“في سياق عملها حول القضاء ومراقبتها للتفاعلات الحاصلة بينه وبين وسائل الإعلام، طوّرت المفكرة القانونية مذكرة برسم سياستها التحريرية بخصوص القضاء، سواء من حيث مضمونها أو من حيث أسلوب التخاطب والكتابة. وهي تعمل بموجب هذه المذكرة.
أولاً: في المبادئ والمنطلقات:
يُفترض أن يهدف القضاء إلى حماية المجتمع من المخاطر التي تحيط به، وإلى تحسين أوضاع الفئات المغبونة اجتماعياً وتقليدياً تبعاً لتطور المفاهيم والاجتهادات القانونية والقضائية، وإلى حسم النزاعات والمطالب على أساس المنظومة القانونية والحقوقية من دون أي تمييز وبعيداً عن أي آراء نمطية أو مسبقة. وللقضاء في النظام الطائفي السائد من حيث المبدأ وظيفة أكبر بحيث يفترض به أن يشكل صمام الأمان للمواطنين كافة بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية. وضماناً لهذا الدور وبكلمة أخرى لضمان شروط المحاكمة العادلة، تعتمد المفكرة القانونية الأسس والمنطلقات الآتية:
– ترسيخ استقلال القضاء كثقافة وواقع. فمن المهمّ تعريف استقلال القضاء من خلال معايير متفق عليها دولياً، خصوصخخصووخصوصاً من خلال ما يناقضه من انتهاكات. ومن أهم هذه الانتهاكات، التدخلات التي يقوم بها أصحاب النفوذ، ومنهم للأسف تدخلات يقوم بها قضاة، أو يسهلها التنظيم القضائي ككل والذي يبقى دون مستوى معايير الاستقلالية المتعارف عليها دولياً.
– ضمان شفافية القضاء من خلال تطوير العمل الإعلامي في هذا الخصوص، إبرازاً للمجالات والنجاحات القضائية وفي الوقت نفسه ضبطاً للمخالفات التي قد تشوب أعماله. وبالطبع، تزداد أهمية الشفافية في وقت ما زالت مؤسسات الرقابة القضائية تحتاج فيه بشكل ملحّ إلى تعزيز لهيكليتها ولقدراتها والحدّ من التدخلات في أعمالها. وفيما يجدر لهذه الغاية تجاوز عدد من التّقاليد والمفاهيم كهيبة القضاء، فإنه يقتضي في الوقت نفسه التعاطي إيجاباً مع هواجس القضاة والهيئات القضائية على أساس أن توسيع التغطية والنقد الإعلاميين للأعمال القضائية اليومية، يعكس تحولاً ثقافياً.
– دور التحرير في هذا المجال لا يقتصر اذاً على الامتناع عما لا يجب فعله قانوناً، إنما يفترض أيضاً أن يكون للتحرير رؤية وسياسة واضحتان لتحقيق ما تقدم من أهداف. فالحرية الإعلامية تزيد اشعاعاً بقدر ما تنجح في إنضاج الأفكار والمبادئ وتعميقها وتصويبها، وهي أمور لا تحصل مصادفة، من دون تفكير وتخطيط.
ثانياً: ما هي مهام التحرير ووظائفه في المجال القضائي؟
في هذا المجال، يقتضي إعادة النظر في الدور النمطي للاعلام في المجال القضائي والذي غالباً ما ينحصر بمساءلة القضاء ومحاسبته. فالى جانب المساءلة التي هي بالطبع وظيفة هامة جداً، تترتب على الوسائل الإعلامية مسؤوليات أخرى فائقة الأهمية. من أبرزها:
– إبراز الإصلاح القضائي على أنها أولوية اجتماعية، على أن يتمثّل ذلك في إيلاء أهمية خاصة للمستجدات القضائية وتوسيع المساحة المعطاة لها في أعمال المفكرة القانونية. وتستشعر المفكرة مسؤولية خاصة في هذا المجال بعد الغاء الصفحات القضائية في العديد من الصحف ووسائل الاعلام اللبنانية،
– إجراء ممراجعة نقدية لخطاب الإصلاح القضائي لجهة المفاهيم المستخدمة فيه. فالإصلاح القضائي ينبني غالباً على مفاهيم مطّاطة كمفهوم استقلال القضاء أو تطهير القضاء، قد تؤدي أحياناً إلى نقيض ما ترمي إليه. فمفهوم استقلال القضاء هو مفهوم معقّد يشمل الاستقلال الخارجي للقضاء، أي استقلاله إزاء السلطات السياسية، وأيضا الاستقلال الداخلي للقضاء، أي إحاطة القاضي بضمانات تعطيه حصانة ذاتية ضد التدخلات التي قد تقوم فيها الهيئات القضائية التي تتولى تنظيم مساره المهني. ومن شأن أي تبسيط لهذا المفهوم كأن تقوى المؤسسة القضائية من دون إعطاء القاضي ضمانات ذاتية، أن يؤدي إلى نتيجة مناقضة تماما للنتيجة المرجوة بحيث تضعف حصانة القاضي إزاء التدخلات من داخل القضاء. وكذلك الأمر بشأن الخطاب لتطهير القضاء والذي يوحي بوجود إرادة في إحداث إصلاح جذري، والذي غالبا ما ينتهي إلى تعزيز مخاوف القضاة وإضعاف منعتهم، وخصوصا في الحالات التي يعلن عنه فيها من دون اتخاذ أي اجراءات موازية لتعزيز ضمانات الاستقلالية. ويقتضي التنبه هنا بشكل خاص من الخطاب الديمغوجي للسلطة السياسية التي غالبا ما تعمد إلى تبييض صفحتها من خلال ادّعاء نيتها في مكافحة الفساد داخل القضاء،
– مراقبة حسن تطبيق مبدأ فصل السلطات وإظهار حساسية إزاء أي تعرض لهذا المبدأ. ومن الأمور التي تشكل تعديا على فصل السلطات، تهجم قوى حكومية أو أمنية على أحكام قضائية، أو أيضا إعاقة العمل القضائي كرفض إعطاء اذن الملاحقة، فضلا عما هنالك من وسائل وأساليب متعددة.
– فضح التدخلات في القضاء، فضلا عن فضح العوامل المساعدة لهذه التدخلات. ومن أهم هذه العوامل المساعدة، الزيارات المكثفة التي يقوم بها عدد من القضاة لمرجعيات سياسية مع ما يستتبع ذلك من إخلال بالاستقلالية الظاهرية للقضاء ويفتح الباب أمام مزيد من التدخلات في القضاء،
– تغطية القضايا القضائية ذات الأبعاد الاجتماعية على نحو يخرجها من طابعها الخاص ليسبغ عليها الطابع العام، مع ما يستتبع ذلك من إبراز لوظيفة القضاء الاجتماعية (مثلا: الدعاوى المقدمة من ذوي المفقودين أمام القضاء، أو من نقابيين ضد تعسف شركاتهم الخاصة الخ.)،
– إبراز الأحكام الإيجابية للقضاة والتي أحياناً تسد ثغرات مزمنة في عمل المؤسسات والسلطات الأخرى (مثال على ذلك: أحكام صادرة لانصاف فئة اجتماعية تعاني من غبن كالأحكام المتصلة بالعنف ضد المرأة، أحكام صادرة بحق عناصر أمنية متهمة بتعذيب مواطنين، أو متهمة بممارسة الاحتجاز التعسفي الخ.). ومن شأن إبراز هذه الأحكام أن يخفف من هواجس القضاة إزاء الإعلام، فيرون أن بامكان أعمال الاعلام والقضاء أن تتكامل في صناعة رأي عام أكثر تحسساً لقضايا اجتماعية معينة،
– إبراز المبادرات التي يقوم بها قضاة دفاعاً عن استقلاليتهم، وتشجيع القضاة على تحرير مقالات وكتابات ولا سيما في قضايا الإصلاح القضائي. فمن المهم اشراك القضاة في النقاشات العامة، والوقوف عند آرائهم في هذه الجوانب المختلفة. فيصعب تعزيز استقلال القضاء من دون بروز قضاة مستقلين. فموجب التحفظ يمنع القضاة من قول ما يخرجهم عن حياديتهم في القضايا التي ينظرون فيها ولا يمنعهم بالمقابل من الدفاع عن المصالح المعنوية والمادية للقضاة. وفي هذا الإطار، من وظائف العمل الإعلامي إقناع القضاة، وفي مقدمتهم الشباب، والقضاة المتدرجين بأهمية دور الاعلام لحمايتهم من التدخلات أو لتحريك الرأي العام دعما لقضاياهم. فبذلك يخرج الاعلام القضاة من لعبة الارتهان السياسي الذي غالبا ما يصور على أنه الطريق الوحيدة للقاضي لحماية حقوقه،
– وبشكل أعم تخصيص حيز هام لابراز إشكاليات استقلالية القضاء في الخطاب العام، مع ابراز معايير الاستقلالية المعتمدة عالمياً في هذا الاطار. ونشير هنا إلى أنه بخلاف قضايا اجتماعية عدة يحال بشأنها إلى المعايير الدولية، قلما يشار إلى هذه المعايير في الشؤون القضائية رغم أهميتها. ولهذه الغاية، طورت المفكرة دليلا للمعايير الدولية تضعه في تصرف الباحثين والإعلاميين كافة،
– العمل على تحويل المادة الإعلامية إلى مادة مثيرة للاهتمام، من خلال إبراز أبعادها الاجتماعية وربطها بهوم الناس وقضاياهم، فضلا عن اعتماد أسلوب ممتع ومتاح لغير المختصين. ولا بأس هنا من التعامل مع القضاء على أنه مسرح للقضايا الإجتماعية.
وبالطبع، قلب الدور النمطي للإعلام في المجال القضائي يتطلب أداء هذه الوظائف بشكل متوازن وضمن رؤية متكاملة. فمن المهمّ أن يتزامن أيّ اندفاع إعلاميّ لنقد العمل القضائي مع اندفاع متساوٍ ومتوازٍ في الدفاع عن استقلال القضاء ضدّ من يتدخل في أعماله أو يعكر صفوه، فلا تمهد المساءلة للاستباحة؛ أو أن يترافق أي انتقاد لقاض رضخ لتدخلات مع انتقاد متساو أو أقوى للجهة التي استساغت التدخل في عمله، فلا تصبح المساءلة في عمقها استضعافاً للقضاء.مثال على الأخطاء الواجب تفاديها في هذا المجال: ذكر الاسم الكامل للقاضي المخالف والاكتفاء بذكر الجهة المتدخلة بالأحرف الأولى، أو أيضا المطالبة بمحاسبة القاضي دون مطالبة موازية وأقوى بمحاسبة الجهة المتدخلة.
كما من أهم انعكاسات ذلك أن يربط انتقاد الواقع الحالي برؤية ما يفترض بالقضاء أن يكون عليه مستقبلاً. ومن شأن هذه الأمور أن تخفف الهواجس لدى القضاة، فلا يحصل سوء تفاهم حول غايات المفكرة أو خلفياتها والتي نريدها أن تبقى وفية لما سبق بيانه من أهداف للقضاء.
ثالثاً: أصول تقييم أعمال القضاء أو محاسبته:
في هذا المجال، يقتضي الالتزام بالأمور الآتية:
– أن القاضي قيم على خدمة عامة، وتالياً من المشروع توجيه النقد اليه، وإن كان قاسياً، شرط توفر اثباتات كافية على صحة ما هو منسوب اليه، وذلك عملاً بالمادة 387 من قانون العقوبات. إلا أن توفير الإثبات ليس أمراً سهلاً أو متاحاً في ظل سرية الملاحقات والأحكام التأديبية الصادرة بحق قضاة، باستثناء أحكام الصرف من الخدمة.
– يقتضي تفادي التعميم في النقد أو المحاسبة، فلا يتحول الذم المشروع بقاض إلى ذم غير مشروع بالقضاء برمته. فمن الخطأ النظر الى القضاء على أنه جسم موحد، يعمل فيه أشخاص لهم توجهات وتقاليد ومواقف موحدة. كما من الخطأ تحميل القضاء وزر عمل قاض واحد أو محكمة واحدة. فأهم ما يميز القضاء أنه سلطة مبعثرة على مئات القضاة، الأمر الذي يسمح بتعددية كبيرة في الرؤى والاجتهادات والمواقف، وذلك خلافاً لما هي عليه حال السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين يكون فيهما القرار بالضرورة موحّداً.
– اعتماد أعلى معايير الدقة والموضوعية فيما يتصل بانتقاد القضاء أو تقييم أعماله أو أحكامه نظراً لحساسية الموضوع، ولا سيما في ظلّ الضوابط التي تحكم قدرة القاضي المعني على الرد. ويهم هنا ليس فقط التدقيق في أي معلومة قد تسيئ الى القاضي تجنباً لاطلاق التهم جزافاً، إنما أيضاً تجنب مدح من لا يستحق. فأي مدح غير مستحق قد يولد مؤشرات سيئة حول عمل المفكرة وأهدافها، حتى ولو تم الأمر عن حسن نية. وفي القضايا التي يتنازع فيها خصمان، من المهم الاستماع بالضرورة الى وجهة نظر الطرفين، الا حين يصعب ذلك، مع السعي في مطلق الأحوال الى التدقيق في ملف الدعوى وفي رواية الفرقاء (غير الرسمية) بشأنها.
– اعتماد النسبية في التعاطي مع الأخطاء القضائية. فلا يجوز مثلاً محاسبة قاض على خطأ صغير بالطريقة نفسها التي يحاسب فيها قاض على رشوة أو سمسرة أو صرف نفوذ، ولا سيما في البيئة الحاضرة التي تكثر فيها عوامل الخلل. ويستحسن في الظروف الحالية الامتناع عن ذكر أسماء القضاة الذين يرتكبون أخطاء صغيرة تفادياً للتجريح فيهم. كما يقتضي هنا أيضاً التفريق بين المخالفات المرتكبة من قاض والتوجهات أو الممارسات المخالفة العامة، فلا يحمل القاضي وحده وزر ممارسة يشارك فيها عدد كبير من زملائه.
– اعتماد النسبية في تقييم الاجتهادات والتوجهات الفكرية للقضاة. فمع قناعة المفكرة بوجوب أن يؤول أداء القضاء الى حماية الفئات المعرضة لغبن اجتماعي مزمن وتحسين أوضاعهم القانونية ضمن أوسع هامش تسمح به المنظومة القانونية، فإنه من المستحسن أن يتم ذلك وفق الآليات التي يفترضها العمل على تغيير ثقافة معينة، أي من خلال تأمين حيز كبير للإشكاليات الاجتماعية واطلاق مناقشات واسعة ودائمة حول انتظارات المواطنين من القضاء من دون أن يصل إنتقاد التأخر أو التقاعس في الاجتهاد إلى التجريح.
– احترام مبدأ قرينة البراءة، أي أن الانسان يعد برئيا ما لم تتم ادانته. وهذا ما ينعكس على التعابير المستخدمة ويتطلب إعتماد أعلى درجات التدقيق والموضوعية من دون أن يعني بالضرورة الامتناع عن انتقاد التحقيقات القضائية في الملفات التي تحوم حولها شبهة استبعاد ملاحقة متورطين نافذين.
– تجنب المبالغة في الإثارة الإعلامية في القضايا القضائية. فالتشويق لا يكون في استخدام عبارات الاستهزاء أو الاشمئزاز، انما ربما في إبراز أهمية القضايا الاجتماعية من خلال قصص معيوشة للناس،
– تجنب الإسراف في مجاملة مشاعر شعبوية من خلال إعلان التضامن غير المشروط مع فئات إجتماعية معينة بمعزل عن أحقية قضاياها أو مطالبها أو عن تفاصيل القضايا المطروحة.
– يقتضي التزام الموضوعية في تحديد المسؤوليات عن الخلل القضائي في ظلّ تداخل الصلاحيات بين السلطة التنفيذية والهيئات القضائية، على صعيد التنظيم القضائي. وهذا ما ينطبق بشكل خاص في التعيينات والتشكيلات وينعكس بشكل غير مباشر على سرعة الأحكام وفاعلية القضاء. كما يقتضي التزام الموضوعية في تحديد المسؤوليات عن الخلل الحاصل في العمل القضائي بنفسه في ظل الأدوار المختلفة للنيابات العامة وقضاة التحقيق وقضاة الحكم. الأمر نفسه بخصوص إنتاجية القضاة وتأخير الفصل في الدعاوى، حيث أن المسؤولية تكون أحيانا مسؤولية المحكمة، ولكن في أحيان كثيرة، مسؤولية تنظيم المحاكم وتوزيع الأعمال وعدد القضاة في كل محكمة.
رابعاً: الانفتاح الواسع على حق الرد والتوضيح والتصويب والاعتراف بالخطأ:
من المعلوم أن لحق الرد خصوصية في المجال القضائي، عملاً بموجب التحفظ الذي قد يرغم القضاة المعنيين في أحيان معينة على الصمت. ومن هذا المنطلق، يقتضي إعطاء حق الرد والتوضيح والتصويب حيزاً واسعاً، ضمن الآليات المتاحة. فمشروعية الاعلام في مراقبة أعمال القضاة تتعزز من خلال ضمان حقوقهم في الرد عليه ومساءلته، من دون أي استغياب أو استقواء.
وقد يكون من المفيد جداً التعامل الإيجابي مع التجربة الجديدة التي بادر إليها مجلس القضاء الأعلى من خلال إنشاء مكتب إعلامي للرد على ما يثار إعلاميا بشأن القضاء أو توضيحه، مع إخضاع هذه الآلية نفسها للمراجعة والنقد توصلاً إلى تطوير أدائها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المبرّر المعلن لإنشاء هذا المكتب هو إعطاء القضاء حق الرد والتوضيح.
كما وعملاً بالالتزام المشار اليه أعلاه، من المفيد الإعتراف بالخطأ عند حصوله، والعمل على إصلاحه قدر الممكن.
خامساً: إشكاليات الوصول إلى المعلومة:
يصعب الوصول إلى المعلومة القضائية في كثيرٍ من الحالات. وهذا الأمر يتأتّى عن أمور ستة يمكنها تبويبها ضمن ثلاثة معوقات:
عوائق ذات طابع تقني أو عملي:
غياب المكننة: يصبح من العسير الحصول بسهولة على المعلومات،
تنظيم أرشيف الدعاوى: لا يوجد في قصور العدل أرشيف موحد أو مسؤول معروف عن الأرشيف، انما لكل قلم أرشيفه الخاص. ويصعب جدا ايجاد ملفات قديمة بسبب سوء ترتيبها،
عوائق ذات طابع إداري:
النقص في الشفافية: يعترض الباحث والإعلامي ما قد يعترضه في أي إدارة عامة أخرى، وهو صعوبة الحصول على المعلومة وهو أمر يبقى وقفا على إرادة وزير العدل أو مدير عام وزارة العدل. والأمر يصبح أكثر تعقيدا بما يتصل بالملفات القضائية، حيث يطلب أحيانا من الباحث الحصول على أربع موافقات: موافقة رئيس الدائرة القضائية، موافقة رئيس محكمة استئناف المحافظة، موافقة رئيس مجلس القضاء الأعلى فضلا عن موافقة وزارة العدل. فضلا عن ذلك، يقتضي إقناع الكاتب بالمساعدة لتمكين الجهة طالبة المعلومة من الإطلاع على الملف وتصوير مستنداته،
غياب مرجع معتمد لإعطاء إجابات على استفسارات الإعلاميين.
عوائق قانونية:
سرية التحقيقات: يحظر قانونا نشر أي معلومة تتصل بالتحقيقات الأولية والإبتدائية أمام قضاة التحقيق. وهذا الأمر يؤدي عمليا إلى صعوبة التدقيق في صحة معلومات خطيرة قد تتنامى إلى وسائل الإعلام، فتكثر التكهنات من دون ان يكون لأي كان أن يؤكد أو ينفي الخبر،
وعلى صعيد الحقّ بالخصوصية، يشترط عدد من القيمين على أقلام المحاكم أن يكون صاحب الطلب ذات صفة (فريق في الدعوى أو محام)، من دون إيلاء الإعلاميين أو الباحثين أي خصوصية في هذا المجال.
إشكالية الوصول إلى المعلومة بوجود هذه المعوقات تبقى مركزية في العمل الإعلامي والبحثي، ويقتضي إثارتها بشكل دائم في الإعلام. ولا يمكن إيجاد حلول على كل هذه المسائل. ولكن يمكن التفكير في الآتي:
أولا، السعي لتكوين مجموعة اعلامية قادرة على التفاوض مع مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل للحصول على تسهيلات للوصول الى المعلومة، ولجعل المساحة القضائية مجالا مريحا للاعلاميين،
ثانيا، إنطلاقا من ذلك، إرساء سبل تعامل مع المكتب الإعلامي لدى مجلس القضاء الأعلى للحصول على ايضاحات بخصوص التنظيمات القضائية، وإن كان يفضل أن يكون هنالك مكتب إعلامي لمحاكم الاستئناف كي يكون مصدر المعلومة قريبا من مكان حصول الواقعة المعنية. وبانتظار ذلك، ينصح الاتصال بالنائب العام التمييزي أو النواب العامين الاستئنافيين بكل ما يتصل بأعمال النيابة العامة طلبا لمعلومات أو لتوضيحات، كما ينصح الاتصال بالرؤساء الأول في محاكم الاستئناف للحصول على معلومات متصلة بمحاكمهم كل ذلك، فضلا عن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى.
ثالثا، الاستماع الى فرقاء الدعوى ومحاميهم، تجاوزا للخصوصية، وأيضا لأن الملف القضائي يحتوي على المعلومات التي أراد القيمون على هذه الملفات تدوينها فيما أن الاستماع الى الفرقاء يعطي إضاءات على ما نسميه الرواية غير الرسمية للقضايا، والتي تكمل ما هو مدون في الملف القضائي،
رابعا، إنتهاج أسلوب حضور الجلسات وتغطيتها بشكل كامل، مع السعي الى الاستماع الى آراء المحامين،
رابعا، إعلام القراء بعوائق واشكاليات الحصول على تأكيد كامل للمعلومة.
سادساً: في تصويب المفاهيم والأخطاء الشائعة:
– السلطة القضائية تشمل في مفهومها أيضا سلطة كل قاض في محكمته، وهي ليست سلطة عضوية كما هي حال السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتالياً، الأعمال الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى أو عن النيابة العامة التمييزية أو عن أي مرجع قضائي أو عن أي محكمة يمثل هذا المرجع ولا يصح نسبتها الى القضاء أو السلطة القضائية برمتها،
– هيبة القضاء: راج استخدام هذا المفهوم في التسعينيات وكان الهدف منه منع أي تداول اعلامي في القضايا القضائية. وعدا عن أن هذا المفهوم هو في تعارض تام مع فكرة العدالة بما فيها من مهابة وخوف ومع مبادئ الشفافية، فان كرامة القضاء تتحقق من خلال اصلاح عيوبه والاعتراف بها وبشكل خاص الدفاع عن استقلاليته إزاء من يتدخل في هذه الأعمال وليس في التعامي عن هذه الأخطاء أو هذا التدخل. هذا فضلاً عن أن ثقة الناس بالقضاء لا تكتسب بفعل لزوم الصمت ازاء طرح علامات استفهام كبرى إنما في إعطاء أجوبة واضحة ومقنعة في هذا الصدد، بحيث تزداد الثقة بالقضاء بقدر ما تزداد الشفافية في أعماله. من هنا، يطلب الامتناع كلياً عن استخدام هذا المفهوم.
– ثقافة استقلال القضاء: استخدام هذه العبارة من باب تعزيز استقلال القضاء مع الاشارة الى أنها ثقافة ما تزال غائبة عن المشهد العام.
– ثقافة التدخل في القضاء: استخدام هذه العبارة من باب التنديد بالتدخل وبالبيئة العامة التي باتت حاضنة له.
– التدخل في القضاء: غالباً ما تضع المؤسسات القضائية الانتقادات الإعلامية للقضاء في خانة التشويش على أعمال القضاء والتدخل فيها.
والواقع أن هذا الهاجس على أهميته (وقد يكون صحيحاً في حالات معينة)، فإنه يرشح عن نظرة نمطية ضيقة ومجتزأة للأمور. ومن الأمور الواجب التوقف عندها في هذا السياق، الأمور الآتية: (1) أن الثقافة السائدة قضائياً ليست ثقافة استقلال القضاء فيأتي الاعلام ليعكرها، انما على العكس تماماً، هي أقرب ما تكون الى ثقافة تدخل في القضاء، بحيث غالبا ما يستبيح أصحاب النفوذ التدخل في القضاء. فتصبح الانتقادات الموجهة الى القضاء بالدرجة الأولى انتقادات لفضح هذه التدخلات أو على الأقل لإحداث توازن معين في واقع غير متوازن. (2) أن أي تغطية إعلامية تحصل علناً وتبين أسبابها وتكون قابلة مبدئياً للرد والمناقشة ومعرضة للملاحقة في حال التعسف، فيما أن “التدخل” غير الإعلامي يحصل سراً ويستخدم وسائل غالبها غير مشروع، من ترغيب وترهيب، وهو بطبيعته غير قابل للرد أو المناقشة وتشكل سريته مانعاً من بين موانع عدة أمام ملاحقته.
(3) أن شبهة التدخل تزول بقدر ما تلتزم التغطية الإعلامية بالدقة والموضوعية. وتتعزز بقدر ما تكون التغطية الإعلامية مبنية على الإثارة أو التعميم أو نشر أخبار خاطئة من دون إحاطتها بتدقيق واف الخ..
سادساً: إعتماد معايير في اختيار الاعلاميين العاملين في المجال القضائي، بحيث يتوفر فيهم مستويات مقبولة من التخصص والموضوعية، فضلاً عن تمتعهم بمستوى عال من النزاهة.
وتأمل المفكرة أن يكون بوسعها تنظيم دورات تدريبية لتعزيز معارفهم وخبراتهم في هذا المجال.
سابعاً: إخضاع أي مواد نقدية للقضاء لمراجعة دقيقة من قبل المحرر (واذا اقتضى الأمر من قبل محام) ضماناً للالتزام الكامل ببنود هذه الوثيقة.
نشر هذا المقال في العدد | 37 |آذار/ مارس/ 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
قصص الناس على مسرح القضاء