مدينة الشابة: بيوغرافيا عُبور الأفراد والأماكن


2024-12-24    |   

مدينة الشابة: بيوغرافيا عُبور الأفراد والأماكن

الشّابّة، مدينة “Caput Vada” أو “رأس الإنطلاق” في العهد الروماني؛ مدينة مُستلقيَة على الساحل كأجمل ما يكون. يَختلط الحضري والرّيفي في فضائها، حيث يَلفّ منازلها من الشمال “غابة الدُّوِّيرَة” وبساتين الزياتين من الجنوب والبحر في البقية. ويَحتفظ تصميم أغلب منازلها بمسَاحات واسعة مزروعة. يبلغ عدد ساكنتها 31222 (جانفي 2023)[1] ساكنا من أصول متنوعة. لها تاريخ قديم-كثيف مازال حاضرا في تفاصيل المنطقة وعمرانها؛ من مقام “برج خديجة” إلى مقام الولي الصالح “سيدي عبد الله” الذي يُشرف على البحر من علٍ. أما تاريخها المعاصر، فقد ربطها بالعمل السياسي والنقابي على غرار مدينتي جبنيانة وصفاقس اللتين تُحيطانها من الجنوب. يَغمر البحر تاريخها وواقعها، ولكنها لم تعد رأس انطلاق رومانيّ، بل أصبحت رأس عبور تونسي. تحوَّلَ “رأس الانطلاق” أو قبودية الذي أعطى اسمه لجغرافيا المنطقة على الخرائط الحديثة إلى رأس عبور.

إذا حلَلتَ يوما بالشابة فأنت تحلّ في أرض تعيش فيها عدة أسماء. والمُسمّى يحمل معه إحالات متنوعة على دلالاته وسياقاته الخاصة. أسماء مدن ومناطق إيطالية وفرنسية، ومزارع العنب والدلاّع في أرياف أوروبية، أسماء مدن جميلة أخرى، ومدن وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء. حوّلت الهجرة، باختلاف أشكالها، روح المدينة إلى تدفّق من الأحلام والأزمات والحركة. لم يعد للشابة مرساة تشدّك بقدر ما أصبحت تساعد مركبك على الإبحار. ومعيشة أهاليها وقصصهم مليئة بالبحر ومن هاجروا، ومليئة بالهجرة دائما.

ليسَ العُبور تجسيدًا لمن يمرّون بها من غير المرئيين الجدد -خاصة من إفريقيا جنوب الصحراء- بل من يعيشون فيها أيضا. فهم إما يُهاجرون أو هاجروا من قبل أو هم مختصون في الهجرة. ثمة تواطؤ على العبور، فهو معيشهم منذ مدة بفضل التاريخ الذي رشّح “رأس الانطلاق” لأن تكون أفضل وجهات الهجرة غير النظامية. كما أنّ أهلها ينتشرون في الأرض في جميع القارات بفضل مبادرتهم للهجرة من قبل. تحوّلت الشابة إلى مدينة عابرين يعيشون الهجرة كحراك يمسّ كل شيء؛ يمسّ روح الأشخاص وروح المكان. مكّنت الهجرة المدينة من استقرار اقتصادي واجتماعي بفضل العوائد المادية لأبنائها في الخارج. فلا تخلو عائلة من مهاجرين خارج البلاد. لكن تيارات الهجرة القوية اليوم تمرّ بها وتحمل معها آثارا لم تعتَد المنطقة عليها.

أصبحت المدينة تعيش يوميا على وقع الهجرة. خبرة أهاليها في البحر، مأكلهم وملبسهم وحكاياتهم ونقاشهم اليومي، كلهّا أمور لا تخلو من صور وأسماء أماكن وأزمنة بعيدة عنها. صفحات تُكتب يوميا في قصة هذه المدينة، عن مجرى ومرسى مصائر بشر بأحلامهم ورغباتهم، عن حبيبة تنتظر أو خطيبة تحلم بمنزل جميل أو سفر تتقاسمه مع شاب “حارق” لعله يُنير حياتها. وعن أصحاب البشرة السوداء الذين يتمّ إنزالهم في الميناء مُجبرين أو يُعثَر عليهم كل يوم تقريبا غرقى أو يُعثر على بقايا ملابسهم. ليس سهلا أن تجد حذاءً أو قميصًا وتتجاهل أنه كان ممتلئا بحضور أحدهم وأحلامه ورغباته، وأنه يوما ما كان يبتسم أو يبكي أو أنه تركَ خلفه من يحبّونه ويحبهم أو ترك من كان يطارده لقتله. لا يمكنك إلا أن تتخيل أنه من الممكن أن تكون أنت في هذا الزمن المُتقلّب. المهاجر هنا يمكن أن يكون أي أحد. وليس طارئا بسبب حادث غرق أو نجاح مركب في الوصول إلى الضفة الشمالية.

كُتب على مُقدمة مركب حديدي مُلقى على شاطئ الشابة “باسم الله مجراها ومرساها” و”No Alter”. المركب لا يتجاوز سمكه المليمترات تشدّه عوارض حديدية بالعرض. مرافقي، المختص في اللّحام (ح.ع)، قال أنه “وعاء لغسل الصابون”،”لا يمكن أن تتعامل معه بقوة  وإلا سيُثقب”. روى لي قصة أشبه بركلة في الكبد، خليط من الوجع والمرارة. عندما صعد المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء، كما قال، ودّعهم من أشرف على تحميلهم قائلا: “ربي يرحمكم، ربي يرحمكم”. ليس الموجع ما قيل، لكن الأكثر إيلاما أن الحارقين كانوا يردّون مبتسمين. مُبتسمين للموت المُحتّم. حدثت هذه القصة على سواحل صفاقس القريبة وأصبحت تتردّد في الشابة، أين نجد مقبرة لسفن الحرقة الحديدية التي لم يتم إغراقها عندما تم اعتراضها. فليس كل القوارب تُرمى على الشاطئ، إذ بعضها يتم التخلص منه مباشرة بإغراقه.

قال لي مهاجر من نيجيريا ممّن أُنزلوا في الميناء يومها، ومن الممكن أن تلتقي بأحد هؤلاء كل يوم تقريبا في مدينة الشابة، بعد أن سألني عن محطة النقل البري نحو مدينة صفاقس: “on reviendra”. كان لقائي معه خلال الأسبوع الذي حلّت فيه جورجيا ميلوني بتونس. كنت أتصور أني إذا حدّثته عن الجديد في الاتفاقات الأمنية بين الشمال والجنوب وعن العنصرية والشعبوية سألمَح لديه بعض التردد أو الخوف. لكنه لم يتردد. قاطعتنا حينها فتاة ترافقه، بجسد مليء يوحي بجمال متعب من مهد الحياة البعيد في عمق القارة الإفريقية: “tes frères aussi ont été débarqués”. كانت تتحدث عن الحارقين التونسيين. جميعهم مرّوا بالشابة ومنذ ذلك الوقت انقطعت أخبارهم لأني لم أرهم منذ ذلك اليوم. الأرجح أنهم عادوا إلى صفاقس. الشابة بالنسبة إليهم شفّافة رغم الوجع، هي ليست مستقرا ولا موطنا، مبانيها وأهلها لا يعنون شيئا في نهاية الأمر، حتى هؤلاء الذين التقوهم من الصيادين في البحر أو الحرس البحري الذي قادهم إلى الميناء. هم يريدون العبور وسط عابرين آخرين. لا يصحّ اعتبار الشابة منطلقهم لأنه سبق وأن انطلقوا من مكان أبعد حملوه معهم. إن التواطؤ على العبور لم يعد قصة “جريمة” منظّمة أو شبكات تهريب البشر ولا هي قصة ميلوني تحاصر قيس سعيد من بروكسل إلى قصر قرطاج. ليس العُبور مهمّة أمنية للحرس البحري بالتعاون مع “فرونتكس” (Frontex) أو فقط نتيجة بُنى محلية ودولية. وهو ليس تقريرا ولا دراسة أو بورتريه. العبور معيش يومي يخترق كل الحدود القديمة وإن كان يتفاعل معها. العبور أسود وأبيض، نيجيري وشابي، فقير وغني، مسلم ومسيحي، إفريقي وأوروبي في “كوسموبوليت” رأس المال والعمل، على حساب حرية التنقل.[2] هو عبور كل شيء إلا الإنسان. العبور براديغم نعيشه وإن كان الخطاب السياسي والتقني-العلمي يرفض أن يرى عبرَه العالم الذي تحكمه الحدود القديمة باسم الدولة والوطن والمصالح والقوانين. هو موجود رغما عن كل شيء، حتى وإن تم تجاهله لحماية عالم قديم بهيمنته وآلامه. ويكاد لا يستثني أحدا في عالم اليوم.

يستدعي المهاجرون في المركب الحديدي، في قصص الحرقة المتداولة كثيرا، آلهتهم لعلهم يتحكمون في مجرى الرحلة حتى يصلوا إلى مرسى الحلم. يسقط أمام تلك اللحظات الحميمية في مواجهة القدر والمصير كل نظريات التحليل النفسي والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية (أو المعتاد منها في إطار الخبرة Expertise). ختم هؤلاء كل قول بعدهم، نسّبوا الجدارة التفسيرية لكل قول مختص. كيف لأحدهم أن يبلغ دلالة لحظة بهذا العمق، وهي تحفر في وجوده الشخصي، ويعلم أن  أهله ومواطنيه يعيشون تجارب مماثلة، بينما يسير العالم بقوانينه وسياساته غير مبالٍ بهم. أو يسير أيضا متضامنا معهم بشكل أو بآخر. لكن المهاجر في الأخير ينتهي وحيدا مربوطا بحبل إلى وعاء بلاستيكي، بينما غُرس نصف جسده في الرمل. عندما كان مرافقي بصدد حل الحبل، لم ير الغريق في الطرف الآخر: طرف غاب فيه هو وآلهته وأحلامه. بل في النهاية حمل الوعاء إلى القارب: فهو في حالة جيدة وصالح للبيع.

الشابة أو “Caput Transito” مدينة عبور. ويعيش الجميع العبور، بشكل أو بآخر، تونسيون وأجانب. ويُشكل العبور الأفكار والمصالح والرغبات. البحارة أنفسهم جزء منه، ولديهم ما يقولون عنه. كذلك التجّار والباعة والأساتذة ورجال الأمن، وخاصة الحرَاقة. يستثمر الجميع في العبور، أحدهم يستثمر فيه مصيره كلّه، وآخر أمواله وعلاقاته وشبكة مصالحه وآخر معارفه وخبراته. والجميع ليس بمنأى عنه، بما أنه حالة مًعمّمة تخترق جميع التفاصيل. اليوم، لو كانت الشابة قلعة مغلقة فلن تسلم من أثر الهجرة، فالجثث والملابس والقوارب تنتهي على شواطئها رغما عنها. ولا تفلت روح هنا من هذه المشاهد. أرواح مهاجرة دون مرسى ومرساة بسبب وقع الموت والتفكير في المصير.

بما أن المرساة في البرّ لم تَعُد كافية لتشدّ أحدا إلى شيء ما يُساعده على تشكيل ذاته أو هي غير قادرة أن تمنحه القدرة على الفعل. إذ أنّ كل شخص يكتب بيوغرافيا فردية يتشظى فيها المكان والزمان، مع تغير سياقه الاجتماعي والاقتصادي وأدواره التي تضغط عليه وتحاول تشكيله.[3] لا ينفصل فيه ما يُعلّقه من آمال وأحلام عن أماكن أخرى بدأ يعيشها بتصوراته عنها وأفكاره وما يتلقاه من مصادر مختلفة عنها. وكل سيرة فردية تتفاعل مع بيوغرافيا بقية الأفراد لتُكتَبَ بيوغرافيا جميع المناطق. سيرة أفراد عاجزين كفاعلين في محيطهم، حيث لا مال ولا مستقبل، بذوات مرتبكَة تَبحث لها عن شيء من الاستقلالية. وهم اليوم يلتقون بأشباههم من عمق إفريقيا، ويشتركون معهم في العبور. الوجه المكشوف للعُبور هو الهجرة النظامية وغير النظامية كنشاط يرتبط بقطاعات اقتصادية ومعطيات اجتماعية وثقافية، محلّية ودولية. ووجهه الآخر على وجه الخصوص هو قصّة المهاجر والحارق في مراكب الحلم ومراكب الموت. وجه تَختَزله قصص اليوم الأخير قبل ركوب البحر. ونحن بصدد تناول اقتصاد الهجرة ثمة اقتصاد عاطفة وأحلام. ثمة اقتصاد وجود يجعل منك، حتى وإن كنت ترى الظاهرة بعين السرد أو العلم، تسأل أسئلة عن جدوى الوجود والحياة والموت. عندما يطفو على وجه الماء طفل مُصطاف في شواطئ الشابة تتذكر مباشرة رضيعا أو طفلا يطفو ميتا بعد أن أفلتته أمه. هذه البيوغرافيا تحتاج إلى أن يقترب الذاتي من الموضوعي، الفردي من البنيوي،[4] حيث تصبح التجربة الهجرية (أو العبور هنا) تجربة تُتيح أن ننفتح على مشترك يُضيء بعض الجوانب في إنسانيتنا، التي تَغيب كلما اقتربنا منها في سياقات الاقتصاد والاجتماع والسياسة المعتادة والجزئية. إنها تجربة تُربك أرواح الأماكن والبشر في كوسموبوليت العمل والمال، كوسموبوليت يسمح بنشر ومرور كل شيء إلا الإنسان والإنسانية.

وأنا أكتب البورتريه، كنت أحسّ أني أكتب بيوغرافيا خاصة بي أيضا. فالأشخاص والمكان حولي في الشابة تغيروا ويتغيرون كل لحظة. كل يوم يمرّ ثمة حزن وفرح لقريب أو بعيد، ثمة جروح تندمل وأخرى تُفتح، ومصائر تبدأ وأخرى يبتلعها البحر. كتابة سيرة مدينة الشابة في بورتريه كانت عبئا يوميا معيشيا، لا يمكن معه الالتزام بقواعد منهجية معيّنة لأن المدينة في كل مرّة تُفلت منّي بعابريها. فانسَقت معها في تجربة الهجرة كعبور دائم لا يحتمل قمع البنى والعلاقات القائمة، بقدر ما يرجع بي إلى أسئلة ذوات تبحث لها عن موقع تحت الشمس، تبرز في منازعة أصحابها الواقع للفعل والقدرة على تغيير المصير، ما جعلني أمتلئ بقصص جميع من حدّثتهم من حارقين وحرّاقة وتلاميذ ومواطنين آخرين. تَردَّدَ أغلبهم في الحديث معي، حيث لا يزال ثمة خوف في مكان ما من أن العبور الأخير مُهدّد دائما؛ عبور لا ضمانات فيه سوى أن تَعيشه في محاولة القبض على مصير أفلتت منك جميع أسباب إيضاحه بشيء من الأمل.

الشابّة: بيوغرافيا العبور بين الحرقة والهجرة النظامية

تغيَرَ وجه مدينة الشابة وروحها بسبب الهجرة عموما والهجرة غير النظامية على وجه الخصوص. جزء مهمّ من سكان الشابة مُقيمون في دول أوروبية وخليجية عدَة. وتجارة العقود مزدهرة دائما. صنَعت هذه التّجارة طبقة رؤوس أموال لمواطنين هنا وفي المهجر، ولا يمكن أن تعلَم على وجه الدقة حجم الثروات التي راكمتها. وانتشرت هذه التجارة خارج مدينة الشابة التي كانت لها الأسبقية في مرحلة معينة. إلا أن ازدياد عدد المغتربين من مناطق ساحلية حضرية وريفية قريبة سمحَ بتكوين شبكة علاقات مفيدة في توفير العقود والتأشيرات سواء للعمل الدائم أو الموسمي. حدَثني أحد مواطني مدينة ملولش (12 كم عن الشابة) أنّ مغتربا سابقا أطلق عملا في هذا المجال بفضل علاقاته السابقة حين كان يعمل في سفن الرحلات البحرية. ويستفيد من هذه التجارة أبناء هذه المدينة الصغيرة قبل غيرهم. لعل ذلك يعود لوازع مناطقي معروف عن الجهة أو لضرورة السرية في بعض تفاصيل تحضير العقود والتأشيرات. لكنها تلتحق في نهاية الأمر بالشابة في حلم الهجرة الذي أصبح هاجسا ومعيشا يشغَل الجميع. هو قطاع قائم الذات في العقود والتأشيرات والتحويلات المالية بين الأفراد لا يحتاج إلى وكالات ووسطاء قانونيين. عدم هيكلته قانونيا، وحتى مع وجود بعض النصوص، لم يُغلق الباب أمام المواطنين لخلق حلمهم الخاص في الهجرة، ولتعميم الفرصة. لا ينتظر هؤلاء وكالة التعاون الفني أو الوكالات المعهودة. واليوم حين اشتدت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ازدادت جاذبية هذا القطاع، الذي تحوّلَ أيضا في جانب مهم منه إلى قطاع تَحيّل، ضحاياه عادة من خارج هذه المناطق. توسّعَ هذا القطاع أيضا إلى وسائل التواصل الاجتماعي خاصة في التيك توك. فقد تحوّلَ أصحاب حسابات عدّة على هذه المنصة إلى “وكلاء” و”مستشَارين”. عليكَ الاتّصال بهم مباشرة وسيرشدونك إلى كل التفاصيل ويعرضون عليك فرصا عديدة مع أرقام تواصل بأشخاص موجودين في تونس. يعمَل أحد أبناء المنطقة في إيطاليا وينشر فيديوهاته كالعديدبن. عليك فقط أن تتّبِعَ هاشتاغ إيطاليا، تونس، الشابة، المهدية (بأحرف عربية أو لاتينية بالدارجة التونسية) تنضح الفيديوهات بالفحولة والقوة وضرورة “الصدمة” والخروج ومواجهة التعب في حقول جنوب إيطاليا. بأسلوبهم التلقيني والناصح يرشدونك حتى تصبح “مهاجرا” بما أنهم يمثّلون نموذجا لنجاح استثنائي وإعجازي بعد نجاتهم من الموت الاجتماعي والاقتصادي “بذراعهم”.

