون الوجاهة السياسية والإدارية، (في منطقة الحنشة مثلا لم تتجاوز نسبتهم الواحد بالمائة) وبين صغار المُلاّك الذين لم يكن من الممكن إحصاء أعدادهم لكثرتهم وتشظّي أملاكهم وضعفها المجهري. وهو ما أدّى في النهاية إلى عجز المنوال الفلاحي على تلبية حاجيات هذه الأسر وتحقيق اكتفائها، وبذلك ظهرَت للعلن ثلاث دروب لم يألفها أجدادهم من قبل: النزوح للمدن وتحديدا صفاقس نحو الأعمال اليدوية والشاقة، والهجرة للخارج، ومزاولة التجارة الصغرى. فيما مَنحتهم دولة الاستقلال خيارا رابعًا هو التعليم وما يتلوه. وبذلك أمست الأرياف خليطا من الأسر الموسعة -وهو تقريبا حلقة الوصل مع ماضي الأسر الممتدة البدوية القديمة- ذات القدرة الزراعية المتوسطة الضعيفة والتركيبة غير المتجانسة: أبناء فلاحون، وموظفون، وتجار صغار، ومهاجرون. المشهد الذي سيصل في النهاية إلى حالة يَعسُر معها تحليل المشهد الريفي وفَهمه.

التعاضد: نهاية المشاريع الكبرى

انطلقَت تجربة أواسط الستينات، وكان من أبرز وجُوهِها “إعادة تجميع الأراضي التابعة لشرائح الفلاحين الدنيا والملاك في تعاضديات إنتاجية”. وهو مشروع وصفه المؤلف بكونه أحد أكبر مشاريع الدولة التونسية لإعادة تهيئة الاقتصاد والمجتمع، لا فقط من خلال إعادة تجميع القوة الإنتاجية بهدف التحول في النهاية لاقتصاد صناعي وإنما كذلك من أجل تحقيق هدف خفي آخر هو “تدمير علاقات القرابة التي تُعدّ أحد أسس الهوية الاجتماعية أو حتى السياسية للبدو الذين أصبحوا فلاحين وتحييد دورها”. الهدف ساهم في النهاية، إلى جانب عوامل أخرى في إفشال هذه التجربة. إذ عَاينَ المؤلف وجود مظاهر معارضة جادة لها داخل الأوساط الفلاحية. صحيح أن جهة صفاقس لم تَعِش تجربة التعاضد إلا في أيامها الأخيرة، إلا أنها مَثّلَت أول تحدٍّ سياسي مباشر لفلاحي الجهة، إذ حاولَت الدولة الناشئة من خلاله تغيير البُنَى الهشة قَسريّا. وهو ما أثار إلى جانب أسباب أخرى عدة (بيروقراطية التجربة وخلفية المشرفين عليها الحضرية) معارضة كان شكلها الرمزي الأشهر بَيع قُطعان الماشية قبل مصادرتها بالرغم من أهميتها الاقتصادية والرمزية باعتبارها آخر شاهد حيّ على ماضيهم الرعوي. وخَلّفَ سقوط التعاضد أزمات واسعة: اختلال رهيب في المقدرات الاقتصادية، وعجز على العودة للوضعية السابقة، ومزيد من التشظي لأسَرٍ فقدت مواشيها ومواطن عملها الهش. ولكنه أثبت ما دافعَ عنه الأحمر من قدرة الريف في التأثير، والذي عبّر عنه بـ” أخيرا، لم يفقد البدو السابقون روح الاستقلالية والاعتماد على الذات الذين يتمتّعون بهما تجاه الدولة، فقد كانوا شديدي الحساسية إزاء أي تدخل في شؤونهم”.

ما بَعد التّعاضد: النّسيان الأخير

مَثّل التعاضد آخر رؤية شاملة للرّيف التونسي، ومع فشله تُركَ الريف وحيدا في وجه الماكينة الرأسمالية والهيمنة الحضرية على سوق الزيتون اليوم. ومع تشتّت الملكية وبروز جيل جديد توَجّه أغلب أبنائه للنشاط التجاري -النظامي والموازي- أو الهجرة، أو الوظيفة العمومية، فَقدَ الريف قدرته على تحقيق الاكتفاء الاقتصادي لجلّ أبنائه. وشيئا فشيئا تَمّ نسيانه كفضاء رئيس وفاعل في إعادة بناء المشهد السياسي والاقتصادي. لتتراجع بذلك عبارات كثيرة في الخطاب الرسمي من قبيل “السياسات الفلاحية الكبرى” لصالح مصطلحات لا تعكس إلا خوصصة القطاع وظهور المقاربات “التقنية” والبيروقراطية المحضة والخالية من أي مضمون اجتماعي.

ولكن الريف أكدّ مرّة أخرى، بداية من انتفاضة الخبز سنة 1984، والمشاركة الفاعلة للريفيين فيها على قدرته في الاستمرار على الفعل السياسي، حتّى وإن اتخذ ذلك شكل القطيعة. كما ردَّدَ على مسامع المؤلف الكثير من أبناء ريف صفاقس: “نحن لم نحبّ الدولة وهي لم تحبّنا”، نفس العبارة التي نحتَت معالم العلاقة بين السلطة المركزية وجلّ قبائل المجال لقرون قبل الاستعمار. وتمامًا مثلما أنتجت علاقة الجفاء تلك ثورة القبائل الكبرى لعام 1864، تتبّعَ المولدي الأحمر نفس مسارات القطيعة التي أثمرت في النهاية ثورة 2011؛ الثورة التي لعب فيها المهمّشون من الفلاحين وسلالاتهم المستقرة على هامش المدن دورا رئيسيا. وبذلك ثَبُتَ من جديد أن الريف المغاربي في تحولاته العديدة والعنيفة، لازال هنا ولازال قادرا على التأثير في مواضع التاريخ الأكثر مفصليّة.


[1]أهمها في السنوات الأخيرة:  القرار الصادر عن الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب بتاريخ 30 جانفي 2014

[2] بول فينياي ووكتون، عرق البرنوس، دار نقوش عربية 2021.

[3] الشكل التقليدي للمنزل الريفي. يتكون عادة من بيوت متفرقة يتوسطها فناء كبير

[4] أي العقد الذي يقوم على تكفل الفلاح – البدوي هنا- بزراعة الأرض وتهيئتها والعمل فيها مجانا إلى الوقت الذي تثمر فيه الضيعة نهائيا، ويتقاسمها مع مالك الأرض، والذي عادة ما يكون المستعمر أو الصفاقسي الذي امتلكها فقط منذ عقود.

[5] الكيم أو الكيب، هو هيكل دائري من الأغصان أو الصبار أو غيرها من النباتات الجافة، سريع البناء. وكان مخصصا قديما للسكن أو الطبخ أو حماية الحيوانات ليلا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني