هي حرب ضدّ المدنيين. هذا ما يجب أن تسمّى حرب إسرائيل في غزة مهما أرادت هي وحلفاؤها تسميتها، حرب ضدّهم وضدّ كل ما يحتاجونه ليكملوا حياتهم: بيوتهم، مستشفياتهم، دور عبادتهم، أهلهم، أولادهم، جيرانهم، صحافيوهم، ذكرياتهم، الحي، الدكّان، المستوصف، الملعب، المدرسة، الجامعة… كلّ شيء يرتبط بهم هم، تُدمّره إسرائيل فكيف لا تكون هذه حربًا ضدّ المدنيين. وفي لبنان، وبنتيجة توازن الرعب، تحصل الجريمة على نطاق أصغر، وإن حصدتْ عددًا من المدنيين مستهدفة منهم بشكل خاص، فيما يشكل جريمة حرب موثقة، الصحافيين ومرافقًا لهم.
وإذا ما استعدنا الأسماء والهويّات، سنجد أنّها قتلت مسنّات ومسنّين يحفظون ذاكرة إجرامها جيّدًا ويروونها لأبنائهم وأحفادهم، مسنّين قرروا البقاء في بيوتهم مواجهين عدوانها مع كامل معرفتهم بما هي قادرة عليه وأصرّوا على عيش حياتهم حتى آخرها كما يريدون هم وليس كما تريد إسرائيل. قرّرت هي طريقة موتهم وهم قرّروا طريقة عيش لحظاتهم الأخيرة يفعلون فيها ما يحبّون. يشربون القهوة على الشرفة كما كان يفعل الزوجان خليل علي وزباد العاكوم في شبعا أو نهاد موسى في مارون الراس أو مختار الطيبة حسين منصور رعاني في حولا. أو يرافقن حفيداتهنّ كما كانت تفعل الحاجة لائقة سرحان في حديقة منزلها في كفركلا والحاجة سميرة أيوب في عيناتا. وهؤلاء قرّروا البقاء ليرووا لمن سيعودون بعد الحرب ما الذي فعلته إسرائيل بأرضهم وناسهم. لكلّ ذلك قتلتهم. وظنّت أنّها بقتلهم تقتل الرواية لكن الرواية انتقلت ولن ينساها أحد.
هذه الرواية هي التي توجّه الصحافيون والمصوّرون إلى الجنوب لينقلوها إلينا، فقتلتهم أيضًا، هم الشهود، وكم تكره إسرائيل الشهود، وهم العين التي ترى وتوثّق إجرامها. وكم تكره إسرائيل العيون التي تراها. وكما قتلت أكثر من مائة صحافيّ في غزة منذ بداية العدوان، قتلت في لبنان المصوّر الصحافي مع وكالة “رويترز” عصام عبد الله في غارة استهدفت تجمّعًا للصحافيين في علما الشعب 13 تشرين الأول. وفي طير حرفا وتحديدًا في 21 تشرين الثاني قتلت المراسلة الصحافية فرح عمر والمصوّر ربيع معماري من قناة “الميادين” ومتعاونًا محلّيًا اسمه حسين عقيل كان صلة الوصل بينهما وبين الأرض والناس هناك.
وقد خلصت تحقيقات أجرتها 4 جهات حقوقية وإعلامية هي “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”، ووكالتا “رويترز” و”أ ف ب” في غارة علما الشعب، إلى أنّها كانت هجومًا إسرائيليًا متعمّدًا ضدّ مدنيين. وأوضحت أنّ المجموعة المستهدفة كانت تُبرز هويّتها الصحافية وبالتالي الجيش الإسرائيلي كان يعلم أنّها مجموعة مدنيّين لكنه هاجمهم على أي حال. وأصابت الغارة أيضًا الزميلات والزملاء كريستينا عاصي (التي بُترت قدمها ولا تزال تخضع لعلاج صعب في قدمها الأخرى) وديلان كولينز من “أ ف ب” وإيلي براخيا (الذي لا يزال يعالج أيضًا من إصابة بالغة في كتفه) وكارمن جوخدار من “الجزيرة” وماهر نزيه وثائر السوداني من “رويترز”.
وجاء قتل إسرائيل لفرح وربيع وحسين بعد حملة تحريض إسرائيلية ضدّ “الميادين” واتّهامها بدعم حزب الله الذي تعتبره إسرائيل “منظمة إرهابية” وببثّ الدعاية ضدّها، وبالتالي شيطنة صحافييها وتحويلهم إلى أهداف مشروعة لحربها ضدّ غزة ولبنان. فقد قال وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كارعي إنّ “ما تبثه قناة الميادين وتقاريرها يخدم التنظيمات الإرهابية الخسيسة، وقد حان الوقت لمحاسبتها”. فيما قال وزير الدفاع يوآف غالانت إن “إسرائيل لن تسمح بالدعاية الخطيرة لمحطّة الميادين التي تحاول خلال الحرب الإضرار بمصالحنا الأمنية وخدمة أهداف العدو”. ووصف صحافيي “الميادين” بأنّهم “داعمو الإرهاب الذين يتظاهرون بأنهم صحافيون، في حين أنّ هدفهم شيء واحد: الإضرار بأمن دولة إسرائيل ومواطنيها”.
وهذا النهج اعتمدته إسرائيل أيضًا بعد 7 أكتوبر، حين سوّقت لرواية أنّ صحافيين رافقوا المقاومين خلال عملية “طوفان الأقصى” وبالتالي فهم “لا يختلفون عن الإرهابيين وعقوبتهم واحدة” بحسب تعبير الوزير الإسرائيلي بيني غانتس. ويتبدّى من ذلك أنّ إسرائيل عمدت من خلال ذلك إلى تحوير أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي الذي يقوم على التفريق بين المدنيين والمقاتلين، بعدما اعتبرت أنّ الانحياز السياسي للمدنيين (من الصحافة أو سواها) للجهة التي تقاتلها تفقدهم حماية القانون الدولي وتجعلُهم أهدافًا مشروعة. وهو أمر غير صحيح في المطلق.
وقد وضعت “هيومن رايتس ووتش” استشهاد فرح وربيع وحسين ضمن نمط من استهداف الصحافيين في الجنوب اللبناني وفي قطاع غزة.
قتلت إسرائيل الأطفال أيضًا، هم الذين انتقلت إليهم الرواية من جدّاتهم وأجدادهم، وهم الذين سيكبرون وتكبر معهم الرواية ليكونوا الذاكرة الجديدة التي تحفظ عدوان إسرائيل. قتلت ثلاث شقيقات هنّ ريماس وتالين، وليان أكبرهنّ تبلغ من العمر 14 عامًا، أثناء انتقالهنّ في السيارة مع جدّتهنّ سميرة أيوب ووالدتهنّ هدى حجازي من عيناتا إلى عيترون في 6 تشرين الثاني. ومع كلّ أدوات الاستطلاع التي بحوزتها لا بدّ أنّ إسرائيل كانت تعلم أنّ في السيارة مدنيين، ولكن ألم نقل إنّها حربٌ ضدّ المدنيين؟ وبالتأكيد كانت تعلم أنّ من صعد في السيارة طفلات بعمر الورد يحملن حقائبهنّ المدرسية، ألم تصوّر ذلك المسيّرة التي كانت تحلّق كامل الوقت فوقهنّ؟ (اعتبر تحقيق لـ “هيومن رايتس ووتش” أنّ الغارة التي استهدفت الطفلات وجدّتهن “غير قانونية ويجب اعتبارها جريمة حرب”).
قتلت إسرائيل كلّ هؤلاء بكلّ ما أوتوا من حياة أرادوا عيشها كلّها. ويحدث أنّنا عرفنا بطريقة أو بأخرى بعضًا ممّا كان يفعلونه قبل قتلهم. دلّت على ذلك ابتساماتهم في الصور، نظراتهم في الفيديوهات التي رأيناها لهم وهم أحياء، أخبارهم التي وصلتنا بعد موتهم.
ماذا كان يفعل الشهداء قبل موتهم؟
ربما كان خليل وزباد يتذكّران حروبًا سابقة وقصص صمود أخرى، أو فترات سلم أعادا فيها بناء بيتهم، ربما ببساطة كانا يكتبان على قصاصة ورق الأغراض التي تنقص البيت ويتجادلان في الأولويّات.
ربما كانت الحاجة لائقة تخبر حفيدتها التي أصيبت معها في الغارة قصصًا من شبابها أو ربّما كانت تخبرها عن عدوان سابق أجبرتْ فيه على النزوح وأنّها هذه المرّة لن تعيد الكرّة أو ببساطة كانت تسألها عمّا تحبّ أن تطبخ لها على الغداء.
ربما كان المختار حسين منصور شاردًا في تلك اللحظة، يفكّر في منعطف صغير في حياته بدّلها إلى الأبد وتمنّى لو يعود إلى الوراء ليغيّره أو ربّما كان يخبر المجتمعين حوله قصصًا من يوميّاته في المخترة أو أيام كان مأمور نفوس، أو ببساطة كان يحكي عن “دقّ طاولة” ربحه قبل لحظات مع جاره “الباب عالباب”. فدى المختار من كانوا على الشرفة بجسده المنهك، صدمه الصاروخ الإسرائيلي ولم ينفجر، مات المختار ونجا من كانوا معه.
عصام عبد الله في اللحظة التي سبقت موته كانيتّكئعلىحافةحجرية يثبّت عليها كاميرته، ثمّة صورة له توثق ذلك. في صورة أخرى تبدو الحافة التي كان عليها وقد هشّمتها القذيفة الإسرائيلية، فكيف بجسّده.. لكاميرته المدمّاة صور كثيرة، في إحداها نراها ملقاة على تراب قبره الرّطب بعد لحظات من مواراته ثرى الخيام، وفي أخرى نراها على مدخل قاعة عُرضت فيها نتائج تحقيقات في مقتله، في الوضعية ذاتها التي كانت عليها بين يدي عصام في لحظاته الأخيرة. في فيديو، نرى عصام من الخلف برفقة كلّ الصحافيين الذين استهدفتهم الغارة، كانوا آمنين، لم يكن من أثر للخوف في حركة أجسادهم. ربما كان عصام في تلك اللحظة يفكّر في تعليق مضحك سيقوله كعادته أو ربما كان ينوي إخبار طرفة أو ربما ببساطة كان صامتًا يحضّر كاميرته ويجتاحه شوق لأحد يتخيّله أمامه في الأفق البعيد.
فرح عمر تبتسم كثيرًا في الصور والفيديوهات، تنظر عميقًا في الكاميرا وكأنّها تنظر إلينا نحن الذين نشاهد الصور بعد موتها، لعلّها كانت تعرف أنّها ستغيب باكرًا فحضّرت لمحبّيها مؤونة في الفقد. لا نشبع من وجهها فيفيديوهاتيجمعهاصديقلها لم يكن قد شبع من وجهها بعد. ونشعر نحن الذين لم نكن نعرف فرح، أنّها تخصّنا، في وجهها ألفة الأصدقاء القدامى الذين يغيبون كلّ العمر ويمكننا تمييزهم بين ألف إنسان.
تلتقط فرح فيديو لربيع معماري وحسين عقيل لتُطمئن والدتها التي ربما بعثت لها قبل لحظات رسالة صوتية تقول لها: “قلبي متل النار، طمّنيني عنّك”. تطلب فرح من ربيع أن يطمئن والدتها فيستجيب مبالغًا قليلًا “هدوء ما في شي، وبعد شوي رح نجيب لحمة ونشوي”، حسين يستجيب بخجل وبابتسامة تملأ المكان: “رواق يا حجّة، ما في شي”. لعلّ الثلاثة ضحكوا كثيرًا على مشروع المشاوي الذي خرج به ربيع ليطمئن الوالدة القلقة، لعلّهم خططوا لمشروع مشابه حين تنتهي الحرب وبدأوا يكتبون أسماء المدعوّين. “لم تنتهِ الحرب لكنّهم عادوا وبكت أمّهاتهم دمعتين ووردة”..
علي شور يندب بناته في التشييع: “ياريماس، ياتالين، ياليان، يابابا“ تخرج “يا بابا” منه كما لم نسمعها من قبل وللأيام التالية لن نسمعها سوى بصوته، حارقة خرجت من قلبه الذي بلغ آخر مراحل الاحتراق قبل الانهيار بقليل، أي تحوّل كلّه إلى رماد ولم يسقط بعد. كان علي منهارًا ولكنه يمشي وراء بناته، يمشي كمن يمشي في نومه. يتوقف علي أحيانًا عن البكاء ويغمض عينيه، ربما تخيّل ريماس وتالين وليان يسرن إلى جانبه في الطريق إلى منزلهنّ، يتشاجرن على سمّاعات الهاتف، تفوز بها تالين وتركض بضع خطوات إلى الأمام لتتصل بصديقتها في بيروت وتحكي بصوت منخفض. ريماس تمسك بساعد والدها وتبدأ جولة أسئلتها المعتادة عن حياته في إفريقيا وهو يجيب من دون تذمّر، تدخل في التفاصيل فيدخل معها وهو يضحك على اهتماماتها الغريبة. ليان تسير معهم بصمت، تتوقف بين الحين والآخر لتقطف بضع زهرات، ينتهي المشوار وهي تحمل باقة سيضعها أحد المشيّعين فوق التراب الذي سيُرمى فوق جسدها الصغير..
الجدة سميرة أيوب تظهر في نهاية فيديو التشييع وهي تجلس على حافة قرب بسطتها في سوق الخميس في بنت جبيل، تبدو كأنّها تركّز في شيء ما أمامها أو ربّما ببساطة تهرب من النظر في الكاميرا، لحظات وتلتفت صوب الكاميرا وتبتسم، ابتسامتها نسمة ربيعية دافئة، وجهها يشبه وجوه الجدّات حين ينظرن إلى أحفادهنّ أو حين يستغرقن في الذكريات، تشبه جارتنا فاطمة التي كانت تطعم الحيّ كلّه من مؤونتها وتوزّع البيض البلدي والابتسامات علينا. تنظر سميرة في الكاميرا كأنّها تقول شيئًا، كأنّها تقول لنا ألّا ننسى قتلانا، ألّا ننسى حياة قصيرة أو مديدة عاشوها، أن نحكي عنهم، أن نروي قصصًا من حياتهم، فهم ماتوا مظلومين وكانوا يريدون العيش أكثر، لا يصمد في أرضه سوى من يريد العيش، لا يصمد من يطلب الموت، يريد أن يبقى ليخبر الحكاية بعد رحيل الطائرات تمامًا كما أراد الصحافيون أن يكونوا شهودًا ويخبروا الحقيقة تحت أزيز الطائرات.
نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.