الهجرة النظامية اليوم في الشابة، تتم بالإدارة والأمن وعبرها أو بدونها بفضل شبكة علاقات من التبادل المصلحي، فيها شيء من التضامن أحيانا، لكن الأهم هو ما نلحظه في  القصص والأحاديث المتداولة يوميا. فالكل يعرف من يمكن أن يساعدك في الحصول على تأشيرة أو عقد عمل في بلد أوروبي أو خليجي.

أصبحت الهجرة النظامية فُرصة متاحة أكثر في مدينة الشابة لمن لهم روابط اجتماعية قديمة تسمح لهم بالاستفادة من هذه الفرصة. أما من لا سبق له في توريد العملة الأجنبية، سواء كطرف مرسل أو مستفيد أو وسيط، فسيسعى إلى أن يحصل على عقد بشتى الطرق، وفي بعض الأحيان مهما كان المبلغ الذي يُجمَع على فترات طويلة نسبيا. في حالة عدم النجاح يبقى خيار القفز في أحد المراكب غير النظامية ضروريا، وهو يكاد يكون متاحا كل يوم.

تُغذي الهجرة النظامية، سواء كانت قصة نجاح أو فشل، حلم الهجرة غير النظامية نفسه. المهم دائما أن تَعبُرَ إلى حيث تتصور أن هناك مكانا أفضل لك. فبعض تلاميذ معهد أبو القاسم الشابي على سبيل المثال، ذكورا وإناثا، لا يريدون حتى الحصول على الباكالوريا أو يحصلون عليها فقط للضرورة. يفكّرون ويريدون فقط الهجرة، وخاصة في تقليد ركوب البحر الذي أصبح يمثّل رحلة استعراضية في بعض الأحيان تُثِير فيهم رغبة التمرد على كل شيء، حتى ولو كان لهم أقارب خارج البلاد. حديث الهجرة والتفكير فيها يَفرِض نفسه بينهم، فلا شيء يشدَهم للطّرق التي عَبرَهَا أسلافهم وآبائهم عبر التعليم والشهادة والعمل. في قصص التلاميذ، ثمة أساتذة مؤثرين، بفضل الوقت الذي يمنحونه للتلاميذ للحديث عن الهجرة ومواضيع أخرى تفتح أبوابا في شخصيات العديد ممن تخلى عن الحرقة، ليواصل تعليمه. لكن رغم ذلك، لا شيء يضمن ألا يحمل التيار الجارف للعبور تلميذا أو تلميذة، ممن عُزل بسبب نظرات المحيط له أو بسبب الحاجة المادية. ولأن لهم “خيوطهم” هنا فيمكن لهم تنظيمها لوحدهم. في إحدى الرحلات التي نظمها “ر.ع”، قام بسرقة محرّك قارب والده، فيما تكفل بقية أصدقائه بإيجاد قارب مناسب في انتظار ساعة الصفر للانطلاق من الغضابنة (قرية ساحلية قريبة من مدينة الشابة). وفعلا نجحوا في الوصول إلى لمبدوزا لكنهم رُحّلوا لاحقا. ولا يزال “ر.ع” يفكّر جديا في الحرقة مرة أخرى.

إن لم يكن لهؤلاء فرصة تنظيم رحلة مماثلة، فلن يُفلتوا من القصف المُركّز جدا لفيديوهات التيك توك عن الحرقة. لا يَخلو هذا الموقع من أرقام اتصال وتواصل بقاطنين في المدينة أو بجوارها. وتعاضدهم في ذلك فيديوهات القاطنين هناك ممن يستعرضون عملهم اليومي. تَزخر الفيديوهات بالحديث عن العمل الفلاحي والمراقبة الأمنية وكيف تتجنّبها بعد أن تصل. وعادة تُرافق الفيديوهات أغاني حزينة من الفن الشعبي التونسي أو “الرّاي الجزائري”. وعبرها، حتى يمكن أن تصبح مهاجرا وتنجح في ذلك، يجب أن تكون “رجلا”، “لا يخبر لُمَِيمة” (الأم)، ولا تقبل على نفسك أن تمدّ يدك إلى أختك أو أمك أو أن تقبع في المقهى، في بلاد يُشار إليها عادة بالمَبني للمجهول، كبلاد “ماعادش تعيَش” (غير صالحة للعيش). لو قيل “تونس” في هذا المحتوى فأنت تُحيل على فضاء من الوجع والألم والكآبة القاسية على الأرواح والنفوس والمصائر. تُحيل على بلد لا يشدّك إليه شيء سوى “لمّيمة” (الأم) أو بعض الذكريات التي تُثير الحنين. رغم أن السياق دائما يضغط على الجميع لكن تَجدهم جميعا يُفلِتون منه بشكل أو بآخر بحيث يقبلونه كما هو لكن لا يخضعون له، ويَخلُقون قواعدهم وقيمهم وحتى خطابهم الأخلاقي المناسب.

التجربة الهجرية تكون عابرة للحدود المعهودة للبنى والقواعد الاجتماعية والقانونية القديمة، التي ترتبط بترتيبات السّلطة في محاولة ضبطها. هي تنضح بقيمها في تَشكيل الذوات التي تبحث عن الإنقاذ، وتُريد أن يكون لها وزن وفعل في محيط يحاكمهم في كل وقت.

تستفيد الهجرة غير النظامية من خِبرة المدينة في ركوب البحر. يعرف أهاليها أوقات “الطْياب” (هدوء البحر) و”النوْ” (الأنواء)، وتسميَات الرّيَاح واتجاهاتها، يشيرون ببوصلة ذهنية اعتادوا عليها إلى لامبادوزا كالطيور المهاجرة. إن لم يكن البحر يرزقهم أو حقول الزياتين فيمكن في أقل الأحوال أن يشقّوا البحر ليجمعوا ما أمكن لاقتناء أو بناء بيت. ولا تقتصر الهجرة على أبناء الشابة بل تشمل أيضا أفارقة جنوب الصحراء وقادمين من الجنوب أو العاصمة أو ولايات قفصة وسيدي بوزيد. بل إن الحرّاق نفسه لم يعد بالضرورة من أبناء المدينة، لأن خِبرَة تنظيم الرحلات اكتسبها آخرون من خارجها ونافسوا فيها أهل المدينة.

المُنظّمون يتجهّزون بأكثر التطبيقات تطوّرًا، وهي متاحة للجميع ويمكن تحميلها على الهواتف الذكية. بالاستعانة بـwindfinder، windy app أو البوصلة الإلكترونية، بالإضافة إلى polaris navigation و Maps.me  وgoogle maps يمكن تحديد الاتجاهات والمسافة وسرعة الرياح، حيث يمكن لمتدرّب حديث على قيادة القارب أن يقود رحلة الحرقة بسهولة. وهو أمر بصدد التكّرر، حيث تتمّ معظم الرحلات دون “رايس” (قبطان) يَشتغل مع المنظّمين، بل يكفي أن يُعهَد للحارقين أنفسهم بهذه المهمة. ولا يتوانى هؤلاء عن نشر فيديوهاتهم وهم يُمسِكون بمقبض المحرك، مع أصدقائهم الذين يُشرفون على المحروقات وتغيير الحاويات البلاستيكية كلما أوشك البنزين أن ينفذ.

يتمّ التحضير لرحلة الحرقة في دوائر ضيقة، تتأقلم مع الرقابة الأمنية أو تستفيد منها. عادة يوجد شخص واحد يُنسّق بين الجميع، وكلمته تكون العُليا في كل التفاصيل. وهو الحرَاق الذي يختم كل شيء بصعود الحارقين إلى المركب ليلا. تمتدّ بعض الشبكات بين العاصمة والحمّامات والمهدية وصفاقس وصولا إلى الجنوب، وتؤدّي معظمها إلى الشابة، خصوصا في الحالات التي تابعتها طيلة الصيف في هذه المدينة، التي يُخفِي فيها الاصطياف أفرادًا قلقين يمرّون بالضحك والأكل والمقاهي مرورا يمكن أن يكون الأخير.

يَعتمد الحرّاق على وسطاء قارّين عادة ممن تقاسموا تجربة تنظيم رحلات عدة، ويعرفون محيطهم جيّدا. يمتد تنظيم الرحلة على متوسّط مدّة تُقدّر بـأسبوعين على الأقل. يتطلب تجهيز القارب، الذي يتم توفيره من مصادر عدّة سواء بشرائه من أصحابه، أو يتم إصلاحه، أو يكون القوارب التي تمّ إيقافها سابقا. أما المحرّك فله سوقه الخاص، إما مُستعمل من صاحبه والبعض من أمنيين حسب المتداول في أوساط الحارقين. أما الجديد فيتم تحضيره في مرحلة “روداج” (بداية استعمال) في البحر أو في براميل مليئة بالماء.

في رحلة الحرقة التي اطلعت عليها، حسب الشهادات، تتطّلب المسافة المقطوعة بين الشابة ولامبادوزا، بمحرك 14 حصانا من نوع SUZUKI، أربع صفائح بلاستيكية من البنزين. وكلفة الرّحلة تصل إلى 20 ألف دينار تقريبا لمركب يضم 23 حارقا، يبلغ طوله سبعة أمتار و30 سنتمترا. يتمّ تنظيمها خلال أسبوعين وتنتهي الترتيبات الأخيرة في ثلاثة أيام لجمع الحارقين في الـ”قونة”، في مكان يَبعد عن الشابة مسافة 5 كيلومترات. الحرقة من مدينة الشابة أكثر جاذبية من غيرها. فالرواية المُتداولَة حولها في أوساط الشباب الحارقين، حتى من العاصمة ممن تسنى لي مجالستهم منذ مدة قبل كتابة البورتريه، هي أن الرحلة من الشابة “مضمونة”. لذلك فهي أكثر كلفة من غيرها مقارنة بالسوق الوطني للهجرة غير النظامية. يصل المقابل تقريبا إلى حدود 7000 دينار تونسي (2100 أورو تقريبا) إنطلاقا من “مدينة العبور”.

الحرّاقة من مجموعة التنظيم والتنفيذ في الميدان لا يعيشون كغيرهم. هم يعيشون في خطر دائم، علما أن عددا منهم يعتاشون منها كخيار وحيد أو مهم إلى جانب أعمال أخرى محدودة العوائد المادية. “تكسب منها” كما يقول أحدهم، “لكن لا تعيش منها دائما”. هذه العبارة سمعتها من الكثيرين مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. أموالهم غير مرئية، ويحرصون على عدم إظهارها. كما أن وسائلهم في التخفي، بتغيير أسمائهم في أوساط الناشطين في المجال، تٌعطيهم مساحة من الـanonymat، خاصة إذا لم يكونوا من أبناء المنطقة، وتُكسِبهم صورة مُضخَمة كأشخاص قادرين على كل شيء ومستفيدين في كل الأحوال. لعلهم، بنظر القانون والأخلاق، مجرمون محليون وتجار بشر دوليون ووحوش بشرية خارج دائرة الإنسانية. لكن الدائرة، كلما اختلَطتَ بأوساط الحرقة  والحارقين، تجد أن حدودها مختلفة. يقول “فريد” (اسم يطلقه عليه الحراقة وليس اسمه الحقيقي): “والله حلال، حتى أمام الله…حين يتصل بك أب أو أم عن إبنه لتساعده على الحرقة، أو يُحدّثك أحدهم عن الصعوبات التي يمر بها…تعرف أنه عندما لا يكون هناك حلّ، فإن القوانين تُلغى”. هذا الخطاب الأخلاقي التبريري وحتى الديني لما يقومون به مُتداوَل وليس استثناء. وهو يَختلط بالتحدي والكره لكل أشكال السلطة. يضيف فريد: “فحتى صاحب العائلة يبحث عن طريق للمغادرة، إن كنت تعمل أو لا تعمل فلن تُتركَ في حالك…والأمن الذي يعتقلنا هو شريك معنا أيضا في مرات كثيرة…ويستفيد معنا”. يَتماهَى المهاجر مع ما يقوله مُنظّم عملية الهجرة، بل هو بطل أقرب إليه من المجتمع والدولة، ويستحق “رحمة الوالدين” (الدعاء لوالديه بالرحمة)، يقول “ع.ع” الذي وصل إلى لامبادوزا في شهر جويلية، وشاركني تفاصيل رحلته في لقاء فيسبوكي بأن الحرّاق (منظم الرحلة) كان في اللحظة المناسبة معهم أمام الموت فسهّل لهم الحياة الجديدة، فيصبح كل ذلك له معنى إذا ما نجحوا في الوصول.

العابرون والمنظمون وراكبو البحر يُشكّلون وحدة نفسية وسوسيولوجية أكثر لحمة من بقية المجتمع. هم في مهمَّة إنقاذ ومعركة لا رجوع فيها ضد الموت، ذاك الذي صنعته السلطة والدولة، وأنتجه المجتمع بالتهميش والحُقرَة. لكن لديهم أيضا شعور عميق بالذنب، ليس لمخالفة القانون بل للقبول بالخطر أو تعريض غيرهم للخطر. لكنه بالنسبة إليهم أيضا يبقى أفضل من الخضوع للواقع. يقول “فريد”: “أنا لا أنسى من يركبون معي…فلدي شعور أنهم سيموتون أو يحيون على يدي” ولعل بعضهم، لا أعلم، يعيشون بوجوه من ماتوا.

خلقَت الهجرة النظامية وغير النظامية فئات مستفيدة تكاد تكون مستقلة. فإلى جانب اكتساب موارد مالية تسمح ببعض الاستقلالية عن البقية، تبدو الشخصية الفردية والقيم المشتركة حادة ورافضة للمحيط وما يحصل، وكأن الصلة بالبلد وبقية المجتمع قسرية بحكم الانتماء لكنها شفافة ومتوترة كأنها تحمل إثم عيشهم خارجها. تسبّبت تجربة العبور، التي تبدو في مجملها قسرية وضرورية، في نوع من تشيئة الأفراد وانغلاقهم على أنفسهم. ما سمح، حسب الشهادات والملاحظات الميدانية، في ظهور ممارسات غير إنسانية خاصة في ما بعد الحرقة حيث تَكوَّنَ اقتصاد يستهلك كل شيء لصالح المال.

اقتصاد ما بعد الحرقة

ما بَعد الحرقة قطاع هامشي مستقلّ بذاته، يُمكن للعديدين الاستفادة منه مباشرة وبطريقة غير مباشرة. لعلنا جميعا خلال هوس الـ”سكرولينغ” (scrolling) على التيكتوك اعترضتنا فيديوهات تتحدث عن إنقاذ مراكب حارقين؛ فيديوهات يُبادر خلالها الصيادون في المراكب الكبيرة إلى اقتراح جرّ مركب الحارقين إلى وجهته أو الاتصال بحرس الحدود الإيطالي.

لكن لو شاهدتم فيديوهات حارقين ممن وصلوا فالقصّة مختلفة. يقول المتحدّث، شاب ثلاثيني أصيل الجنوب، أن الصيادين كانوا فقط يريدون الاستيلاء على المحرّك. بعد التثبت من مصادر أخرى محلية، وبالتّقاطع مع شهادات مباشرة مع حارقين وصلوا إلى لامبدوزا، ثمة فعلا “قرصَنة” بحرية تقطع الطرق البحرية للحرقة وتستغل وضعية المراكب وحالة الطقس للتدخل والضغط على الحارقين لمساعدتهم بمقابل مادي أو تسليم المحرّك.

سُوق بيع المحركات خِلسة مزدهر خلال الصيف. يبدأ السوق بهرسلة مراكب الصيادين لمراكب حرقة التونسيين وغير التونسيين. في رواية “ع.ع” عرضَ مركب من ميناء المهدية المساعدة مقابل المال أو هواتفهم والمحرك، التي يمكن في نهاية الأمر أخذها من المركب عندما يبدأ بالغرق. لكن إصرار الحارقين على عدم تسليم أمتعتهم في انتظار الحرس البحري الإيطالي أجبرهم على الذهاب وتركهم لحال سبيلهم. ومثلما هو متداول في أوساط الحرقة يُشَار دائما إلى أن حرس الحدود يقوم بتسليم إحداثيات المراكب الغارقة بمحركاتها لغوّاص يعمل على استخراجها وبيعها لاحقا لتقاسم ثمنها بينهم جميعا.

أيضا في إحدى القصص الكثيرة التي أسعفتني بها جلسات المقاهي، قام أحد صغار الصيادين ببيع محرّك yamaha من الطراز الجديد بـ 8000 دينار، كان مُثبّتا في مركب حارقين من إفريقيا جنوب الصحراء انطلق من صفاقس. وهو ثمن ممتاز حسب المتداول. قطاع المحركات المستعملة لا يمنع ازدهار بيع المحركات الجديدة، التي انتشرت صفحات الترويج لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة التيك توك.

وهذا الصياد الصغير نفسه بعد إحدى ليالي الصيد الطويلة جمع 60 إطارا هوائيا (chambre à air ) باعهم بـ 2 دينار مقابل القطعة الواحدة. استفاد هذا الصيّاد من فشل المركب في الوصول إلى السواحل الإيطالية وجنوحه إلى المياه القريبة من الشابة بعد أن أقنع المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بأن الوصول أصبح مستحيلا. وساعدهم على النزول إلى البر في مكان بعيد نسبيا. كما أن نفس هذه المواد يتم جمعها طافية على وجه البحر أو من الشواطئ.

كل ما في الحرقة قابل للبيع وإعادة البيع. فحتى المحروقات إما تُباع أو تصبح مصدرا مجانيا لتزويد الدراجات النارية المنتشرة بكثرة هنا. أصبح الحارقون أرقاما في تجارة تزدهر يعتاش عليها غيرهم. تشيئتهم مقدمة لما حصل مع بعضهم من مواقف غير إنسانية، صرّح أحدهم أنها موجعة جدا، خاصة عندما ساومَهم الصيادون مقابل أموالهم وهواتفهم لمرافقتهم وحمايتهم من الأمواج العاتية التي هددت مركبهم الصغير. لكنهم تركوهم رغم توسلات ومشاهد النساء والأطفال على المركب خوفا من أمواج “النو” المتزايدة في فيديو سجّله أحد الحارقين على المركب.

قصص اليوم الأخير: العبور على لسان الحارقين

من بين 23 حارقا على متن “شقف” الـ7 أمتار و30 سنتمترا كان هناك عائلة متكونة من فتاتين بعمر الـ 13 و 14 سنة وطفل5 سنوات مع الأم والأب. أمّ أخرى مطلّقة تركت أولادها خلفها لتجتاز البحر وحدها والثالثة رفقة ابنتها ذات التسع سنوات. اجتمع العدد في الـ”قونة” (مكان آمن) على امتداد ثلاثة أيام وصولا إلى ساعات قليلة قبل لحظة الصفر. مرّت الساعات ثقيلة على من انتظر طويلا خاصة أن الخِربَة (منزل متهالك) التي اجتمعوا فيها قريبة من بعض المساكن الريفية. كلّمَا مرّ بهم قطيع ماشية أو مارة، التزموا الصمت. امتنعوا عن التدخين فيمكن للريح أن تنقل الرائحة إلى من يقطنون قريبا هناك. خلال جلسة جمعَت بين فتاة أصيلة الجنوب وآخرين من مناطق مختلفة من المهدية تقاسموا أسبابهم وقصصهم و”شهائدهم المكدّسة” من دون جدوى. لكن كلما اقتربت الساعة الصفر ازداد الخوف وحرص المنظّمون على الصمت وعدم الإتيان بأي حركة يمكن أن تثير الريبة. في اليوم الأخير، وقف الجميع وراء باب الخربة جزعًا من صوت سيارة قريبة. اعتقد الحارِقُون أن القصة قد انتهت وأن هناك من أعلم السلطات عنهم لكن تبيّن أنها سيارة تابعة للمنظمين قد أوصلت آخر الحارقين.

ليلة الخروج إلى البحر، تحرّك الجميع مشيا لمدة نصف ساعة في التراب والرمل. أثقلتهم بعض الأدباش وصفائح البنزين البلاستيكية. على لسان أحد الحارقين قال: الصغار تَعبُوا وهناك من ندم قبل الوصول إلى الماء. عندما وصلنا وجدنا “شْقف” الحديد (مركب صغير) أخرجته “السكادرة” (خفر السواحل) وألقوا القبض على راكبِيه من أفارقة جنوب الصحراء. اختبأ الجميع تحته حتى لا يراهم الصيادون إلى أن يصل الشقف الذي سيُقلهم، ومعه مركب آخر مهمته أن يفتح الطريق لهم إلى البحر “الحي” في المياه المفتوحة… ركب الجميع كل منهم في مكان عليه الالتزام به. أحصى الحارقون عدد صفائح البنزين. ثمة صفيحة ناقصة. تكفّل “الرايس” (القبطان) المُتدرب بإيجادها وعاد فعلا ليجدها. تعب من حمل الصفيحة وتركَهَا وراءه أثناء تحركهم من القونة في اتجاه البحر. وبعد رجوعه للشقف ركب الشاب و”قصدنا ربي على الساعة العاشرة ليلا”. تقدمنا بسرعة خفيفة في” الواد”. وكلما علقَ المركب في الرمل قفز عدد منهم لتحريره دفعا بالقوة من “الشحوط” (الكلس المائي). تحرّك معهم المنظّم مدة ثلاث ساعات. وعندما وصلوا إلى المياه المفتوحة اطمأن على الحمولة موصيا ببقاء كل منهم في محلّه من دون حركة. وودعهم قائلا: “ربي معاكم”.. مرّ الليل ثقيلا بالخوف في البداية لكن بعد 4 ساعات تحرر الجميع من شعور الخوف. تناولوا ما حملوه من طعام وماء لمدة ساعات. إلا المدخنين حرموا من سجائرهم في موقف احتاجوا فيه لسيجارة تخفف وطأة الألم والخوف. والسبب كان انسكاب البنزين على عدد منهم. كلما فرغت صفيحة استبدلُوهَا بأخرى تدريجيا. حسابيا مثلما أكد لي: “لو تقدمنا مسافة 11 ساعة نَصل إلى للمياه الإيطالية الـ 10 صباحا. فبعدها  يتحرك الـ”نو” (الأنواء). كان من المفترض أنه بعد 12 ساعة يجب أن تكون “السكادرة الإيطالية” (الحرس الإيطالي) بجانبهم. لكن بما أن حمولة الشقف كانت ثقيلة جدا وأجهدت قوة المحرك، فاستهلكت ساعة أخرى من الوقت. رغم ذلك كان طلوع الشمس ورؤية “السكادرة الإيطالية” تقوم بإنقاذ عدة مراكب أخرى زرع الاطمئنان لدى الجميع رغم أن الأمواج كانت قوية جدا على مركب صغير جدا”.

حارق آخر في المركب نفسه قال إن الغربة بدأت عندما بلّغَنَا المُنظم بالخروج كل ثلاثة أشخاص مع بعضهم. لم نكن نقدر على النظر في وجوه بعضنا البعض. تحرّكنَا وكل منا تملؤه الرهبة ويهزّه الخوف. لكن الغربة ازدادت أكثر، كما يقول، عندما اعترضهم مركب صيد من ميناء المهدية في عرض البحر. كان البحارة بأسماء “كمال” و”سمير” يطلبون تسليم المحرّك بربطه بمركبهم. أخذوا أموالا من الحارقين بعد الوعد بمرافقتهم لتخفيف الأمواج القوية التي كانت تضرب المركب الصغير. لكنهم تدريجيا تركوهم لحالهم بعد أن عجزوا عن أخذ المحرَك. أكدت الشهادات أن ما حصل لهم مع الصيادين ممارسة متكررة، إذ أنّ مخيم لمبدوزا ردّد نفس القصص عمن وعدهم وأخلف وتركهم لمصيرهم رغم أن بينهم أطفالا ونساء لا يستطيعون السباحة. غُربتهم التي شعروا بها جعلتهم يتوعدون بعد عودتهم بالانتقام منهم. رغم ذلك يضعون اليوم نصب أعينهم مصيرهم الجديد ومستقبلهم القادم في بلد يفرض قوانينه وقواعده. أحدهم يريد أن يواصل شغف التصوير والفن ومستعد للعمل في أيّ عمل يضمن له دخلا محترما له ولعائلته. والآخر يعيش نفس الآمال لكنه يعيش أزمة نفسية وجسدية أثقلت عليه طويلا قبل الخروج من بلده. أزمة رفض أن يُصرّحَ بها بالتفصيل لكنه يرجو أن يتجاوزها مستقبلا.

ملاحظات ختامية: العبور شاهدا على الفشل

العبور حركة لا تستثني أحدا، وتعيشها الشابة بكل ما فيها، حيث تتحدّد مصائر أهاليها والمارين بها على حد السواء، بين أن تصل إلى شيئ من الحلم أو الموت غرقا. وهو ما جعل من المدينة فضاءً متحركا نتلمس توتره وارتباكه وتغيراته في الأفراد، نساء ورجالا، صغارا وكبارا، عاطلين عن العمل وحتى ميسوري الحال، تونسيين أو مارين جاؤوا من عمق القارة الإفريقية. الجميع يبحث له عن هامش يجد فيه نفسه لا ما فُرض عليه. عندما حدثني الشاب العشريني، أصيل ولاية مدنين، عن تجربته، يكاد يكون قد قطع مع كل شيء منتقدا له وفي نفس الوقت محاولا إعادة ترتيب علاقاته مع عائلته وولايته وأقرانه ووطنه بطرق أخرى وتصورات أخرى مُحَدَّدُها تجربة العبور في البحر تحت تهديد الموت الذي يهرب منه والموت الذي طاف بمركبهم خلال عملية الحرقة، على أمل أن يكون في روما وميلانو شيء يسمح له أن يجد نفسه، حيث لا يخاف أن يفقدها. كذلك مدينة الشابة التي انطلق منها، وصورتها لديه فضاء عبور، أقرب إلى إيطاليا منها إلى الوطن الذي ُيفترض أن يجمعها به. فهي بوابة الأمل بالنسبة له.

انقضى الصيف، ولم أكن من بين المصطافين، ولم أقترب من ماء البحر إلا في قارب بحثا عن عابرين أو أثرهم بعد أن انتهى بهم الأمر على البر الذي لفظهم. ثمة مشاهد صادمة لا تحتملها نفس بشرية، لكن كان الأكثر وجعا هو أثر الحياة المنتهية لا الأجساد الميتة. حاجيات وملابس لحياة أرادت أن تعبر الموت لتُبعث من جديد، لكنها انتهت ضحية السياسات والتبضيع الذي جعل منهم أرقاما لأموال يُكدسها البعض أو يتداولها ليعيد تدويرها واستهلاكها في منظومة لا إنسانية فيها، سوى تحدي أن تعبر بذاتك لعلك تقتلع فرصة الفعل والحضور بكرامة وحرية. بورتريه العبور في الشابة Caput Transito جمع بين مدنين والعاصمة ونيجيريا والسنغال وبين المسلم والمسيحي والعاطل عن العمل والموظف، في ظاهرة الهجرة القديمة قِدَم البشرية التي كانت تصنع أزمنة وأمكنة جديدة كلما احتاج الأفراد والجماعات لذلك، لكنها أصبحت عبورا قسريا لا ضمانات فيه سوى بعض الأمل في طمأنينة ذوات على بعض من مصير يكون فيه العيش الإنساني الكريم ممكنا.

للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF


[1] تقدير السكان في غرة جانفي 2023، المعهد الوطني للإحصاء، 27/07/2023، ص19، تاريخ الإطلاع: 07/08/2023. الرابط: https://bit.ly/47sWBk6

[2]Victor Piché, Les théories migratoires : vers un nouveau paradigme à la croisée de l’économie politique, du cosmopolitisme et des droits des migrants et des migrantes, Population (French Edition) 68(1):153, june 2013, consulté le 27/07/2023. DOI:10.3917/popu.1301.0153 

[3]Lois Bastide, Habiter le transnational, Espace, travail et migration entre Java, Kuala Lumpur et Singapour, ENS Éditions, Lyon, 2015. Lien: https://bit.ly/3Or0Io4

[4] Op. Cite.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التنقل ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني