محنة إيواء النازحين (1): فتح مراكز الإيواء بقوّة النزوح 


2024-12-05    |   

محنة إيواء النازحين (1): فتح مراكز الإيواء بقوّة النزوح 
طفل نازح داخل غرفة مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء

تقديم

نهاية تشرين الأوّل من العام 2023 أي بعد أقلّ من شهر من بدء العدوان على غزّة وما تبعه من اعتداءات على لبنان، أعلنت الحكومة اللبنانيّة عن وضع خطّة استباقية للطوارئ تهدف إلى “حماية اللبنانيين واللبنانيات من تداعيات عدوان إسرائيلي واسع، وإلى تأمين مستلزماتهم وإغاثتهم في حال حصول تهجير قسري واسع من ديارهم إلى أماكن أكثر أمانًا”. ولكن واقعيًّا ومنذ اللحظة الأولى لتوسّع العدوان بدا واضحًا ضعف التخطيط والتنسيق وتخبّط الجهات المعنيّة في كلّ تفصيل يرتبط بإغاثة المواطنين وتأمين مأوى لهم. تخبّطٌ جعل الدولة غير قادرة حتّى على تدبّر أمور أقلّ من 20% من النازحين أي الذين لجأوا إلى مراكز الإيواء والذين، وحسب آخر تقرير رسمي، لم يتجاوز عددهم 200 ألف نازح من أصل مليون و200 ألف اضطروا إلى ترك منازلهم.

انطلاقًا من فهم الإيواء كفعلٍ يتجاوز فتح مراكز، وكواجب على الدولة بعيدًا عن منطق المنّة أو المساعدات الاجتماعيّة، عملتْ “المفكرة” على مجموعة من المقالات التي ستُنشر تباعًا تبيّن خلالها تعاطي الدولة مع موضوع الإيواء. فحاولنا فهم كيفية تحديد مراكز الإيواء وفتحها وإدارتها ودور أجهزة الدولة في تحديد وتطبيق هذه الآليّات وتأثيرها على فرص تأمين الاحتياجات ووصولها إلى المستفيدين واحتمال حصول تجاوزات وكيفيّة التعامل مع هذه التجاوزات. واعتمدت “المفكرة” لتبيان ما تقدّم، على عمل ميداني تضمّن زياراتٍ لعدد من مراكز الإيواء اعتبرتها بمثابة عيّنة وتحديدًا في بيروت الكبرى وطرابلس وعكّار وصيدا بعدما كانت غطّت أوضاع المراكز في منطقة الشوف ودير الأحمر في متابعات سابقة.

كما اعتمدت “المفكرة” على مقابلات مع مسؤولين في إدارة هذه المراكز ونازحين ونازحات ومع الجهات المعنيّة بموضوع الإيواء منها أحزاب ووزارتي الشؤون الإجتماعيّة والتربية وكذلك مع لجنة الطوارئ الحكوميّة التي لم نحصل بعد على إجابة منها، وسننشر أيّ تعليق يصلنا لاحقًا.

خلال عملنا على هذه المواد، تبيّن بشكل أساسي أنّ تخبّط الدولة في التعاطي مع موضوع الإيواء لا تعود أسبابه فقط إلى سوء تقدير خطّة الطوارئ للمخاطر المتوقّعة في حال توسّع العدوان وبالتالي سوء تقدير الاحتياجات والإجراءات المطلوبة للتعامل مع هذه المخاطر، بل أيضًا وبشكل أساسي إلى قِصرٍ في فهم معنى الإيواء وما يحتّمه من أمور مثل إدارة شؤون الناس وتحديد الجهات المسؤولة عن هذه الإدارة ومشاركة النازحين فيها وفهم احتياجاتهم وتأمينها بشكل يصون كراماتهم وباعتبارها حقًّا لهم وليس مساعدات من منظّمات دوليّة وجمعيات وأحزاب. وهذا كان جليًّا في ضعف دور الدولة في العناوين التالية المتعلّقة بالإيواء والتي سنفصّلها لاحقًا:

1 – تحديد مراكز الإيواء وتجهيزها. سبقت المبادرات الفرديّة والأحزاب الدولة لفتح المراكز وفرضت أن تكون المدارس مراكز إيواء فجاء تعميم وزارة التربيّة تثبيتًا لأمر واقع. 

2- لم يتمّ تحديد مفهوم “إدارة مراكز الإيواء” والجهات المسؤولة عنها كما لم يتمّ وضع أي آليات موحّدة تضمن حسن سيرها. فمن يفتح المركز كان يُديره ويضع الآليات والشروط التي تناسبه للإدارة، وليس أدلّ على ذلك من أننا كنا نحتاج إلى التنسيق مع الأحزاب السياسية لزيارة بعض المراكز، ومنح بعض المتطوعين أنفسهم الحقّ من التأكّد من بطاقتنا الصحافيّة ومكان عملنا.

3- حصر دور الدولة في موضوع الاحتياجات بالتنسيق مع المنظمات الدوليّة التي كانت عاجزة حتّى  عن تأمين 3 وجبات طعام يوميًّا في عدد من المراكز، وتخلّي الدولة حتّى عن أي دور في تنظيم المبادرات الفرديّة التي كانت تعوّض نقص الاحتياجات. 

4- عدم وجود آليّة للحفاظ على أمن المراكز ما ساهم في تثبيت الأمن الذاتي.

في ما يلي المقالة الأولى في هذا الملف:

مراكز الإيواء لم تكن جاهزة وفتحها كان بقوّة النزوح

خلال 66 يومًا من العدوان الإسرائيلي الموسّع، عاش لبنان أزمة نزوح غير مسبوقة ليس فقط لجهة الأعداد الكبيرة للنازحين بل أيضًا لجهة استمرار توسّع العدوان ما أدّى إلى استمرار موجات النزوح. بلغ عدد النازحين وحسب آخر تقرير رسمي مليونًا و200 ألف نازح منهم فقط 180 ألفًا في مراكز الإيواء وهم الفئة التي سنركّز عليها. توزّع هؤلاء على 1177 مركز إيواء في مختلف المحافظات مع تركيز في محافظتي جبل لبنان وبيروت حيث 65% من النازحين (جبل لبنان 70382 نازحًا في 422 مركزًا وفي بيروت 54016 نازحًا في 194 مركزًا) تليهما البقاع (14973 نازحًا في 132 مركزًا) ومن ثمّ الجنوب (14875 في 83 مركزًا) والشمال (14049 في 130 مركزًا) ومن ثمّ بعلبك الهرمل (13196 في 70 مركزًا) ومن ثمّ عكّار (7665 نازحًا في 115 مركزًا) والنبطيّة (927 في 31 مركزًا).

حدّدت خطّة الطوارئ وزارة الشؤون الاجتماعيّة كجهة مسؤولة عن الإيواء تُساندها جهات أخرى منها وزارتا التربية والداخليّة والبلديّات والجيش. وحسب أكثر من مصدر رسمي معني بموضوع الإيواء لم يكن هناك تحديد مسبق واضح لمراكز مجهّزة. وهذا ما يمكن استنتاجه أيضًا من عدم تعميم لوائح مفصّلة على المواطنين قبل توسّع الحرب وبالتالي خرجوا من منازلهم من دون أي وجهة مُحدّدة. وكذلك كان الأمر واضحًا من عدم جهوزيّة المراكز التي تمّ تحديدها لاحقًا للإيواء إذ جاءت التجهيزات متأخّرة أسابيع. وحتّى تاريخ إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، كانت لا تزال بعض المراكز تُعاني من نقص في التجهيزات ومنها المياه الساخنة والتدفئة. فحتّى لحظة توسّع الحرب لم يكن المعنيون فعّلوا أوّل النقاط الواردة في خانة الإجراءات في قسم الإيواء في الخطة، أي “تقييم وضع المراكز التي تمّ تحديدها للإيواء المؤقت وتحديد الاحتياجات الملحّة  لتشغيلها وإدارتها”.

حاولت “المفكرة”، تتبّع آليات فتح مراكز الإيواء والجهات التي حدّدت هذه المراكز عبر سؤال المعنيين ولاسيّما وزارة الشؤون الاجتماعية كونها المسؤولة المباشرة عن الإيواء ووزارة التربيّة كون القسم الأكبر من المراكز هي مدارس ومعاهد وجامعات، ومن ثمّ تتبّع هذه الجهات والآليات على الأرض وعبر مقابلات مع مسؤولين عن إدارة المدارس ونازحين.

لم يذكر أيّ ممّن التقيناهم أيّ دور لوزارة الشؤون في فتح مراكز الإيواء التي زرناها وهذا أيضًا ما أشار إليه مصدر في الوزارة نفسها موضحًا لـ “المفكرة” أنّه “صحيح أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية هي المعنية بالإيواء ولكن العمل على الأرض يكون بالتنسيق مع الوزارات المعنيّة وفتح مراكز الإيواء كان يتمّ عبر وزارة التربية كون معظم المراكز كانت مدارس ومبان جامعيّة،  وكان يُعمل على خطة لإنشاء مراكز جديدة في أماكن ليست مدارس”.

أمّا في ما خصّ وزارة التربيّة فقد أوضح مصدر فيها لـ “المفكّرة” أنّه وحسب خطّة الاستجابة الوطنية خلال الكوارث والأزمات، لم يكن من المفترض اعتماد المؤسّسات التعليمية كمراكز إيواء، لأنّ الخطة ذاتها تنصّ على استكمال التعليم في حالة الطوارئ، مشيرًا إلى أنّه كان من المفترض تأمين مراكز للإيواء من قبل الدولة مجهّزة لاستقبال الأهالي، الأمر الذي لم يحصل. 

وقد أرسلت وزارة التربيّة، وحسب المصدر، لوائح بمدارس غير مستخدمة وكان من المفترض تقييم أوضاعها والعمل على تجهيزها وهو ما لم يحصل أيضًا. فعند توسّع العدوان في 23 أيلول 2024، لم تكن مرحلة تقييم أوضاع هذه المدارس قد أنجزت بعد. ويوضح المصدر أنّ إرسال هذه اللائحة ليس من باب قرار اعتماد المدارس كمراكز إيواء بل في إطار طلب المعنيين من كلّ الوزارات إرسال لائحة بالمباني التي تعود إليها والتي يمكن اعتمادها كمراكز إيواء لذلك كانت لائحة الوزارة بمدارس غير مستخدمة.

وبالعودة إلى يوم توسّع العدوان، نجد أنّ أوّل لائحة بالمراكز المعتمدة وكانت مدارس ومعاهد، صدرت ظهرًا حين أعطى وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي التوجيهات إلى المحافظين للتعاون بشكل كبير مع عملية النزوح الكثيفة من المناطق الجنوبية. وقد حدّد مدارس ومعاهد في مختلف المناطق كمراكز إيواء وذلك بعد اجتماع مع خلية الأزمة في الوزارة بحضور وزارة التربية.

وفي اليوم التالي لتوسّع  العدوان أي في 24 أيلول، أصدر وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي تعميمًا حول استقبال النازحين في المدارس الرسمية طلب فيه من “جميع المسؤولين عن المدارس والثانويات الرسمية .. فتح مباني المدارس والثانويات الرسمية لاستقبال النازحين ووضعها بتصرّف لجنة الطوارئ المركزية بالتنسيق مع خليّة الأزمة في وزارة التربية والتعليم العالي والتعاون مع الجهات المكلفة رسمياً بتوزيع النازحين وتقديم الدعم والمساعدة لهم”. وكان سبق التعميم حديث تلفزيوني للوزير أعلن فيه فتح المدارس والمعاهد. إلّا أنّ الناس التي لم تجد مراكز إيواء كانت سبقت التعميم وفتحت بعض المدارس بمساعدة مبادرات فرديّة أو الأحزاب ولاسيّما في العاصمة بيروت. 

نازحون يصلون إلى أحد مراكز الإيواء في بيروت

بيروت: حين سبقت الأحزاب الدولة 

كانت بيروت وجهة أساسيّة للنزوح، كما شكّلت محطّة للنازحين الذين انطلقوا منها فيما بعد إلى مناطق أخرى. واستقبلت بيروت ثاني أكبر عدد للنازحين في المراكز بعد محافظة جبل لبنان، إذ بلغ عددهم فيها 54016 نازحًا توزّعوا على 194 مركز إيواء. وفي حين كانت النسبة الكبرى من مراكز الإيواء في بيروت مبان تعليميّة، افتتحت في بيروت أيضًا مبانٍ مهجورة مثل مبنى العازاريّة وسط البلد، ومراكز خاصة مثل “سكاي بار”. وجاء فتح هذه المراكز بشكل عام في مرحلة لاحقة أيّ بعد ايّام من توسّع العدوان نتيجة استمرار موجات النزوح وعدم قدرة الدولة على استيعاب أعداد النازحين. 

بعد ساعات على توسّع العدوان جنوبًا وتحديدًا في ساعات ما بعد ظهر يوم الاثنين 23 أيلول 2024، بدأت مئات العائلات تصل إلى العاصمة بيروت وبدأت أعدادها تتزايد مع ساعات الليل الأولى حتّى فجر اليوم التالي، وكلّ هذا مع غياب تام لأيّ تفعيل لما كان ورد في الخطّة الاستباقيّة عن “توجيه النازحين إلى الأماكن الآمنة… وتعميم المعلومات عن هذه المراكز”، فباتت مئات العائلات في السيّارات وفي الشوارع في الساحات العامّة وعلى شاطئ البحر.

في الوقت الذي غابت فيه أجهزة الدولة، كان المتطوّعون من الأحزاب ولاسيّما حزب الله وحركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي أو متطوّعون من مبادرات فرديّة، يرشدون الناس. وبرزت في اليوم التالي لتوسّع العدوان نقاط لمتطوعين من هذه الأحزاب على مداخل بيروت وعند تقاطع بشارة الخوري يقدّمون مياه الشرب لعائلات علقت لساعات على الطريق ويرشدونها إلى مراكز إيواء افتتحتْها الأحزاب نفسها متسلّحة فيما بعد بتعميم وزير التربيّة الذي جاء “تثبيًا لأمر واقع فرضه الناس وغياب الدولة” على حدّ تعبير مصدر رسمي معنيّ بالإيواء. 

ويقول هذا المصدر لـ “المفكرة” إنّه في ظلّ “عدم تأمين أيّ أماكن بديلة لإيواء الأهالي النازحين، اتخذ وزير التربية قرارًا بوضع جميع المدارس والثانويات والمهنيات والمعاهد الرسمية بتصرّف لجنة تنسيق عمليات الكوارث التي بدأت باعتمادها حسب الحاجة حتى وصل عدد المباني التعليمية الرسمية المعتمدة إلى حوالي 650 مبنى بالإضافة إلى حوالي 70 مدرسة خاصّة”.

وفي الإطار نفسه، يُخبرنا مصدرٌ معنيّ بتنسيق المراكز في “حركة أمل” التي أدارت 53 مركز إيواء في بيروت الكبرى، أنّ الأحزاب بطبيعة الحال كان لها اليد الطولى في فتح المدارس، إذ أدّت دورًا وسيطًا بين الدولة والناس وهذا ما منع حصول فوضى برأيه وما قلّل من المشاكل. “نعم نحن فتحنا مدارس ولكنّها ملك عامّ، لم نقرب من الأملاك الخاصّة. نحن كنّا نتصل بمديري المدارس نطلب منهم فتحها. ونقوم بعدها مع المدير بحال تواجده، بإغلاق غرف النظّار والمديرين والمكتبة وكلّ غرفة تحتوي على أرشيف أو معدّات للمدرسة” يقول. ويضيف: “لو لم نفعل ذلك لكانت حصلت حالات شغب: فمئات العائلات كانت متواجدة في الشارع من دون مأوى في الأيّام الأولى لتوسّع العدوان، والدولة كانت غائبة”.

ويرى هذا المصدر أنّ وزير التربية طلب فتح المدارس لاحقًا ولكنّه فعليًا لم يفعل شيئًا لفتحها، لم يكلّف أحدًا للتنسيق مع الجمعيات والأحزاب وهناك مدراء شعروا أنّهم معنيّون وآخرون تجاوبوا وسارعوا إلى فتح المدارس، بينما الناس كانت على الطرقات. ويعتبر المصدر أنّ الخطة التي وضعتها الحكومة  كانت نظريّة وأنّه لم يطرأ عليها أي تعديلات تُجاري تطوّرات الأحداث. وهذا ما دفع الأحزاب إلى أخذ زمام المبادرة ووضع خططها هي للاستجابة للنزوح. ويقول: “نحن على سبيل المثال كنّا زرنا الوزراء والجهات المعنيّة ووضعنا خططنا وهيّأنا مجمّع الرئيس نبيه بري وحضّرناه بشكل يُسهّل استقبال النازحين في حال توسّع الحرب ولا يُعيق عمله في حال استقبال الطلاب”.

أطفال يلهون في باحة إحدى المدارس

الناس سبقت حتّى الأحزاب

ويقول المصدر إنّه ظهر الإثنين 23 أيلول، ومع بدء موجات النزوح الواسعة ولاسيّما من الجنوب كانت “حركة أمل”، بدأت بفتح المهنيّات وأنّ ولا إدارة من إدارات الدولة غير دائرة التعليم المهني كانت على السمع. “كنا ننتقل من مكان إلى آخر، نفتح مركزًا ونثبّت مجموعة منّا لإدارته بالتنسيق مع لجنة تنسيق مركزية من الحركة التي كانت تتُابع المشاكل وتُبادر هي للتنسيق مع البلديات والمحافظ والقوى الأمنية وليس العكس”. ويُضيف: “كلّ هذه الأمور كانت منسّقة على صعيد حزبي داخلي من قبل، ولكن ليس على صعيد الدولة ولم يكن هناك أيضًا تنسيق مسبق بين الأحزاب، التنسيق جاء في ما بعد”.

الأمر نفسه يؤكّده مصدر في “الحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي يُدير 6 مراكز في بيروت عبارة عن مدارس ومبان مهجورة. ويعتبر هذا المصدر في حديث مع “المفكرة” أنّ الناس سبقت حتّى الأحزاب فوضعت الأحزاب أمام خيارين: إمّا أن تضبط الإيقاع في ظلّ غياب الدولة أو الوقوف متفرّجة على أناس تُركت وحدها فقرّرت تدبّر أمورها. ويضيف: “نحن حاولنا تنظيم الوضع الأمر الذي كان على الدولة القيام به، فتسلّحنا بتعميم وزير التربية لنفتح المدارس، وبادرنا للاتصال بأصحاب الملك في المباني المهجورة التي دخلتها الناس لأخذ الموافقة منعًا لحصول مشاكل، وتسلّمنا إدارة هذه المراكز، وتعهّدنا بالإخلاء فور انتهاء الحرب وبالحفاظ على المباني”.

وليس بعيدًا، تُخبرنا مديرة مدرسة في ضواحي بيروت أنّها لم تكن تعلم أنّ اسم مدرستها كان مدرجًا كمركز إيواء وأنّها تلقّت في اليوم الأوّل لتوسّع العدوان اتصالًا من أحد تلامذتها يطلب منها فتح المدرسة لأنّ هناك نازحين على بابها: “عندي طُلّاب من منطقة الرويسات هنّي طلبوا مني فتح المدرسة” تقول. وتضيف: “أخبرتهم أنّه لا يُمكنني فتحها من دون طلب من الوزارة وبعدها بدقائق اتصل بي رئيس الدائرة التربوية في المنطقة وطلب مني فتح المدرسة وهكذا أصبحت مركزًا للإيواء، نعم الناس سبقت الدولة”. 

“عندي طُلّاب من منطقة الرويسات هنّي طلبوا مني فتح المدرسة”

وتلفت المديرة إلى أنّ الجهة التي طلبت منها فتح المدرسة قبل موافقة وزارة التربية هي الجهة نفسها التي أصبحت تُدير المدرسة بالتعاون معها، “بطبيعة الحال لا أستطيع إدارة مركز إيواء وحدي وأيضًا هناك واقع فُرض عليّ” تقول. 

ومع تزايد أعداد النازحين الواصلين إلى بيروت، توالى فتح المدارس والمعاهد الرسميّة ومباني الجامعات دائمًا عملًا بتعميم وزارة التربية، وتوالى تثبيت فرق من المتطوّعين فيها لإدارتها حسب هويّة الأشخاص الذين افتتحوا هذه المراكز، وارتبطت هويّة المتطوعين بشكل أو بآخر بطبيعة وهويّة المنطقة أو بعلاقة الحزب أو الجمعيّة بمدير المدرسة.

ويقول مصدر في اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية URDA التي تُدير 5 مدارس في بيروت، إنّه تمّ اختيار المدارس في العاصمة حسب العلاقة مع إدارات هذه المدارس، وإنّهم يقومون بالتنسيق مع معظم الجمعيّات في بيروت.

بالإضافة إلى المدارس الرسميّة، افتُتحت مدارس خاصّة، ويتحدّث الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان الأب يوسف نصر لـ “المفكّرة” عن تحويل 50 مدرسة خاصّة منها 20 مدرسة كاثوليكية إلى مراكز إيواء في لبنان. ويشير إلى أنّ ليس كلّ هذه المدارس افتتحت بموافقة صاحب الإجازة أي الجهة التي يجب أن تسمح بفتحها “فهناك مدارس خُلعت أبوابها من بعض الجهات ولم نستطع طبعًا في ما بعد إخراج الناس منها، وهناك أيضًا أصحاب مدارس قدّموها تضامنًا مع النازحين” يقول.

لم تتّسع هذه المدارس والمعاهد ومباني الجامعات لأعداد النازحين إلى بيروت، فافتتحت مراكز إضافيّة مثل مبنى العازاريّة وتحديدًا مكاتب “شركة أنترا” وسط البلد حيث كان الناس ينامون في العراء في محيط هذا المبنى الذي استلمته أيضًا جهة حزبيّة بعد أخذ موافقة الشركة. وكذلك مثلًا افتتح ملهى “سكاي بار” أبوابه لاستقبال النازحين بعدما كانوا ينامون على أبوابه وفي العراء وأُدير من موظفي هذا الملهى.  

ولمّا كان فتح مراكز الإيواء في بيروت جرى بالطريقة التي ذكرناها، يُصبح ربما من غير المنطقي السؤال إن كانت هذه المراكز ولاسيّما المدارس مجهّزة لتصبح مراكز إيواء لجهة المراحيض والحمّامات وتأمين الكهرباء والمياه أو أقلّه الفرش والأغطية، ولكنّنا سألنا المتطوّعين في المراكز عن الأمر على الرغم من تأكيد وكما ذكرنا سابقًا مصدر رسمي لـ “المفكرة” أنّ مرحلة تقييم وضع عدد من المدارس غير المستخدمة لم تكن قد انتهت بعد.

الجواب جاء كما كان متوقّعًا. فحتّى بعد مرور أسابيع على فتح هذه المراكز ولاسيّما المدارس والمعاهد ومباني الجامعات، كان بعضها يُعاني لجهة الحمّامات وتأمين مياه الخدمة والشرب ومن غياب الكهرباء والمياه الساخنة. أمّا الفرش والحرامات فكان تأمينها يجري تحديدًا في البداية، وفي معظم هذه المراكز عن طريق الأحزاب والمبادرات الفرديّة “حين سألنا المعنيين في إحدى الوزارات عن تأمين الفرش قبل توسّع العدوان جاءنا الردّ ماذا لو لم يتوسّع” يقول مصدر في أحد الأحزاب مضيفًا: “نحن كنّا أمّنا بعض الفرش وطبعًا مبادرات فرديّة غير حزبيّة”.   

طفلة نازحة عند المغاسل في أحد مراكز الإيواء في بيروت

صيدا حيث نسّقت الأحزاب مع البلديّة 

في صيدا حيث افتُتح 25 مركزًا ضمّ 9 آلاف شخص، وحيث اقتصرت المراكز على الجامعة اللبنانية ومهنيّات ومدارس رسمية، أدّت أيضًا أحزاب المدينة دورًا أساسيًّا في فتح هذه المراكز ومن ثمّ في إدارتها،  ومنها التنظيم الشعبي الناصري عن طريق مؤسّسة معروف سعد الثقافية، وتيّار المستقبل فضلًا عن جمعيّات من المجتمع المدني مثل جمعية التنمية للإنسان والبيئة وجمعيّات إغاثيّة مثل اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية URDA.

ولكنّ الآليّة كانت مختلفة عن بيروت: إذ يُخبرنا من التقيناهم من متطوعين يُديرون مراكز إيواء ويمثّلون الأحزاب الناشطة في المدينة وبعض الجمعيات، أنّ اجتماعات مسبقة أي قبل توسّع العدوان، عُقدت بين القوى السياسيّة في المنطقة ومع المحافظة والبلديّة حُدّد خلالها عددٌ من المدارس والمعاهد ومبان للجامعة اللبنانيّة كمراكز إيواء مُحتملة انطلاقًا من تجربة النزوح في العام 2006. وتمّ بالاتفاق، توزيع هذه المراكز على هذه القوى والجمعيات، ولم يتجاوز عدد المراكز العشرة بداية ومع ازدياد أعداد النازحين بدأت تُحدّد مدارس إضافيّة انطلاقًا من تعميم وزارة التربيّة، وتسليم إدارتها للأحزاب والجمعيّات التي كانت أبدت استعدادها للأمر قبل الحرب.

“نحن فتحنا منذ اليوم الأوّل لتوسّع العدوان وشبابنا كانوا يعرفون إلى أين يتّجهون، وكنّا حضّرنا بشكل أوّلي المبنيين المهجورين لمهنيّة صيدا وتم تنظيفهما، كان هناك تنظيم مسبق بيننا نحن كمتطوعين في مؤسّسة معروف سعد التي تدير حاليًا 12 مركز إيواء، وأيضًا مع القوى الناشطة في صيدا ومع البلدية والمحافظة” يقول إبراهيم أرناؤوط وهو متطوّع لإدارة مهنيّة صيدا أوّل المراكز التي افتتحت في المدينة.

الأمر نفسه يُكرّره مازن حشيشو المنسّق العام لتيّار المستقبل في الجنوب حيث يدير التيّار 3 مراكز إيواء في صيدا”: “من اليوم الأوّل وبناء على الاجتماع مع القوى السياسيّة والبلدية والمحافظة كنّا نعلم ما هي المراكز التي سنديرها ، واكتفينا بـ 3، ليتسنّى لنا إدارتها بالشكل الأفضل” يقول.

وفي الإطار نفسه، يقول متطوّع من جمعية التنمية للإنسان والبيئة التي تُدير مدرسة “حكمت صبّاغ الرسمية” في صيدا إنّ الجمعيّة كانت تعرف المراكز التي من المفترض أن تديرها في حال توسّع العدوان: “عُقد اجتماع  قبل يوم مع البلدية ولجنة إدارة الكوارث وكان واضحًا لكلّ جهة أين تتجه” يقول.

أدّى هذا التنسيق المسبق بين القوى السياسيّة من جهة وبينها وبين البلدية والقامقاميّة دورًا إيجابيًّا في الإسراع بإيواء الناس، إذ كان المتطوعون في إدارة المدارس يقومون بدور في توجيه الناس إلى مراكز أخرى بعد وصول مراكزهم إلى القدرة الاستيعابيّة القصوى: “كنّا على تواصل مع المتطوعين في مختلف المدارس فكنّا نرشد الناس إلى حيث لا يزال هناك أمكنة، وكذلك كانت تفعل البلدية عبر تواصلها معنا، ولكن هذا لم يمنع بقاء أناس لأيّام من دون مأوى، فالمراكز كانت تمتلئ بعد ساعات من فتحها” يقول أحد المتطوعين في صيدا. 

لم تكن هذه المراكز كما في بيروت مجهّزة أيضًا. فخلال جولتنا على عدد منها تحدّث المتطوعون عن نقص في القواطع بين الغرف والمياه الساخنة والتدفئة، ولكنّ هذا التنسيق ساهم في الإسراع بتأمين الاحتياجات الأساسيّة من فرش وحرامات.

يصلّي على محرمة لأنّه لم يتسنّ له الوقت لإحضار سجّادة الصلاة

شمالًا لا وجود للأحزاب 

شمالًا في طرابلس وعكّار حيث بدأ توافد الناس في الأيام التالية لتوسّع العدوان، يكاد يكون دور القوى السياسيّة أو الأحزاب في فتح المدارس والمعاهد معدومًا أقلّه على الأرض حسب ما يّؤكّد متطوّعون ومدراء مدارس التقينا بهم. مع الإشارة إلى أنّ بعضهم تحدّث عن ضغوطات من قبل جهات دينيّة وسياسيّة على بعض المدراء لاستقبال النازحين السوريين الهاربين من العدوان الإسرائيلي. وهذا ربما ما يُفسّر تخصيص أكثر من مدرسة لإيواء السوريين في طرابلس كما كان حال مدرسة “الغرباء” و”مي الثانية” واستقبال المدارس الأخرى لعائلات سورية في طرابلس وعكّار الأمر الذي كان شبه غائب في بيروت وموجودًا بشكل خجول في صيدا حيث لاحظنا وجود عائلات سورية ولكن بأعداد قليلة جدًا في مدارس المدينة. 

استقبلت طرابلس 1400 عائلة في مراكز النزوح توزّعت على 34 مركز إيواء كانت عبارة عن مدارس رسميّة ومعاهد وفندق واحد. ارتبط فتح المدارس والمعاهد بشكل أساسيّ في طرابلس بتعميم وزير التربية إذ كان تحديد هذه المراكز يأتي عن طريق القائمقام والمحافظ واللذين كانا “حدّدا ما هي الجمعيات التي تستلم المدارس ووجهتهم إليها” إليها حسب ما يقول وليد الشامي متطوّع من هيئة الإسعاف الشعبي في مدرسة الجديدة في طرابلس وحسب ما أكّد أكثر من متطوّع أو مدير مدرسة التقينا بهم. ولذلك كانت مراكز النزوح تُدار بشكل أساسي عبر متطوعين من كشّاف التربية وكشّاف التقدّمي أو متطوعين من جمعيات ناشطة مثل هيئة الإسعاف الشعبي.

في عكّار أيضًا حيث افتتح 90 مركز إيواء (مدارس ومهنيات فقط) ضمّت 7539 نازحًا، ارتبط فتح المراكز بتعميم وزير التربية والمبادرات الفرديّة التي كانت تتّصل بالمدير وتطلب منه فتح المراكز. لذلك بدا كأنّ مسؤوليّة الإدارة متروكة لمدراء المدارس بشكل أساسي في هذه المنطقة: “هنا المدارس افتتحت عبر مبادرات فرديّة عن طريق المدراء” تقول ناشطة في الإغاثة في عكّار مضيفة: “عند وصول الناس إلى عكّار، لم يكن هناك من يوجّهها، كنّا نحن كناشطين ومتطوّعين نتواصل مع المدراء، ونرشد الناس، نتواصل مع البلديات مع الجهات الرسميّة، نحن سبقنا الدولة”.

لم تكن هذه المراكز مجهّزة بشكل مسبق كما في كافة المناطق التي زرناها، إذ إنّ تجهيز الحمّامات والمياه الساخنة جاء بعد توسّع العدوان وكذلك كان تأمين الاحتياجات الأساسيّة ولاسيّما بداية عبر متطوّعين ومبادرات فرديّة. “ما كان في حرام ولا فرشة، المدراء افتتحوا المدارس ليلًا، ولكنّ الناس من جيران وناشطين أمّنوا الفرش والحرامات بداية” تقول ناشطة في الإغاثة في عكّار وكذلك يُكرّر من التقيناهم من نازحين كانوا أوّل الواصلين في طرابلس وعكّار. 

ويًشار إلى أنّه خلال جولاتنا على المراكز في المناطق، لم نرصد وجودًا ملحوظًا لشعارات تدلّ على هويّة الحزب الذي كان متطوّعوه يُديرون المراكز، إذ اقتصر الأمر وفي عدد من المراكز على متطوّع يرتدي سترة عليها شعار حزب معيّن. ويعود عدم بروز هويّة المتطوعين حسب ما كرّر عدد منهم إلى أمرين بشكل أساسي، وهما عدم صبغ المركز بهويّة معينة قد تُشكّل استفزازًا للمحيط وثانيهما أنّ الأحزاب كانت متواجدة بشكل أساسي من خلال المؤسّسات الاجتماعيّة أو الصحيّة أو الكشفيّة التابعة لها. 

لكن عدم ظهور الهويّة الحزبيّة للمتطوّع لا يعني أنّها غير معروفة للنازحين. فبطبيعة الحال يعرف الناس الأحزاب التي تقف وراء هذه المؤسّسات، والمتطوعون يرتدون سترات عليها شعار المؤسّسة، كمّا أنّ المتطوّعين والمتطوّعات يعرّفون عن أنفسهم وبالتالي يعلنون الجهات التي ينتمون إليها. وهو أمر يطرح سؤالًا عن الاستثمار السياسي الذي قد يكون بارزًا أكثر ليس من خلال المتطوّعين بل من خلال الجهات التي كانت تقدّم المساعدات وهذا ما سنبيّنه لاحقًا ومن خلال الخطابات السياسيّة لجهة الموقف من استقبال النازحين من عدمه.   

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني