تستمر “المفكرة القانونية” في توثيق محنة النزوح. وهي تعتمد في هذا الخصوص على الزيارات الميدانية التي أجرتها الزميلة إيناس شرّي. الجزء الأوّل خصّصناه لكيفية فتح المراكز الرسمية وغير الرسمية. نخصّص هذا الجزء لإدارة المراكز. فكيف تمّ فهم إدارة مراكز النزوح، وبخاصّة من قبل مدراء المدارس المضيفة، في ظل غياب أي تعريف لها في خطة الدولة؟ ومن تولّى هذه الإدارة رسميًا وفعلًيا؟ وإلى أيّ درجة تمّ إشراك النازحين أنفسهم في إدارة المراكز التي أووا إليها؟ (المحرر).
بعدما بيّنا في الجزء السابق أنّ إدارة مراكز الإيواء الفعلية ارتبطت بالجهات التي افتتحتها وكانت من متطوّعين من أحزاب وجمعيّات أو مبادرات فرديّة، سنحاول في هذا الجزء تتبّع دور الأجهزة الرسميّة في إدارة هذه المراكز وتنظيم شؤونها، لنعود ونبيّن دور المتطوعين في هذه الإدارة. وذلك بدءًا من توزيع الغرف وتحديد الممنوع والمسموح في هذه المراكز وصولًا إلى أمن المراكز وحلّ الإشكالات وتحديد مواعيد الزيارات ومواقيت إقفال الأبواب، ومرورًا أيضًا في إدارة ما يصل المراكز من مساعدات وتوزيعها وترشيدها وتأمين ما ينقص منها عبر علاقات شخصيّة ومعارف ومبادرات فرديّة وجمعيّات. إذ إنّه كان واضحًا أنّ فهم المعنيين بإدارة المراكز قد شمل تأمين احتياجات النازحين إليه.
في ما خصّ الجهات الرسميّة سنركّز على دور مندوبي وزارة الشؤون الاجتماعيّة الذين تواجدوا في المراكز في الإدارة ودور مدراء المدارس ولاسيّما أنّ الجزء الأكبر من مراكز النزوح هي مدارس ومعاهد. كما أنّه، وحسب مصدر من وزارة التربيّة، أصدرت وزارة التربية وبالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية قرارا بتشكيل لجنة لإدارة المدرسة المعتمدة للإيواء مؤلفة من مدير المدرسة ومندوب وزارة الشؤون الاجتماعية تنسق مع الوزارات والهيئات المعنية والمحافظات.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّنا رصدنا تحديدًا في مراكز الإيواء في طرابلس وجود متطوّع من الصليب الأحمر يُمثّل غرفة إدارة الكوارث بشكل دائم في المراكز، يُساهم في الإدارة بتعاونه مع المتطوّعين والمدراء، كما رصدنا وجود عناصر للبلديّة في بعض مراكز عكّار أخبرنا النازحون أنّهم يُساعدون من يدير المدرسة بمبادرة فرديّة، ولكنّ دورهم لم يكن كدور مدراء المدارس والمتطوّعين بل داعمًا فقط.
لا دور لوزارة الشؤون في الإدارة
لا تُناط بوزارة الشؤون الاجتماعية أيّة مسؤوليّة مباشرة تتعلّق بالإدارة الداخليّة للمراكز، إذ إنّه “صحيح أنّ وزارة الشؤون هي المعنية بالإيواء ولكن العمل على الأرض يكون بالتنسيق مع الوزارات المعنيّة، وفتح مراكز الإيواء كان يتمّ عبر وزارة التربية وكان يُعمل على خطة جديدة لإنشاء مراكز جديدة في أماكن ليست مدارس” حسب تعبير مصدر من وزارة الشؤون. ويشرح هذا المصدر لـ “المفكّرة” أنّ “وزارة الشؤون تلعب دور التسجيل والتشبيك في موضوع الاحتياجات والدور الأكبر في الحماية، وتعمل مع قطاعات المساعدات الأساسية ومنها المأوى والغذاء، وليس بالإدارة”. ما قالته وزارة الشؤون لـ “المفكرة” تمّت ملاحظته ميدانيًّا أيضًا. ففي حين كانت قليلة المراكز التي زرناها ولم نلتقِ داخلها بمندوب لوزارة الشؤون، إلّا أنّ دور هذا المندوب لا يتعلّق بالإدارة، كما أنّه ليس واضحًا للنازحين “بيجو بسجلوا وبروحوا” يُكرّر أكثر من نازح حين نسأله عن دور الشؤون الإجتماعيّة.
وعلى الرغم من عدم وجود دور للوزارة في الإدارة، رصدنا بعض مندوبات الوزارة اللواتي كنّ يُساعدن المتطوّعين وبمبادرة فرديّة في الإدارة ولا سيّما في مساعدتهم بالطريقة الفضلى لتوزيع الغرف أو بالتواصل مع النازحين ولاسيّما لجهة فرض بعض القواعد أو إعطاء ملاحظات قد تكون مُحرجة. وحتّى رصدنا بعض المندوبات اللواتي حاولن المساعدة عن طريق علاقات شخصيّة في تأمين بعض الاحتياجات.
مدراء المدارس متروكون
إلى جانب وزارة الشؤون الاجتماعية، تذكر الخطّة وزارة التربيّة كجهاز مساند في موضوع إدارة الإغاثة والمأوى. وبالإضافة إلى تعميمها بفتح المدارس يُشارك بعض مدرائها، وكما لاحظنا خلال جولتنا، بدور أساسي في إدارة مراكز النزوح ولكن بمبادرة فرديّة حسبما أكّد غير مدير التقينا به، مشيرين إلى أنّ دورهم في الإدارة لم يكن واضحًا حتّى بالنسبة إليهم. لذلك اختلف المشهد من مدرسة إلى أخرى: فبعض المدراء فضّلوا النأي بالنفس عن موضوع إدارة شؤون النازحين وتركها لمتطوّعين من أحزاب أو جمعيّات، أيّ أنّهم تواجدوا في المدرسة ولكنّهم لم يتدخّلوا بالإدارة بشكل مباشرة، واعتبروا أنّ دورهم فقط يتعلّق بما ورد في تعميم وزير التربية حول الحفاظ على مستلزمات المدرسة، وبعضهم تشارك الإدارة مع المتطوّعين أو ممثلين عن النازحين، وبعضهم الآخر كان يُدير شؤون النازحين بكلّ تفاصيله حتّى كان يسعى لتأمين ما ينقص النازحين من احتياجات عبر علاقاته الخاصّة أو جمعيّات أو مبادرات فرديّة وحتّى تجهيز المبنى، أي أنّه اعتبر تأمين الاحتياجات وتجهيز المبنى من ضمن الإدارة.
في ملعب إحدى مدارس المتن، تقف مديرة المدرسة تنسّق مع بعض الشبّان من منظمة “أطبّاء بلا حدود” ثمّ تجول بين الأهالي الجالسين في باحة المدرسة. تصبّح عليهم وتسألهم عن أوضاعهم. وعند سؤالنا عن الشخص المسؤول عن إدارة المدرسة كمركز نزوح، تُجيب “أنا والحاج”. تُخبرنا هذه المديرة عن عدم وضوح دورها وصلاحيّاتها بالنسبة إليها وتقول: “وزارة التربية لم تسألني ماذا يحصل عندي، ماذا أواجه من مشاكل، نحن متروكون كمدراء، ولولا ضميرنا الإنساني ما كنّا هنا، قالوا لنا افتحوا، ومنذ ذلك النهار لا يوجد تواصل من الوزارة ولا دعم ولا حتّى أخبرونا ما هو دورنا”.
منذ اليوم الأوّل تعمل هذه المديرة بالتعاون مع “الحاج” وهو متطوّع من أحد الأحزاب كما يُخبرنا وشخص “مقرّب من الأهالي يثقون به وتثق هي به” كما تعرّفه المديرة، على تأمين احتياجات المركز. فهي تنسّق مع الجمعيّات ومع غرفة إدارة الكوارث والقائمقامية ومع ممثلة الشؤون الاجتماعيّة ومن ثمّ تتواصل مع الحاج الذي تفضّل هي أن يستلم ويوزّع أي مساعدات تصل إلى المركز: “أنا لا أستلم ولا أتدخل بالتوزيع طالما أعرف أنّ المستفيدين لا يعترضون ويثقون في الحاج الذي يُنسّق معي بدوره دائمًا” تقول.
تتواجد هذه المديرة وبحسب ما يقول نازحون في هذه المدرسة بشكل شبه دائم نهارًا حتى في أيّام نهاية الأسبوع إذا اضطرّ الأمر. وقد استطاعت عبر علاقات شخصيّة لها متابعة أوضاع النازحين مع المعنيين بشكل دائم وصولًا إلى تأمين الاحتياجات الأساسيّة ومنها 3 وجبات يوميّة في وقت يحصل عدد كبير من المراكز على وجبة أو وجبتين. لا تتدخّل هذه المديرة في إدارة شؤون النازحين الداخلية لجهة مثلًا تقسيم الصفوف أو وضع قواعد تنظيميّة فتترك الأمر لـ “الحاج” ومن معه من متطوعين ومتطوعات كما تقول: “هو أقرب لهم ولا أتدخّل إلّا في حدود ما يضمن الحفاظ على المبنى وتجهيزاته، ولكنّ طبعًا أفضّل أن أطلع على تفاصيل الأمور” تقول”.
امتلأت هذه المدرسة وحسب ما تخبرنا المديرة منذ الرابع والعشرين من أيلول أي بعد يوم واحد من توسّع العدوان واستقبلت 70 عائلة أي 270 شخصًا في 17 غرفة، مشيرةً إلى أنّها عملت على تهيئتها بداية بجهود فردية إذ أخذت على عاتقها التواصل مع جمعيات وأشخاص ساهموا في تأمين الاحتياجات الأساسيّة التي استكملت لاحقًا عن طريق غرفة الكوارث، فهي اعتبرت أنّ تأمين هذه الاحتياجات جزء من مسؤوليتها الإداريّة.
أدّت هذه المديرة أيضًا وبالتعاون مع المتطوّع الذي يُدير معها المدرسة دورًا في وضع القواعد التنظيميّة للمركز فحدّدت معه شروط الزيارات وحصرها بالملعب وضرورة التمنّي على النازحين عدم الخروج ليلًا، فضلًا عن وضعها قواعد تتعلّق بنظافة المبنى والحفاظ على مقتنياته.
في مشهد مشابه، ينشغل مدير إحدى مدارس عكّار بمساعدة عمّال يقومون بوضع قواطع في الطابق السفلي من مدرسته وتجهيزه لنقل النازحين من الطوابق العليا إليه حتّى يتسنّى له بدء العام الدراسي. تُرك هذا المدير، كما يُخبرنا نازحون مقيمون في المدرسة، وحده مرّتين؛ مرّة حين كان يُدير شؤونهم مع عائلته التي تطوّعت معه، ومرّة بمواجهة أهالي تلامذته الذين رفضوا نقل أبنائهم إلى مدرسة أخرى بدوام مسائي. “مدرسته استقبلت حوالي 800 تلميذ قرّرت وزارة التربية نقلهم إلى مدرسة قريبة بدوام مسائي، وهم في المرحلة الابتدائيّة والمتوسّطة اعتادوا أن يأتوا مشيًا، الأمر الذي يصبح مستحيلًا في الدوام الليلي، أخبرنا أنّه لن يسمح بإخراجنا من المدرسة ولن يتخلّى عن تلامذته، وها هو يحاول إيجاد حلّ” يقول أحد النازحين في المدرسة لـ “المفكرة”.
