“في مواجهة التاريخ: صدَى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس”، الصادر عن دار محمد علي للنشر، في طبعته الأولى بتاريخ أكتوبر 2021، هو كتاب من 740 صفحة لأستاذ علم الاجتماع المولدي القسومي. ضمّ الكتاب في طيّاته 8 فصول مُقسّمة على بابين؛ الأول يتعلق بالبنية والتركيبة وإدارة المرحلة ما قبل التأسيسية. أما الثاني فيَخوض في الإعداد المؤسساتي والتشريعي لمرحلة الانتقال الديمقراطي. مِحوره الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة -طويلة الإسم-[1] لكن منطلقاته وغاياته مرتبطة بانشغالات ذاتية للكاتب تتوسّل الموضوعية العلمية لتحليل التاريخ القريب. إعلان الغاية من الكتاب يؤكّد على تمثُّل دور الباحث الأكاديمي غير المنفصل عن المواطنة. ممّا يُحيلنا على إشكالية مهمة، يمكن القول أن طرحها وفق المنظور المعتمد نقطة إيجابية تُحسب له، ألا وهي دور الجماعة المعرفية والأكاديمية في الحقل السياسي.[2] ثمة “نفع اجتماعي” من وراء محاولة تحليل دور الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، قد نتبيّنه من منهج الكتاب ومنهجيته. وقبلهمَا الخلفية الفلسفية المُتمَثِّلَة لدور الإنتاج العلمي والبحث الأكاديمي.
يَطرح الكتاب نفسه كردّة فعل على حالة الخواء الفلسفي والمعرفي عموما وراء الممارسة السياسية، فيما النصاب المعرفي المهيمن منذ 2011 قد “تقوْنَنَ”، على الرغم من أهمية القانون، ليجعل من الخبرة المعرفية أداة تحقيق لأهداف الفاعل السياسي.[3] فاحتكَرَ القانون الدستوري فضاء التأويل إعلاميا، وأضحى على المستوى الشعبي يُمثّل الزاوية المُناسبَة للتفكر في الواقع السياسي.[4] من مواجهة مماثلة، انطلاقا من حقل الاجتماع مفتوحا على الفلسفة والتاريخ، يختبر الكتاب الحاضر على الماضي باعتبار أن الأخير (محوره الهيئة) قد حَدّد مقدّمات وآليات اشتغال وخصائص المرحلة اللاحقة. الأمر الذي يحتاج، كما يؤكد الكاتب، إلى مواجهة التزوير والتحريف (السياسي والإعلامي) للتاريخ القريب، بل يُصبح من الواجب تقديم حقائق “ذاتية موضوعية” تَجمع الالتزام المواطنيّ بالمنهج العلمي-من خارج القانون- لتوفير مادة بحثيّة رصينة للمستقبل.
ذاتية الالتزام اتّخذت من العقل السياسيّ العامّ مقولةً تفسيريّة علمية، ما يسمح لنا بالقول أن الكتاب، عبر دراسة الهيئة، يبحث في عمومية “الكيان السياسي”، مؤسسات وفاعلين ومجتمعًا، عبر هذه المقولة (الكيان السياسي) باعتبارها فكرة تصف أعمق مستوى من القيم السياسية والأخلاقية الأساسية التي تحدد علاقة حكومة ديمقراطية دستورية بمواطنيها.[5] تَقَصّى الكتاب العقل السياسي العام، في بعديه الرسمي والشعبي، من خلال أركانه الثلاثة: الثقافة السياسية المجتمعية العامة، الآداب السياسية العامة والمسؤولية السياسية العامة،[6] عبر الغوص في مادة بحثية ثريّة تتمثل في مداولات الهيئة والمادة الإعلامية حولها، ومتابعة الأحداث السياسية المُتَتَالية، مستفيدا في نفس الوقت من التجارب المقارنة. القراءة الأولى، موضوع الورقة، واجَهَت عسر الغوص في التفاصيل الكثيرة، مضافًا لها الاجتراح اللغوي للمصطلحات لدى الكاتب، حيث يَتطلّب الأمر من كل قارئ الوقوف عندها لفهمها في اللغة العربية أو في أصلها الفرنسي. إلا أنّ مساحة حريّة القارئ تسمح للورقة بالانطلاق مما يُثيره الكاتب لديه من أسئلة وملاحظات، خاصة ورود مصطلح “الثورة” بين ظِفرين كلّما تحدّث عنها الكاتب بصفتها تلك. اتخذت الورقة هذه الملاحظة نقطة انطلاق ذاتية في القراءة، مع ربطها بتحليل الكتاب للهيئة، تمهيدا لبعض الخلاصات حول عمومية الكيان السياسي، التي ربما تشجع المواطن، أيا كانت صفته، على قراءة كتاب يعكس جهدا بحثيا مُضنيا.
الهيئة ذات الإسم الطويل و”الثورة” بين ظفرين
كلّما وردت الثورة، وما يَدور حولها من مصطلحات، حمَلَت معها ظفرين. كذلك شأن “قوى الثورة” و”نشيد الثورة”.[7] لاحقًا غاب الظّفرَان إلا أن دلالتهما تواصلت، بل يمكن القول أن تحليل دور الهيئة على امتداد صفحات الكتاب يُبرّرهما. يُسائل الكاتب الحقل السياسي خلال فترة الانتقال الديمقراطي انطلاقا من ديناميته وتفاعلاته. فالثورة، وإن اُختلِفَ في طبيعتها، فقد أصبحتْ عاملا محوريّا في إنتاج الدلالة السياسية وتأطير السلوك. ومعناها يبدو لنا في الكتاب جزءًا من الإنتاج السياسيّ والاجتماعي للمنظومة السياسية والقانونية الجديدة .
يُخَالف الكاتب أطروحة عياض بن عاشور حول مفهوم الثورة التي لا تحتاج إلى أكثر من الهيئة لتحقيق مطالبها. هي ثورة بأربعة معايير، كما يراها عياض بن عاشور: الاحتجاج العمومي والشامل ونجاحه في الإطاحة بالنظام السياسي (رأس النظام والدستور)، ورسالة ثورية واضحة، يتم الاعتراف بها كشرط رابع. وفق هذه المعادلة، يمكن القول أن الهيئة قد أدّت دورها التاريخي المتطابق تماما مع أهدافها. بل إن المسار الثوري التونسي لم يكن قادرا على إنتاج ما هو أفضل منها، على قدر طبيعة العقل السياسي العام الذي تشكّل قبل الثورة وبعدها،[8] وقد نشرَت المفكرة القانونية سابقا قراءة لكتاب عياض بن عاشور الذي يَستعرض هذه الأطروحة. وعند قراءَة كتاب المولدي القسومي، يمكن القول أننا إزاء قراءتين جديّتين للثورة التونسية: أولى مثاليّة فكرية تفتح الباب على أسئلة الكيان السياسي في أفق حضاري، وثانية يُدافع عنها القسومي: مادية علمية تفتح الباب على أسئلة الكيان السياسي في تحوّلاته التاريخية المجتمعية. ولعل القارئ يطرح إمكانية التقائهما في أفق حداثة تحقّق شروط اكتمالها.
بالعودة إلى مفهوم الثورة، ورغم إعلان الكاتب عن خلفية فلسفية واضحة في مقدمة الكتاب إلا أنه يتخفّف منها إزاء هذا المفهوم، مُفضلا مواجهته كما هو في العقل السياسي العام: أي حصيلة معناه كما تَكوّن. فالمعنى هو حصيلة الموضوع قيد الدراسة، أما المفهوم في نهاية الأمر هو صناعة تجريدية تخضع لطبيعة النظام المعرفي الخاصة بها.[9] أما عن مفهَمَة الثورة في الكتاب فلا تخرج عن الشروط المنهجية لدراسة العقل السياسي العام، فالثورة بين حضورها الذهني وما أنتجته ماديا، قد حَضرَت في الهيئة عبر منتسبين لها ومطالبين بأهداف ترتبط بها، ممّن دافعُوا عن فكرة المجلس الوطني لحماية الثورة.[10] وتواصَلَ النزاع حول تمثيليّتها طويلا، وعكَسَت كل ذلك الجلسات الثلاث الأولى على وجه الخصوص.[11] هكذَا يتجاوز الكاتب نقاش التأطير المرجعيّ المفاهيميّ على المستوى السياسي والاجتماعي، ونقاش الأطر الفكرية التي لم تنوجد قطّ،[12] كما لم تنوجد قيادة ثورية أو برنامج ثوري،[13] نحو تحليل “الثورة” في سياق اشتغالها واستعمالها، ما يَسمح بالقول أن أطروحة عياض بن عاشور، في الكتاب المذكور سابقا، صحيحة ما دامَت ضمن مفهمَتها الخاصة للثورة. إلا أنّ القسومي يُشير إلى أن مآلاتها غير ثورية؛ فالديمقراطية المنبثقة عن الثورة، كما اشتغلت على إرسائها الهيئة، لا يجب الوقوف عند طابعها السياسي فقط. بل يجب أن تتعدّى ذلك إلى النواحي الاقتصادية والسياسية.[14] بالإضافة إلى أن البعد السياسيّ نفسه حملَ سمات سياقه وخصائص فاعِليه. ونقاش المآلات لا ينفَصل عند ذلك عن البدايات التي -كما تمّت الإشارة إليه أعلاه- بعيدة عن المفاهيم المتداولة. بل إن الثورة دون قيادة والثوّار دون برامج، والبرامج التي طُرحَت جاءت متأخرة عن اللحظة التاريخية المناسبة لتحويل الحراك إلى قيمة وممارسة سياسية.
فَرَضَ السياق الموضوعيّ والسياسيّ الهيئة على حساب المجلس الوطني لحماية الثورة، فجاءت لذلك هجينة فيها من الثوري والقديم، مَا يجعل تحميلها لوحدها مسؤولية تحقيق أهداف الثورة أمرا مبالغا فيه، حيث لا يجب أن يتمّ التغافل عن معطيات أخرى تَعكس بشكل جلي طبيعة العقل السياسي التونسي في مرحلة الانتقال. الأمر الذي يعني أن الهيئة، التي أراد القسومي إخراجها من النسيان في مواجهة تيار التزوير والتحريف، هي “الشجرة” التي لا يجب أن تُغطّي حقيقة الثقافة السياسية والأخلاق السياسية وخاصة المسؤولية السياسية لجميع الأطراف. فالعقل الذي اشتغل بعد 2011، مهما كانت الطروحات حول الثورة، راديكالية أو إصلاحية، قد بثّ خصائصه وطبيعته وممارساته في الفترة الانتقالية الأولى. فمهّد بذلك لحاضر الممارسة السياسية بعدها.
مَثّلَت الهيئة أهم مؤسسة وضعَت الأطر والمعايير لممارسة العقل السياسي العام، الذي تشكل في حينها. فنِتاجها بالتالي يعكس قيمه ومرجعيّاته، والتزاما بنفس تنسيب الكاتب، فالمسؤولية لا تَقَع عليها فقط، لأن الكاتب يؤكّد أن المُنجز التشريعي للهيئة نفسه خضعَ لمعادلات الفاعل السياسي وحساباته. وقد زخر الكتاب بالأمثلة، منها ما يرد لاحقا، على الممارسات والقيم والمرجعيات، التي تُقدّم مؤشرات على طبيعته وخصائصه ونمط السلوك الناتج عنه. وخلاصتها هي عدم تحوّل العمل والفكر السياسي إلى ثقافة سياسية عامة، في حلّ من أيّ التزام مبدئي (على مستوى الأخلاق السياسية)، يرتبط بأولوية الشأن العام في الحسّ والأداء وحماية مقومات المواطنة وممارستها (على مستوى المسؤولية السياسية العامة).
الهيئة إطار تَوافُق مرحلي غير مبني على رؤى ومبادئ مشتركة،[15] لذلك انتهَت إلى حالة من الانقسام والتصدّع مع كل خطوة تخطُوها. لكن المفارقة أن النقاش حولها ومنجزها والانسحاب منها لم يؤدِّ إلى التخلّي عن منجزها التشريعيّ، خاصة فيما يرتبط بالنظام الانتخابي. يُتّهَم النظام الانتخابي بأنه سبب حالة عدم الاستقرار في الفترة الانتقالية إلا أن أهم منتقدي الهيئة -حركة النهضة في هذه الحالة- لم تعمد إلى تغييره في المجلس التأسيسي أو البرلمانات اللاحقة، رغم حصولها على أغلبية تسمَح لها بذلك، وذلك تماشيا مع حالة صعود خصوم قادرين على سحب الأغلبية منها. ويصف القسومي انسحاب حركة النهضة وجمعية القضاة التونسيين وبعض الشخصيات الوطنية من الهيئة بالغنائميّ. فمردّه -في تقديره- حسابات سياسية حزبية وقطاعية وحتى شخصية.[16] كما لم يفُته التذكير بأن ذهنيّة الحسابات السياسية والتموقع -تمهيدًا لمرحلة الحكم- حاضرة بقوة لدى جلّ الفاعلين، فنجد أن من حكَمَ لاحقا (الترويكا) قد بدأ التنسيق والتقارب داخل الهيئة نفسها، ما شَكّلَ بدايات أحد أنماط “التوافق السياسي”. وقد اشتغل من داخلها، ووظّف أجنحته الإعلامية خارجها لخلق حالة من الضغط التي يُمكن أن تفرض الأهداف الخاصة بها (مثال حركة النهضة). وهو نمط التوظيف السياسي لجميع المواقع من أجل فرض التوازنات.
يُضاف إلى ذلك أنّ ازدواجية الصفة الوطنية والحزبية كانت حاضرة بقوة في الهيئة،[17] بل أصبحت تكتيكا انتخابيا في الفترة اللاحقة. كما هو حال النقاش حول المال السياسيّ الذي مَثّلَ موضوع إحراج لعدة أطراف، إذ يبدو أن العقل السياسي العام كما تشكّل في الفترة الانتقالية الأولى (يتصف في الكتاب بالضحالة على مستوى المؤسسات والرأي العام)[18] هو المتحكّم في المشهد لاحقا، بجميع ما اتّصف به أخلاقيا (ابتزاز/نزعة غنائمية/مصلحية/خبث/فصام/مال فاسد/تحيّل…). ولم يَكن تمظهره الإعلامي، على وجه الخصوص، إلا مثالاً على طبيعة الممارسة السياسوية الضيقة، بخلاف ما تدّعيه من ثورية أو ما تدعو إليه من ديمقراطية.
يبدو لذلك حال الهيئة من حال طبيعة العقل السياسي العام~ وسياق اشتغاله، حيث أدرك الجميع أن أرضيتها هشّة. فهي هيئة مُنصَّبة، وثوريّتَها على قدر الحدث غير المكتمل الذي لم يكن فاعلوه مستعدّين للوصول إلى الحكم.[19] بل سمَحَت للفاعل الحزبيّ أن يستعيد صفته الحزبيّة بعد أن فقدَها،[20] ويتمكن من التموقع وفق حساباته المرحلية والبعيدة. فتعدّدت داخلها الأصول الاجتماعية والسياسيّة، وجميعها محافظة. الهيئة خلاصة موضوعية وطبيعية للعقل السياسيّ العامّ التونسيّ، وسياق اشتغاله بعد 2011. لم يكن ممكنًا إنتاج ما هو أفضل، بل هي صيغة تجميليّة،[21] لحالة أقلّ ثورية مما تدّعي، وأقلّ ديمقراطية مما تأمل. فلا غرابة أن تكون هناك مشاريع جدّية وواعدة لم ترَ النور. ليكون منجزها التشريعي غير المكتمل أو المُنقَلب عليه (3 مشاريع: العهد الجمهوري/صندوق تنمية الديمقراطية/ وثيقة إعلان المسار الانتقالي) مما يُحسَب لها ويُحسب على غيرها ممّن أفشله، بالنظر إلى ما أمكن أن تضعه من مرجعيات وأطر مشتركة للمشروع الديمقراطي.
المشاريع المُجهضة نتيجة العقل السياسي العام: العهد الجمهوري مثالاً
تكفّل الباب الثاني من الكتاب باستعراض مرحلة الإعداد المؤسساتي والتشريعي للانتقال الديمقراطي. وتبدو هذه المرحلة في طيّات الكتاب ذات أهمية استثنائية. فإن كانت الفترة الأولى، متعلقة ببنية وتركيبة وإدارة المرحلة ما قبل التأسيسية، ضمن حالة فراغ تشريعي ومؤسساتي ملأته الهيئة على هناتها، فضبطَت إلى حدّ ما حالة الخواء المعرفي والمرجعي والقصور السلوكي. ففَترة الإعداد التشريعي والمؤسساتي للانتقال الديمقراطي تَعكس استعدادات العقل السياسي العام للديمقراطية، وهي تُفكّر فيها وتضع أُطُرها. فقد تعلقت بأركانها المؤسّسية وأطُرها التشريعية، بدءًا من الهيئة العليا للانتخابات وتنظيم الحياة الحزبية والسلط الاجتماعية والإعلامية.
مثّلَ الطابع المُغرق في السياسي داخل الهيئة نتيجةً طبيعيّة للفترة الأولى. وقد تواصلَ فعليّا. إذ أنّ الترشّحات لعضوية الهيئة العليا خضعت للاصطفاف الأيديولوجي والسياسي والقطاعي، ما منعَ على سبيل المثال تحقيق التناصف في عضويتها. وشكّل ذلك ورقة ضغط سياسي- إعلامي اعتمدَته حركة النهضة عندما فشلت في ضمان عضويّة سعيدة العكرمي داخلها.[22] وهو حال موعد الانتخابات الخلاَفي، حيث تمسّك كل طرف بتاريخ حسب قوّته واستعداده لخوض الانتخابات.[23] بما يعنيه ذلك من فصام بين العمل على التأسيس والتفكير في الحكم.
مثّلَت هيئة الانتخابات كمؤسّسة مستقلّة أهمّ منجزات الهيئة،[24] لكن وطأة الخلافات والأداء الحزبيّ المحكوم بعقلية المحاصصة والفئوية مهّدَ لتحوّلها إلى هيئة خاضعة للتجاذبات السياسية،[25]خاصة بإقرار الفصل 6 (إجراءات الفرز والانتخاب) من القانون الأساسي المنظّم لها.[26] يبدو الخيط الناظم الذي يتبعه الكاتب مؤكدا في كل مرة على أن الممارسة السياسية في جوهرها واحدة (الثقافة والآداب والمسؤولية)، فكأنّه بصدد وصف حالة التناسخ السياسي للشخوص والطبائع بين فترة وأخرى. وقد تكرّرَ هذا المعطى فيما يتعلّق ببقية جوانب الإعداد المؤسساتي والتشريعي، سواء فيما يتعلق بتنظيم الحياة الحزبية أو تنظيم السلط الاجتماعية والإعلامية المستقلّة. ومن أهم النقاط (المتصلة والمؤكدة لما سبق) والتي استفاض فيها الكتاب بالتحليل، ما يتعلق بدور الأحزاب في إعادة بناء الواقع السياسي. فقد أشار الكتاب إلى ظاهرة الأحزاب الانتخابية/ البرلمانية (العريضة الشعبية، نداء تونس، قلب تونس، الحزب الوطني الحر). تشكّلَت هذه الأحزاب من الخارج، مُوظّفَة الحق في المشاركة السياسية، للتأثير على الحياة السياسية من الداخل عبر الولوج إلى مؤسسات الحكم. فلا يُتوقّع لها دور حقيقي في إعادة بناء الواقع السياسي بقدرٍ يسمح بالحديث عن وجود أحزاب قابلة للتصنيف الواضح حسب رؤى سياسية ومجتمعية مُؤصّلة وتتغذّى من المجتمع في ديناميّته السوسيولوجية والاقتصادية. يُضاف إليها “أحزاب الوسط البراغماتي غير الأيديولوجي”، التي كان وسطها مُنحرفًا عن الموقع المعتاد بين اليمين واليسار، بل جاء بين قُطبَي اليمين المحافظ الديني والحدَاثي.[27]
بِتضافر كل ذلك ضمن السياق العام، ذكَرَ الكاتب أن عقل التشريع في الهيئة تُحرّكه الرهانات السياسية والارتباطات الحزبية،[28] في خريطة حزبية ضعيفة فكرا وتنظيما، أغلبها انتعشَ بفضل حالة الانفجار الحزبي بطابع براغماتي “وسطي” غير إيديولوجي، منفصلة عن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية.[29]لذلك، لا غرابة أن يكون الإعداد للانتقال الديمقراطي بعيدا عن وضع أطر مشتركة أوسع من أفق العقل السياسي العام الضيق.
أورد الكتاب النصّ الكامل لوثيقة العهد الجمهوري،[30] مؤكّدًا أنّ له مسوّغاته الفكرية والتاريخية، خاصّة بالنظر إلى التجارب المقارنة. وهو الوعي الذي حرّكَ من اقترح المشروع داخل الهيئة.[31] فالنظام الجمهوري والديمقراطية ليسا مترابطيْن آليّا بل يستوجب ارتباطهما وجود إطار مرجعي مواطني يحدد علاقة الدولة بالفرد. لكن نقاش العهد امتدّ على أربع جلسات تخلّلها رفضٌ من جهات مختلفة (بخاصّة حركة النهضة) ورافقها هجوم إعلامي متزامن. وافقت الحركة في النهاية، لكنها كانت موافقة مشروطة بأن تكون إلزاميته أخلاقية لا غير.[32] ويضع الكاتب مسؤولية إجهاض مشروع العهد الجمهوري على عاتق حركة النهضة،[33] بخاصة أنّ حجّتها الإعلامية حول التطبيع ظهَرَ لاحقا ضعفها، فلم يتمّ تجريمه في الدستور أو في أيّ نص قانوني، رغم قدرتها من حيث الوزن السياسي والانتخابي على ذلك.
استغرَقَ الكتاب في عملية حفر دقيق في أعمال الهيئة، وفق موضوعية التزمَت بإطارها المنهجي، تسمح بالقول (من قراءة أولى) أن الحجج المتداولة ضدّ الهيئة تُضعف متداوليها أكثر، لأنهم جزء منها واشتغلوا ضمنها. فهي جزءٌ من خطابات وحسابات سياسيّة مُحدّدة. لكن ذلك بدوره لا يُلغي مسؤوليّتها من منطق المسؤوليّة السياسيّة العامّة. تبحث قراءة مماثلة عن التوازن من دون تعميم المسؤولية، في اتّجاه إعادة قراءة تلك المرحلة على ضوء الحاضر واستشراف المستقبل. إذ يجب الاستثمار في الدروس المستخلصة ليتحمّل الجميع مسؤوليّته أمام “انتفاضة”[34] تملك “سحر الثورة”،[35] وفرصة تاريخية قد انقضت، لعلّه يمكن بذلك مواجهة سحر السلطة والحكم، وفق قيم ومرجعيات جديدة.
إن عملية الحفر التاريخي في كتاب المواجهة مع التاريخ على قدر من الجدية والأهمية، إذ تفتح على أسئلة أكثر بخصوص أفق تأسيس الوجود السياسي (l’Etre politique)، خاصة على مستوى تشكُّل المواطنة ما قبل التأسيسية المرجعية وروافدها الاجتماعية والاقتصادية. إذ تبدو روافع تشكُّل المواطنة، استثمارا في جهد الكتاب، مُعطّلة بعمق على مستوى الثقافة السياسية الرسمية والشعبية، ما يستتبع ظهور ممارسات غير أخلاقية وتهرُّب من المسؤولية السياسية، في معناها العام باعتبارها مُلزَمة معياريا بتحقيق معادلة الجمع بين الذاتي (المصلحي/الأيديولوجي، إلخ) والموضوعي (الإرادة العامة/المصلحة العامة). أما الوسط التنظيمي (الهيكلي والإجرائي والقانوني) فينزاح نحو إعادة إنتاج العطالة وتعميق الأزمة. فيما الهيئة، وهي على ما هي عليه أفضل ممّا تلاها،[36] لم تكن إلا قطعة من رقعة السياسة الهشة والمهترئة في تونس، المعزول فيها الشعب. داخل الهيئة تمّ إنتاج ديمقراطية وُلدَت مريضة، ووقّعَ “مريديوها” على وفاتها قبل أن تبدأ.[37] ألا يبدو لذلك أن الشعب وسيادته في حالة انفصال بين المفهوم والواقع، لا تسدُّها إلّا فَورة الشعبوية كمُسكّن لداء عميق؟
[1] اسمها الكامل: الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. أُنشأت بمقتضى المرسوم عدد 6 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فيفري 2011. وتمّ الإعلان عن تأسيسها في 15 مارس 2011.
[2] المولدي القسومي، في مواجهة التاريخ:صدَى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، دار محمد علي للنشر، ط1، تونس، أكتوبر 2021، ص189.
[3] المصدر نفسه، ص37-38، ص40.
[4] م.ن، ص183.
[5] م.ن، ص43-44.
[6] م.ن، ص48-49.
[7] م.ن، ص57، ص60، ص65، ص64، ص723. وترد عبارة الربيع العربي بين قوسين وبين ظفرين: انظر الصفحة 29. (“الربيع العربي”).
[8] م.ن، ص113.
[9] م.ن، ص102-103.
[10] م.ن، ص102.
[11] م.ن، ص82-83.
[12] م.ن، ص104.
[13] م.ن، ص104، ص59.
[14] م.ن، ص114.
[15] م.ن، ص116، ص145.
[16] م.ن، ص 118-120.
[17] م.ن، ص85.
[18] م.ن، ص675.
[19] م.ن، ص59.
[20] م.ن، ص64-65.
[21] م.ن، ص58.
[22] م.ن، ص364-366.
[23] م.ن، ص372.
[24] م.ن، ص374.
[25] م.ن، ص378-379.
[26] التصويت على الفصل 6 من القانون الأساسي المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للإنتخابات، مرصد مجلس، 12 ديسمبر 20212. الرابط: https://bit.ly/3W4cYyR
[27] المولدي القسومي، مرجع سبق ذكره، ص477.
[28] م.ن، ص481.
[29] م.ن، ص479.
[30] م.ن، ص607-609.
[31] م.ن، ص611.
[32] م.ن، ص618.
[33] م.ن، ص627.
[34] م.ن، ص469.
[35] م.ن، ص63.
[36] م.ن، ص725.
[37] م.ن، ص683.