أصدرت محكمة المطبوعات في بيروت بتاريخ 25 كانون الثاني 2024 ما مجموعه 28 قرارًا تقضي جميعها بردّ عدد مماثل من الإحالات التي تقدّمت بها هيئة الإشراف على الانتخابات في إطار مراقبتها لحملة الانتخابات النيابية الحاصلة في 2022 ضدّ عدد من المواقع الإلكترونيّة. وقد عادتْ المحكمة وأصدرت 4 أحكامًا أخرى انتهتْ إلى النتيجة نفسها بتاريخ 6 شباط 2024. وقد تمّ ردّ هذه الادّعاءات ضد المواقع المعنية في مجمل الحالات شكلا وتاليا من دون أي تدقيق في المخالفات المنسوبة إليها. وقد استندت المحكمة لتبرير قرارات الردّ إلى السبب نفسه وقوامه أنّ “الموقع الإلكتروني والجريدة (الموجّه إليهما الادعاء) لا يتمتّعان بالشخصية المعنويّة فلا تصحّ بالتالي مداعاتهما”. وهكذا، نفدت مجمل الوسائل المعنية بهذه الادّعاءات من المحاسبة بذريعة وجود عيب شكليّ في تحرير الادعاء ضدها، من دون حتى التدقيق في خطورة المخالفة المنسوبة إليها.
وقبل المضي في إبداء الملاحظات بشأن هذه الأحكام، يجدر إبداء 3 ملاحظات تمهيدية في هذا الخصوص وهي الآتية:
أولا، أنّ قانون الانتخابات النيابية أناط بهيئة الإشراف على الانتخابات مهمّة مراقبة مدى التزام وسائل الإعلام بالموجبات القانونية المتعلقة بالإعلام والإعلان والدعاية الانتخابية، إلا إنّه لم يخوّلها صلاحيّة إحالة المخالفات مباشرة إلى المحكمة المختصة (محكمة المطبوعات) إنما فقط إحالتها إلى النيابة العامة سندا للمادة 81 فقرة ب من قانون الانتخابات[1]. وعليه، تبقى صلاحية الادعاء محصورة بيد هذه الأخيرة التي يكون عليها في هذه الحالة التدقيق في الإحالات والتثبت من صحتها. وتأكيدًا على ذلك، فإن النيابة العامة عمدت في صدد إدّعائها أمام محكمة المطبوعات جرّاء إحالات مماثلة وردتْها من هيئة الإشراف في 2018 إلى تحديد هوية صاحب المؤسسة الإعلامية واسم الشركة القانوني والشخص المفوض بالتوقيع عنها مما جنّب محكمة المطبوعات الاصطدام بعيوب شكلية مماثلة.
ثانيا، أنّ الهينة أعلنتْ في تقريرها أن عدد الإحالات إلى النيابة العامة في هذا الخصوص بلغ 592. وقد بينت الهيئة أنّ أكثر المحطات التي طالتها هذه الإحالات هي “إم تي في” (263) و”إل بي سي” (192) و”أو تي في” (131) والمنار (116) والجديد (115)، وأنّ أكثر المخالفات هي إعلام انتخابي مستتر (205)، وإعلان (دعاية) انتخابي مستتر (194)، إساءة (تشهير وقدح وذم) (161)، وأيضا خرق للصّمت الانتخابي (99).
ثالثا، أنّ قانون الانتخابات يُوجب على المحكمة أن تبتّ الادّعاءات الموجّهة إليها خلال مهلة 24 ساعة تبدأ بعد انتهاء 24 ساعة أخرى من تمكين الوسيلة المدعى عليها من إبداء دفاعها. ومردّ تحديد مهل قصيرة على هذا الوجه هو ضمان التصدّي للمخالفات المؤثّرة على العملية الانتخابية بالسّرعة المناسبة وبما يحمي العملية الانتخابية. وما يعزّز ذلك هو أن العقوبات تشمل في حال تكرار المخالفة وقف الوسيلة الإعلامية المخالفة جزئيًّا أو كليًّا عن العمل. إلا أنه على نقيض ما يفرضه القانون من تسريع في بتّ المخالفات، فإن النيابة العامّة أحالتْ الملفات الواردة إليها من هيئة الإشراف على الانتخابات كلّها دفعة واحدة في 16 آب 2022 أي بعد قرابة 3 أشهر من انتهاء الانتخابات وأن محكمة المطبوعات لم تلتزمْ في أيٍّ من الأحكام الصّادرة في هذه المهلة.
الهيئة توثق المخالفات والقضاء يبدّد فرص المساءلة
بمراجعة الأحكام الصّادرة، يظهر أنّ المحكمة تلقي باللائمة على هيئة الإشراف على الانتخابات حيث تقول أن هذه الأخيرة لم “تذكر أي شخص طبيعي أو معنوي ضمن إحالتها مع البيانات اللازمة”، وكأنما غياب هذه المعلومة يتأتى عن تقصير من قبل هيئة الإشراف والأهم كأنه غير قابل للتصحيح.
إلا أن الصحيح أن المسؤول الأول عن العيوب الشكلية في الادعاءات المقدمة إلى المحكمة هي النيابة العامة. فعدا أنها لم تحلْ المخالفات إلى محكمة المطبوعات إلا بعد أشهر من استلام الإحالات من هيئة الإشراف على الانتخابات ومن انتهاء الحملة الانتخابية، فإنها اكتفت بإحالة الملفات كما وردتها من دون القيام بأي تدقيق في هوية الفرقاء أو في مضمون المخالفات المشكو منها. وهي بذلك تصرّفت وكأنها مجرد علبة بريد، مما يتنافى تماما مع مسؤوليّتها في الدفاع عن الحقّ العامّ أو يعكس لامبالاة منها إزاء خطورة المخالفات الانتخابية وتأثيرها على النظام الديمقراطي. وليس أدلّ على ذلك من المادة 81 من قانون الانتخابات التي منحت النيابة العامة صراحة صلاحية ملاحقة “الوسيلة المخالفة أمام محكمة المطبوعات تلقائيًّا أو بناءً على طلب المتضرر”، ما يعني أن النيابة العامة يمكن لها أن تتحرك من تلقاء نفسها الأمر الذي يوجب عليها القيام بكل التحقيقات الضرورية قبل الادّعاء. فإذا كانت النيابة العامة مختصة من دون وجود إحالة من جهة أخرى يصبح من الأولى الاستنتاج أن التحقيق عند وجود إحالة من هيئة الإشراف يصبح أكثر إلحاحا. وما يزيد من فداحة تقصير النيابة العامة هو أن أغلب أصحاب هذه المواقع معروفون ولا يحتاج تحديد هوياتهم إلى كثير من الجهد. يكفي لهذه الغاية أن نلفت النظر إلى أن بعض الادّعاءات التي تمّ ردها كانت موجهة إلى صحيفة اللواء وصحيفة الشرق وصحيفة نداء الوطن أو موقع MTV إلخ…
ويبدو تقصير النيابة العامة أوضح فأوضح على ضوء قرارات الردّ حيث كشفت المحكمة أن “ممثل النيابة العامة الاستئنافية قد ترك أمر البتّ بالمذكرة للمحكمة” وذلك في أعقاب تقدم وكلاء أصحاب الصحف المدّعى عليها بدفوعهم الشكلية. وعليه، وبدل أن تسارع النيابة العامة إلى تصحيح ادّعاءاتها (ولها القيام بذلك لعدم انقضاء مهلة الادعاء) فإنها بدتْ بفعل تقاعسها عن القيام بالتصحيح رغم لفت نظرها إلى الخطأ المرتكب منها وكأنها لا تولي سير الدعوى العامة في هذه القضايا أي اهتمام أو كأنها تتعامل مع الادّعاءات المقدّمة منها على أنّها مجرّد “رفع عتب” لغاية تطبيق القانون ظاهريًّا فقط.
فضلا عن ذلك، فإن قرار المحكمة بدا بمثابة تسليم بالنتائج المتأتية عن تقاعس النيابة العامة وتقاعسها من دون أي مسعى منها لتصحيح مسار هذه الدعاوى. وعليه، اختارت محكمة المطبوعات اتخاذ موقف بردّ تلك الادّعاءات من دون أن تكلف النيابة العامة أو تدعوها إلى تصحيحها تمكينا لها من إحقاق العدالة وضمان نزاهة العملية الانتخابية. وعليه، يظهر أن تقصير النيابة العامة تماهت معه المحكمة من دون أن تقوم بأي مبادرة لتصحيح المسار. الأمر الذي أدى إلى إهدار جهد هيئة الإشراف على الانتخابات في توثيق المخالفات في هذا الخصوص.
إفلات المخالفات الانتخابية من العقاب
ما يزال العدد الأكبر من المخالفات المُحالة إلى محكمة المطبوعات قيد النظر لديها، وإن كان يُخشى أن تلقى المصير نفسه للادعاءات التي تمّ ردها بموجب القرارات خلال الشهر الماضي، على نحو يؤدّي إلى إفلات مجمل المخالفات التي وثّقتها هيئة الإشراف على الانتخابات. وما يزيد من قابلية الأمر للانتقاد هو أن هذا التخوّف يجد ما يبرره في مآل المخالفات الانتخابية التي أحالتها هيئة الإشراف على الانتخابات إلى النيابة العامة في 2018. آنذاك، لم يتردد وزير العدل سليم جريصاتي بالكشف عن جهود سياسية (لم يخف ضلوعه فيها وفق ما وثقته المفكرة القانونية) لإبطال جميع الادعاءات في هذا الشأن أو التخفيف من وطأتها. وكان الوزير جريصاتي وعد بتقديم “حلول عملية” مفادها إما عقد اجتماع من أجل الوصول إلى تسوية ما بين رئيس هيئة الاشراف وممثلي وسائل الإعلام أو قيام وزير العدل نفسه بالتحكيم في تلك الخلافات من أجل تفادي الذهاب إلى القضاء. وعلى الرغم من أن تلك المحاولة لوزير العدل لم تصل إلى نتيجة، فإن الهدف الذي كان حينها تعطيل دور القضاء استباقيا تحقق بعد ذاك بفعل الأزمة القضائية والأزمة الاقتصادية، وها هو يتحقق اليوم بفعل القضاء نفسه من خلال امتناع النيابة العامة عن أداء واجبها أو من خلال اكتفاء محكمة المطبوعات بدور المراقب المجرد عن أي دور فاعل في تصحيح مسار الادعاء.
في المحصلة، لا بد من القول بأن تعاطي النيابة العامة اليوم مع هذه الإحالات قد أدّى إلى تعزيز ثقافة الإفلات من المحاسبة في لبنان وأفقد قانون الانتخابات فعاليّته في ضبطه للعملية الانتخابية. بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من التساؤل حول جدوى المراقبة التي قامت بها هيئة الإشراف على الانتخابات في حال كان مصيرها رد المخالفات لأسباب شكلية من دون محاسبة المخالفين. فقرارات محكمة المطبوعات وموقف النيابة العامة الاستئنافية يؤديان واقعيا إلى تعطيل قانون الانتخابات في شقه المتعلق بصلاحيات هيئة الإشراف ويؤشران إلى وجود خلل كبير في عمل السلطات القضائية التي تقاعست عن القيام بدورها الطبيعي. وهكذا مجددا يصبح تعطيل المرفق القضائي وسيلة من أجل السماح للمخالفين بالتنصل من تحمل مسؤولية أفعالهم، كما يؤدي إلى المساواة بين الجهات التي احترمت القانون وتلك التي خالفته خلال الحملة الانتخابية. لذلك يمكن القول أن قرارات محكمة المطبوعات بعدم احقاقها للعدالة تكون قد ساهمت بشكل إضافي بضرب الطبيعة الديمقراطية للانتخابات وإضعاف منطق المؤسسات عبر إظهار هيئة الإشراف على الانتخابات بمظهر الجهة العاجزة التي لا تبعات قانونية لرقابتها سوى تسجيلها في تقارير لا تتم متابعتها أو البناء عليها من أجل تعزيز عدالة الانتخابات ومصداقيتها.
[1] القانون رقم 44 تاريخ 17 حزيران 2017