قبل وصولنا إلى المدرسة، اعتصم أهالي تلامذتها أمامها مطالبين بعدم نقل أبنائهم إلى مدرسة أخرى. “لم يكن الاعتصام ضدّنا ولكنّ الأمر بطبيعة الحال كان مُقلقا، طلب منّا المدير ألّا نتدخّل، أخبرنا أنّ الأهالي يقفون إلى جانبنا ولكنّهم يرفعون الصوت ضدّ قرارات وزارة التربية. مرّ الأمر على خير فقط بسبب حكمة المدير وطيبة الأهالي وتفهّم النازحين. لم يتعرّضوا لنا حتّى بالكلام ونحن نتفهّم مطالبهم” يقول نازح آخر من المدرسة. هؤلاء الأهالي الذين اعتصموا أمام المدرسة هم أنفسهم كانوا ممّن ساهموا بإنشاء صندوق دعم للنازحين فيها واضعين إيّاه بتصرّف المدير لتأمين الاحتياجات الأساسيّة، فتأمين الاحتياجات أيضًا كان من ضمن مهام الإدارة بالنسبة لهذا المدير.
لم يكن يوجد في هذه المدرسة التي ضمّت 29 عائلة (124 فردًا) أيّ متطوعين أو ممثّلين عن إدارة الكوارث للمساهمة في إدارتها. ولأنّ المدير لا يستطيع تولّي الأمر وحده قرّرت زوجته وابنتاه التطوّع معه لإدارة شؤون النازحين، من توزيع الغرف وتقسيم مهام التنظيف وصولًا إلى حصر الزيارات في الملعب وإغلاق الأبواب عند الساعة 11 ليلًا. إذ يتواجد المدير وزوجته وابنتاه بالتناوب في المدرسة حتّى ساعات متأخّرة من الليل حسب النازحين. “أتواجد قبل الظهر بشكل دائم وعندما يعود ابني الصغير من المدرسة أحضره بعد الغداء إلى هنا، ندرس هنا، لا أستطيع أن أترك المدرسة” تقول زوجة المدير مضيفة “حتّى ابنتي تطوّعت للمساعدة، لا نستطيع إلّا أن نكون هنا”.
هذا النموذج لا يُمكن تعميمه بطبيعة الحال، إذ إنّ عدم وضوح دور وصلاحيات مديري المدارس بالنسبة لهم وبالنسبة للنازحين أيضًا تسبّب بمشاكل كثيرة، إذ يُخبرنا أحد النازحين في طرابلس أنّ مديرة مدرسة حاولت قطع المياه عنهم، “يمكن لأّننا سوريون” تقول إحدى النازحات في هذه المدرسة مضيفةً: “قبل أسبوع أنذرت إسرائيل المنطقة حيث يسكن والدايّ في صور، أتوا إلى هنا ولكنّ المديرة رفضت استقبالهم. باتوا في العراء وهناك مكان لهما في الغرفة حيث أبيت، ولكنّها أبقتهم في الخارج طوال الليل” تقول.
لم ترغب هذه المديرة بفتح أبواب مدرستها وتحديدًا لاستقبال النازحين السوريين فمارست عليهم ضغوطات حسب ما كرّر أكثر من نازح، وفي المقابل تركت تنظيم شؤونهم للمتطوّعين، فلم تتدخّل هذه بشؤون الإدارة من حيث تنظيم النازحين أو حلّ مشاكلهم ولا حتّى تأمين احتياجاتهم، ولكنّ شعورها بأنّ المدرسة افتُتحت غصبًا عنها وعدم وضوح صلاحياتها دفعها إلى ممارسة بعض التجاوزات.
هذا وتُخبرنا إحدى المديرات بأنّها رفضت أن يكون هناك أيُّ متطوعين لمساعدتها في إدارة المدرسة بحجّة أن لا تأخذ المدرسة “أيّ طابع”، مُشيرةً إلى أنّها تنظّم جميع أمورهم فتضع لائحة بالممنوعات مثل النرجيلة في الطوابق وبتحديد قبول الزيارات في الملعب فقط وإقفال الباب مساء هذا فضلًا عن التنسيق مع الجهات التي تؤمّن احتياجات المدرسة بنفسها ووحدها، والطلب منهم أن يسلّموا المساعدات باليد للمستفيدين. وفي حين تعتبر المديرة في حديثها معنا أنّها تؤمّن الاحتياجات الأساسيّة ولو “بحدٍّ مقبول” يُشير بعض النازحين في المدرسة أنّ رفض هذه المديرة مساعدة الجمعيات، حرمهم من الكثير من الاحتياجات وأنّها لا تتحدّث معهم: “لا منشوف المديرة ولا بتشوفنا وأنجأ عم يوصلنا شي وضعنا كتير صعب، وما بتحكي معنا”. وفي مدرسة ملاصقة لهذه المدرسة حيث يبدو الوضع أفضل لجهة تأمين الاحتياجات، تقول نازحة: “المديرة مسيطرة على المدرسة لحدنا ما بتخلي حدا يجبلن مساعدات إلا عبرها”.
في بعض المدارس، اشتكى النازحون من تحكّم المدير بهم “يمنعنا من إحضار غاز للطبخ، بحجّة إمكانيّة تعرّض المدرسة للحريق بينما هناك مدارس كثيرة تسمح باستخدام الغاز” تقول نازحة في صيدا.
لا يقتصر الأمر على موضوع الإدارة الداخليّة التي قد يحصل فيها بعض التجاوزات، إذ تُخبرنا ناشطة تعمل في مجال الإغاثة أنّ مديرة إحدى الثانويات في بيروت اشترطت أخذ عدد من حصص المساعدات التي تصل للنازحين بحجّة إعطائها للمستخدمين في المدرسة. “أحضرت إحدى الجمعيات عبرنا حرامات لهذه المدرسة فأخذت منهم عددًا وكذلك فعلت بغالونات المياه وحتّى أنّها أخذت من المساعدات الأخرى التي تصل عبر مبادرات فرديّة” تقول هذه الناشطة لـ “المفكرة” مضيفة: “المشكلة أنّها تأخذ 10 حصص وليس لديها إلّا مستخدمة واحدة والباقي على الأغلب لها”.
تؤكّد هذه الناشطة أنّها وناشطون آخرون اشتكوا من المديرة لمن يُدير المدرسة معها وهم متطوّعون من أحد الأحزاب فجاء الردّ بأنّه “لا مشكلة ما فينا نفوت بخلاف معها” الأمر الذي تُعيده الناشطة إلى خلفيّات سياسيّة أيضًا إذ إنّ مديري المدارس هم نتيجة مُحاصصة وبالتالي يصعب محاسبتهم.
متطوّعون يمسكون زمام الإدارة فعليًا
كان للمتطوّعين الدور الأكبر في تدبّر شؤون الناس والإدارة الداخليّة في مراكز الإيواء، وذلك من دون توجيه رسمي يُحدّد لهم مسؤولياتهم وصلاحيّاتهم وحدود هذه الصلاحيّة، ومن دون معرفة النازح نفسه بالجهة التي يمكن أن يعترض عندها على ممارسات قد تصدر من بعض المتطوّعين.
وعلى الرغم من اختلاف هويّة المتطوّعين، كما بيّنا سابقًا بين من كان من أحزاب أو جمعيات أو مبادرات فرديّة، كان فهمهم لمعنى الإدارة متشابهًا إلى حدّ كبير، وهو يتعلّق بتوزيع الغرف وتحديد الممنوع والمسموح في هذه المراكز وحلّ الإشكالات وتحديد مواعيد الزيارات ومواقيت إقفال الأبواب مع اعتبارهم جميعهم أنّ تأمين الاحتياجات بما فيها الأمن هو ضمن الإدارة والجانب الأهم فيها. ولذلك ربما كان متطوّعو الأحزاب يعودون إلى أحزابهم في هذا الجانب دون سواه كما أكّد لنا أكثر من متطوّع ينتمي إلى حزب. أمّا في ما خصّ الأمور الأخرى المرتبطة فعلًا بالإدارة الداخلية، فكانت تعتمد على تقدير المتطوّعين أنفسهم مستفيدين من الخبرة التي اكتسبوها في مشاركتهم بالإغاثة في حرب تمّوز أو على خبرتهم التطوّعية في جمعيّات أو أحزاب أو كشّاف ينتمون إليها، إذ أكّد معظم من التقيناهم من متطوّعين مشاركتهم بأعمال تطوعيّة سابقًا.
وقام المتطوّعون لضمان سير هذه المهام الإداريّة في المراكز بابتكار قواعد تنظيميّة متشابهة، وركّزت بشكل أساسي على موضوع الزيارات ومواقيت الطعام والتنظيف والغسيل تقسيم هذه المهام وإقفال الأبواب.
وعلى الرغم من الفهم المتشابه لمعنى إدارة المراكز بين المتطوّعين على اختلاف هويّاتهم، كان هناك اختلاف في مقاربة هذا المفهوم بين مركز وآخر انطلاقًا من خبرة المتطوّعين الذين يُديرون المركز وفي بعض الأحيان انطلاقًا من الجهة التي ينتمون إليها، ولا سيّما لجهة مشاركة النازحين أنفسهم بالقرارات والإدارة ومدى راحتهم بالتعبير عن أنفسهم واحتياجاتهم. ومن الأمور التي يمكن أن تدلّنا على هذا الأمر، ترك الحريّة لنا خلال عملنا على هذا التحقيق بالحديث مع النازحين في كلّ مركز دخلناه في طرابلس وعكّار حيث لا توجد أحزاب وفي صيدا حيث كان لمعظم المتطوّعين خبرةٌ من حرب تموز، مع الطلب منّا في المنطقتين أن لا نصوّر أو نسجّل من دون موافقة النازح. بالمقابل، لم يُسمح لنا في أكثر من مركز في بيروت يُدار من قبل الأحزاب الحديث مع الناس بحجّة الخصوصيّة. كما أنّ إحدى المتطوّعات الحزبيّات في مركز في ضواحي بيروت أصرّت أن تبقى جالسة خلال حديثنا مع إحدى النازحات. وإذ كان واضحًا أن عدم السماح لنا بالحديث مع النازحين هو من القواعد التي وضعتها بعض الأحزاب للمتطوعين منها في الإدارة، كان متطوّعون من الحزب نفسه يتغاضون عن الأمر في مراكز أخرى “هو ممنوع، الجماعة ما بفضلوا نحكي مع الإعلام، بس شو المشكلة بالعكس اسألي ما شئت، وتحدّثي مع من يقبل الحديث” قال لنا متطوّع من حزب في مدرسة في ضواحي بيروت.
بشكل عام عبّر معظم النازحين الذين قابلناهم عن امتنان للمتطوّعين ليس فقط بسبب أداء هؤلاء المتطوّعين بل أيضًا لمعرفة النازحين أنّ هؤلاء المتطوعين شبّان وشابات يقدّمون جهدًا ووقتًا في وقت غابت فيه مؤسّسات الدولة. ولكن مع ترك موضوع الإدارة إلى تقدير المتطوّع نفسه وعدم وضوح مسؤولياته وصلاحيّاته، تحدّث بعض من قابلناهم من نازحين عن عشوائيّة في تفاصيل الإدارة، وعن محسوبيّات أو سوء فهم باحتياجات العائلات المختلفة، وعن غياب لمهارات التواصل مع النازحين عند بعض المتطوعين ما يُشعر النازح أنّ المتطوّع هو من آواه وليس الدولة، وعن تهديد من بعض المتطوعين بإخراج نازحين من المركز عند حصول مشاكل، أو حتّى حرمانهم من الحصول على وجبة غداء في حال حصول هدر للطعام أو المياه.
مشاركة النازحين في الإدارة
خلال جولتنا على المراكز، لاحظنا أنّ جزءًا ممّن يديرونها سواء كانوا مدراء أو متطوّعين اعتبروا أنّ إدارة المراكز تستوجب مشاركة النازحين، فعملوا على إيجاد لجان تمثّل النازحين، كما لاحظنا أنّ وجود هذه اللجان لم يكن حصرًا على منطقة دون أخرى ولكن كان أكثر بروزًا في المدارس التي يُديرها المتطوّعون (مع مدير المدرسة أو وحدهم) أكثر من تلك التي يُديرها المدراء. كما لاحظنا ارتياحًا أكثر عند الناس في التعبير عن ما ينقصهم أو عن أوضاعهم في المراكز التي لعب فيها النازحون دورًا حقيقيًّا في الإدارة.
من هذه اللجان ما كان مُعيّنًا من قبل من يُدير المدرسة، وكان يتمّ اختيار أعضائها على أساس رغبة الأشخاص بالمشاركة وقدرتهم على التواصل مع باقي النازحين ومدى قبولهم منهم أيضًا، ومنها ما كان مُنتخبًا من قبل النازحين إذ كانت تختار كلّ عائلة أو غرفة أو في بعض الأحيان كلّ طابق شخصًا يُمثّلهم يكون عضوًا في لجنة تُمثّل النازحين. أمّا دور هذه اللجان، فكان في أكثر المراكز يُعنى بتقسيم مهام التنظيف والترتيب وتحديد مواقيت الطبخ أو الغسيل أو الاستحمام في ما بينهم فيما كان كان يُعنى بتحديد احتياجاتهم أو المشاركة بقواعد توضع لإدارة المراكز في مراكز أخرى.
يُخبرنا أحد المتطوّعين في مبنى العازاريّة أنّ إشراك النازحين في الإدارة كان ضرورة في المراكز التي تستقبل عددًا كبيرًا من النازحين كالعازاريّة حيث يوجد 7 مباني ويقول: “يُدير كلّ مبنى هنا فريق عمل من متطوعين ونازحين، كما اعتمدنا نظام بطاقات للنازحين باسم رب العائلة وعدد الأفراد ورقم المبنى والغرفة ما يسهّل عمليات الإدارة” موضحًا أنّ العازاريّة ضمّت 450 عائلة 2700 شخص وأنّ بعض الغرف تضمّ أكثر من 15 شخصًا. وعندما نسأله عن طبيعة المهام التي يُعنى بها هذا الفريق يُجيب “جميع ما يتعلّق بالإدارة” ومنها توزيع الغرف والحفاظ على النظافة وحلّ المشاكل والخلافات وتحديد الاحتياجات وحتّى المساعدة في توزيع بعض المساعدات التي تصل.
ما يقوله هذا المتطوّع وضعه بعض النازحين في المبنى نفسه، في إطار المبالغة إذ كرّر أكثر من نازح في المركز إنّ اعتماد اللجان المشتركة بين المتطوّعين والنازحين أعطى سلطة لبعض النازحين على آخرين، وأنّ نظام البطاقات الذي اعتمد كان شكليًّا إذ لا يلتزم جميع النازحين بالمواقيت التي تُحدّد مثلًا للغسيل أو التنظيف، ولم تُساهم في تنظيم وصول الاحتياجات بشكل عادل ما تسبّب بمشاكل بينهم، ولا سيّما أنّه لا يوجد آليّة لمحاسبة المخالفين.
تعتبر إحدى النازحات في المبنى أنّ المشكلة الأساسيّة لا ترتبط فقط بالإدارة بل بمحدوديّة الموارد وعدم صلاحية المركز ليكون مركزًا للإيواء ما يجعل إدارته وتنظيم أمور الناس شبه مستحيل “إذا كان النازح يعرف أنّ المياه ستنقطع كيف يُمكن أن تقنعيه بأن يغسل ملابسه أو يستحمّ في أوقات محدّدة” تقول .
في مراكز أخرى لاحظنا أنّ اللجان لعبت دورًا إيجابيًّا إذ كانت مُساهِمة بشكل أساسي بوضع القواعد التنظيميّة مثل شروط الزيارات والخروج والدخول.” القرارات المتعلّقة بالإدارة تشاركيّة نضع نحن كمتطوعين رؤيتنا ويضع النازحون رؤيتهم ونصل إلى أرضيّة مشتركة ترضي الجميع بالحد الأدنى” يقول متطّوع من جمعية التنمية للإنسان والبيئة التي تدير ثانوية الصبّاغ في صيدا مشيرًا إلى أنّ أعضاء اللجنة اختارهم النازحون أنفسهم بالتشارك مع المتطوّعين.
وهذا أيضًا ما تحدّثت عنه نازحة في هذه الثانويّة مشيرة إلى أنّ هناك بعض الأشخاص من النازحين لديهم قبولًا لدى الناس أكثر من غيرهم وتولّيهم تمثيل النازحين ساهم في تخفيف المشاكل “نشعر بالراحة لمشاركة النازحين في الإدارة، وإن كانت بعض القواعد لا تُرضي الجميع” .
الأمر نفسه يقوله متطوّع من أحد الأحزاب في مدرسة في بيروت مشيرًا إلى أنّ ما ساهم في تقبّل النازحين لكلّ القواعد التنظيميّة كان وضع هذه القواعد بالتنسيق مع لجنة تمثّلهم شكّلها المتطوّعون من أهالٍ يملكون القدرة على التنظيم ويمونون على الآخرين. “لا يمكن إرضاء الجميع ولكن عندما يكون وضع القواعد بمشاركة نازحين لهم تأثير على الآخرين يُصبح تقبّلها أسهل من الجميع” يقول هذا المتطوّع.
مشاركة النازحين في الإدارة لم يكن فقط من خلال لجان بل في بعض الأحيان من خلال اجتماعات دورية تُعقد بين المتطوعين والنازحين ولاسيّما في المراكز التي يُعد عدد النازحين فيها مقبولًا نسبيًا أو حتّى من خلال جلسات عفويّة بين المتطوعين والنازحين يُشبّهها بعض المتطوّعين بجلسات عائليّة، “هم في بيتهم، ومنحكي معن دايمًا بشوفن أكتر من أهلي، نجلس مع بعضنا نتبادل الآراء” يُجيبني وليد المتطوّع في المدرسة الجديدة في طرابلس عندما أسأله عن وجود لجنة تُمثّل الأهالي، مضيفًا: “صرنا عيلة بعرفن وبعرف احتياجاتن، ومنوثق ببعض ومنتساعد بكلّ تفصيل يتعلّق بالإدارة” يقول.
وهذا ما كرّره نازحون في المدرسة “لا يحتاج الموضوع إلى لجان، وجهنا بوجه المتطوعين طوال النهار، ونجلس معهم ونتشارك عفويًا في مهام الإدارة”.
أدار وليد مع متطوعين آخرين من هيئة الإسعاف والكشاف الشعبي المدرسة التي تضم 250 فردًا “في المدير والمتطوعين والصليب الأحمر (ممثل غرفة الكوارث) ووزارة الشؤون كلّنا معنيون” يقول عندما نسأله عن الإدارة مضيفًا: “نحن عائلة حرفيّا والأمور أبسط من ذلك، حتّى العائلات وزّعت نفسها فهناك عائلات تربطها قرابة اختاروا الغرف القريبة أو الغرفة ذاتها حسب العدد، ونظّمت أمورها وحدها، الأمور أبسط عندما تكون عفويّة”.
الأمر نفسه تتحدّث عنه ميرنا عيتاني التي بادرت بنفسها إلى فتح مدرسة خاصة في بيروت وتسلّمت إدارتها وحدها. أدارت ميرنا هذه المدرسة التي ضمّت 32 عائلة (150 شخصًا) بمفردها، تقضي معظم أوقاتها داخلها تهتمّ بالساكنين الذين باتوا عائلتها الثانية “منعمل عصرونيّة كل يوم ومنحكي عن همومنا واحتياجاتنا ومنقرّر كيف ننظّمها، هكذا تُدار المدرسة” تقول عندما نسألها عن الإدارة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.