
"باتت الإدارة واقفة أمام خيارين كلاهما غير مقبول:
* إما وقف دفع أجور الموظفين وتهديد استمرار خدمة الدين العام، مع ما يرتب ذلك من كوارث،
* وإما تسوية تمحو مخالفات عشرين سنة ماضية مقابل السماح بمخالفات قادمة بحجة قوننة أو تسوية تخالف الدستور والقوانين الأساسية.
ولعل الخيار الثاني أسوأ من الأول لأنه يعني مقايضة جرمي السطو على المال العام وعلى مال المكلفين الحاصل سابقاً بجرم مماثل مستقبلي… وهذا الخيار يندرج في سياق تعليق نظام الدولة الدستوري واستبداله بنظام صفقات منفصلة ومتبادلة، يجريها عدد محدود من "الزعماء" …".
هذه الفقرات وردت في المراجعة القضائية التي تقدم بها السادة حسين الحسيني (رئيس مجلس النواب سابقا) والياس سابا (وزير مال سابق) وغسان مخيبر (نائب حالي) بواسطة المحامي موسى خوري أمام مجلس شورى الدولة اعتراضا على كم من المخالفات القانونية المالية المرتكبة من النظام السياسي السائد، في غياب أي موازنة عامة منذ ما يقارب العقد. فبغياب الموازنة العامة، يحصل الانفاق العام على أساس المحاصصة، بعدما يحدد كل من "الزعماء" الحصة المناسبة له لقبول الصفقة المخالفة للأصول ولأسس القانون وغض النظر عنها، بمنأى عن مجمل الآليات والضمانات القانونية المعنية بهذا المجال. وبذلك، بدا الهدف من المراجعة مثلثا: أولا، تثبيت خطورة هذا التحول في مراجعة لها قيمة تاريخية مع ابراز مضامينه وانعكاساته على الصعيد السياسي، وثانيا، السعي الى نقض هذا الواقع من خلال القضاء، وثالثا، تعميم النهج الآيل الى استخدام القضاء كحلبة لتعزيز الوعي الاجتماعي ومعه الحقوق الاجتماعية المكرسة في المنظومة القانونية في مواجهة السلطات الحاكمة، وهو نهج بات يعرف باسم التقاضي الاستراتيجي.
وقد خلصت المراجعة، بعد نزع المشروعية عن النظام الحالي واثبات انغماسه في المخالفة والتعدي على المال العام، الى تقديم مطلب استثنائي مفاده "اتخاذ إجراء احترازي بإنشاء هيئة إشراف قضائي، تعمل بإشراف رئيس مجلس شورى الدولة، مؤلفة من قضاة وخبراء بالعدد الذي يرتئيه المجلس، تستمر في تأدية مهامها إلى حين عودة المؤسسات الدستورية المعنية إلى القيام بمهامها ودفعا لتعجيل تلك العودة. على ان يمنح المجلس هذه الهيئة الخاصة أوسع الصلاحيات للإشراف والرقابة المسبقة على انفاق الأموال العامة والمصادقة أو عدم تنفيذ على عقد أية نفقة، سواءً أكان عاقد النفقة مجلس الوزراء، أو أحد الوزراء، بحيث تحدد جواز تنفيذ أو عدم تنفيذ أي قرار سابق لم ينفق أو لم يجر التعاقد بشأنه مع الغير، وجواز اتخاذ وتنفيذ أو لا أي قرار لاحق يرتب إنفاقاًعاماً و/أو تكليفاً للمواطنين و/أو دينا مترتبا عليهم بحسب ارتباطه الأكيد بالوظائف الحيوية للدولة حصرا". اذا المطلب يرمي الى وضع رقيب قضائي على مجمل ما يتصل بالانفاق العام، قياسا على ما دأب القضاء العدلي على فعله في القطاع الخاص، من خلال تعيين مراقب عام أو حارس قضائي على الشركات أو المؤسسات التي يرتكب مدراؤها مخالفات جسيمة. ولعل أقرب القرارات القضائية الى هذا الطلب، هو القرار الذي اتخذه قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف في 8-7- 2013بتعيين مدير لتلفزيون لبنان تبعا لعجز الحكومة عن القيام بذلك.
كما طلبت المراجعة التعويض على الجهات المستدعية عن الضرر المباشر والأكيد اللاحق لتخلف الدولة عن القيام بالموجبات الدستورية والقانونية المترتبة عليها لتأمين دفع المستحقات وجباية الإيرادات والاستدانة، أي بإقرار الموازنة السنوية، ما يشكل خطأ فادحا ومتماديا، فضلا عن إبطال جميع القرارات الإدارية المطعون فيها، ولا سيما منها القرار المتخذ في مجلس الوزراء بتاريخ 24 تموز 2014 (المتصل بدفع رواتب الموظفين من بند احتياطي الموازنة)، لتضمنها العيوب الأربعة معاً المذكورة في المادة 108 من قانون القضاء الإداري: صدورها عن سلطة غير صالحة، واتخاذها خلافاً للمعاملات الجوهرية المنصوص عليها في القوانين والأنظمة ومخالفتها للدستور وللقانون، واتخاذها لغاية غير الغاية التي من أجلها خول القانون السلطة المختصة اتخاذها.
وتشاء الصدف ان تقدم هذه المراجعة في موازاة تحرك ذوي المفقودين لتنفيذ قرار مجلس شورى الدولة الصادر في 4-3-2014 بالزام الحكومة بتسليمهم كامل ملف التحقيقات في مصائر المفقودين الحاصلة في 2000 عملا بحقهم الطبيعي بالمعرفة. ومن المعلوم أن هذا القرار قد اتخذ تبعا لتقاض استراتيجي طويل الأمدد من قبل هؤلاء وأن تحركهم الأخير رمى ليس فقط الى إقرار حق المعرفة، بل أيضا الى تكريس مبدأي فصل السلطات واستقلال القضاء.
تدعو المفكرة القانونية قراءها الى الاطلاع على هذه المراجعة التي تتضمن توثيقا لمرحلة سوداء من تاريخ لبنان، وهي تعدهم بمزيد من التعليقات، فاتحة مجاليها الإعلامي والبحثي أمام أي مبادرة أو مساهمة في هذا المجال.
يمكنك تحميل نص مراجعة الحسيني كاملا على الرابط أدناه
الصورة منقولة عن موقع tamoudatetouan.com
متوفر من خلال: