مخابرات الجيش اللبناني تحقق أيضاً في قضايا التعبير


2018-12-06    |   

مخابرات الجيش اللبناني تحقق أيضاً في قضايا التعبير

بعيداً عن مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، برز استدعاء ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي لدى مخابرات الجيش. الملفت في هذه الحالات أن مخابرات الجيش تحركت في المناطق فقط، وتحديداً في الشمال والبقاع في الحالتين اللتين تمّ توثيقهما في تموز وأيلول 2018. وهذا الأمر يوحي بأن هذا الجهاز يتوّلى مهام القوى الأمنية في المناطق حيث يبقى تواجد هذه الأخيرة ضعيفاً أو غير كاف. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الممارسات تأتي خارج الصلاحيات المعطاة لمخابرات الجيش، التي تتحوّل في هذه الحالات من قوى مهمتها الحفاظ على الأمن إلى قوى مشاركة في الرقابة على ما ينشر على مواقع التواصل حماية لسمعة هذا الزعيم أو ذاك. لا تحليل جدي حتى الآن للأسباب الكامنة وراء تدخل المخابرات في تلك القضايا. لكن بات من الضروري فهم هذا النهج لاسيما أن ما يجري في غرف التحقيق في تلك المراكز يتميز من حيث قسوته، وتحديدا عند مقارنته بالملاحقات الحاصلة أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية مثلا. وهو ما سنقوم بتبيانه في الحالتين اللتين سنستعرضهما.

الحالتان موضوع التوثيق يعنيان شخصين ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي. بوشرت ملاحقتهما باتصال تلقياه من مخابرات الجيش، الأول في الشمال والثاني في البقاع، تباعا في تموز وأيلول 2018. في الحالتين، طلب منهما الحضور إلى مركز المخابرات في اليوم التالي للاتصال، من دون تبيان سبب الاستدعاء. كلاهما توجه إلى التحقيق دون توكيل محامٍ، إنما بعد إجراء اتصالات هدفت لضمان خروجهما من المركز في اليوم ذاته. عند وصولهما، اكتشفا أنهما مطلوبان للتحقيق بسبب بوستات على “فايسبوك”. الأول لمهاجمته رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل، والثاني لـ”نشر صور للرئيس رفيق الحريري بطريقة تثير النعرات الطائفية”. في الحالة الأولى، تحركت النيابة العامة فيما قرر العميد المسؤول عن المركز التحرك من تلقاء نفسه في الحالة الثانية، وفق ما أكده لنا الناشط. ويُعد هذا التصرف خطيراً إذ أنه يفتح المجال لتكريس ممارسات غير قانونية من شأنها التضييق على حرية التعبير، تحت مظلة “الحفاظ على السلم الأهلي”.

وبالانتقال إلى مجريات التحقيق، بدا واضحاً أن الأسئلة الموجهة كان هدفها خلق جو من الترهيب لدفع الناشطين إلى التوقف عن نشر آرائهما على “فايسبوك”. سألهما المحققون عن الأسباب التي دفعتهما لمهاجمة أطراف معيّنة: “لم تنتقد السياسيين؟ ما عاجبينك السياسيين؟ كيف بتحكي هيك عن وزير خارجيتك”، قبل أن تأخذ الأسئلة منحى شخصياً: “ليه رحت ع أميركا؟ وين تعلمت؟ وين كنت تروح بأميركا؟”، “سألني عن أخواتي البنات. أي هيي الأجمل؟ صار يصرّخ لأن ما رديت”.

في الحالتين، تمّ استخدام العنف تجاه الموقوفين. طمست عينا الأول أثناء التحقيق وضربه أحد المحققين لأن أجوبته لم تعجبه. فيما مُنع الثاني من الجلوس لأكثر من خمس ساعات وعندما حاول الاستلقاء على الحائط، ضربه المحقق بعصا على كتفه لمنعه من ذلك. لم يحصل هؤلاء على الماء والطعام طوال فترة التحقيق. في الحالتين أيضاً، انهال المحققون بوابل من الشتائم والتهديدات عليهما: “ليك ][ لو ما حاكيين فيك ناس تقال كان لازم تتشقف تشقيف”، “رئيس الجمهورية اذا قلك تحط خ** ع راسك بتحط”، “خيّك بيعلم بجامعة عبد الرحيم مراد. شو رأيك إحكي عبد الرحيم مراد ويطير خيّك من الشغل من ورا آرائك السياسية؟”، “ليقوم الحريري ويشوف الحيوانات اللي علمن متلك شو عملوا”، “كيف كاتب بوست عن بشار الأسد؟ يلعن أبوك وحدك. بتبقل حدا يسبلك بيّك. واحد خنزير متلك بيعلمني القانون”. كما أن المحققين منعوا الناشطين من الاتصال بأهلهم. “ع الساعة 4، طلبت إحكي أهلي. صاروا يتمسخروا عليي. قالولي كيف بتحب تحكيهن “facetime” أو “skype”؟ وما خلوني إحكيهن”.

وعمد المحققون إلى الدخول على صفحة “فايسبوك” الخاصة بالناشطين بعدما أجبروهما على إعطائهم كلمات السر. جلب الأول هاتفه إلى المركز فيما أجبر الثاني على الذهاب إلى سيارته للإتيان به. “يا إما بتروح مكلبج عالبيت تجيب تلفونك، يا إما بتدق لحدا يجيب التلفون”. بحثوا ببوستات الأول نحو سنة إلى الوراء وطبعوا بعضها وضمّوها إلى ملف التحقيق. ودخلوا على البريد الإلكتروني للناشط الثاني بالإضافة إلى حسابه على “expedia” (موقع خاص لحجز تذاكر السفر والفنادق). كما أنهم قاموا بتحويله إلى الكشف الفني وحصلوا على داتا الاتصالات الخاصة به. وعادوا ست سنوات إلى الوراء على “فايسبوك” هذا الأخير وسألوه عن كل بوست قام بكتابته.

في الحالة الأولى، بقي الناشط قيد الاحتجاز أكثر من 48 ساعة تنقل خلالها بين مركز المخابرات في الشمال والشرطة العسكرية وأخيراً مخفر الميناء في طرابلس. فيما خرج الناشط الثاني بعد 12 ساعة، أمضاها بين غرفة التحقيق والنظارة. ولم يسمح لهؤلاء بمغادرة مركز التحقيق قبل التوقيع على تعهد. تمّ تخييرهم بين التوقيع أو الاحتجاز. الأول وقع على تعهد بـ”عدم التعرض لرئيس الجمهورية ووزير الخارجية” والثاني بـ”عدم نشر أي شيء مسيء للأحزاب اللبنانية”. واللافت أن المحقق أراد إحضار والد الناشط الثاني إلى المركز لإجباره على التوقيع شخصياً على التعهد بدل إبنه. وهو ما يُعدّ سابقة في هذه الحالات، لاسيما أن الموقوف ليس قاصراً. لكن أمام رفض الموقوف ومن ثمّ تدخل العميد شخصياً في القضية، تراجع المحقق وقبل بالحصول على توقيع الناشط فقط. وطلب من هذا الأخير إقفال صفحته على “فايسبوك” نهائياً و”قلي إذا رجعت فتحت بروفايل جديد، ممنوع تحط أكتر من وردة وصباح الخير”. بالمقابل، محا المحققون جميع البوستات المتعلقة برئيس الجمهورية ووزير الخارجية عن صفحة الأول ولم يكترثوا لانتقاداته لسياسيين آخرين.

خرج الأول بقرار من المحامي العام الاستئنافي في الشمال بعد توقيعه على سند إقامة. وغادر الثاني بقرار من العميد المسؤول عن المركز بعدما منعه المحقق من الإدلاء بأي معلومات متعلقة بمجريات التحقيق تحت طائلة الملاحقة من جديد.

نشر هذا المقال في العدد | 57 |  تشرين الثاني 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني