بتاريخ 24 أبريل 2024 أصدرت محكمة الاستئناف بمراكش حكما مبدئيا[1] قضى ببطلان قرار مجلس هيئة المحامين القاضي برفع مبالغ رسوم الانخراط في المهنة، حيث اعتبرت المحكمة في قرارها غير المسبوق أن تمكين مجلس الهيئة من تحديد مبالغ مرتفعة تفرض على المرشحين للولوج إلى المهنة سيكون بمثابة “تمليك المهنة للمهنيين وإعطائهم خارج القانون صلاحية اقتصار الولوج إليها على الفئة الميسورة، ضدًا على فلسفة الدستور الذي يجعل المواطنين سواسية أمام القانون”. القرار الذي تنشره المفكرة القانونية يعيد الى الجدل من جديد إشكالية ارتفاع واجبات الانخراط في مهنة المحاماة في المغرب والتي وصلتْ إلى مستويات هائلة بشكل أضحى يهدد بجعل المهنة حكرا على أبناء الفئات الميسورة.
ملخّص القضية
تعود فصول القضيّة إلىتاريخ 18 مارس 2024 حينما تقدّم الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بمراكش بطعن أمام غرفة المشورة بالمحكمة ضدّ قرار مجلس هيئة المحامين الصادر بتاريخ 29 فبراير 2024 والذي قضى بمراجعة وتعديل رسوم الانخراط في الهيئة، وتحديده في مبلغ 130.000 درهم (حوالي 13 ألف دولار) بالنسبة للطلبة المغاربة، و400.000 درهم (حوالي 40 ألف دولار) بالنسبة للقضاة والموظفين ورجال السلطة وأساتذة التعليم العالي، ومبلغ 1.000.000 (حوالي 100 ألف دولار) بالنسبة للمحامين الأجانب المنتمين إلى هيئة تربطها مع المغرب اتفاقية دولية متعلقة بممارسة المهنة، وبالنسبة للمحامين المغاربة المنتقلين من هيئة إلى أخرى في 130.000 درهم (13 ألف دولار) بالنسبة للمحامين المتمرنين، و250.000 درهما (25 ألف دولار) بالنسبة للمحامين الرسميين.
وأسس الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف طعنه ضد هذا القرار على تجاوز مجلس الهيئة لنطاق اختصاصاته، إذ أن المادة 91 من قانون المهنة حدّدت حصرا اختصاصات مجلس الهيئة وليس من بينها فرض الضرائب و”المكوس” التي تبقى من الاختصاصات الحصرية للسلطة التشريعية تمارسها بموجب القانون، معتبرا أن اشتراط أداء رسم الانخراط خارج إطار القانون المنظم للهيئة يعتبر تطاولا على اختصاصات المشرع.
وقدم مجلس الهيئة مذكرة دفاعية تمسك فيها بأن القرار المطعون فيه يعتبر من القرارات التي يصدرها مجلس الهيئة في إطار التسيير الداخلي لشؤون المهنة، ولا حق للنيابة العامة في الطعن فيه، لانعدام الصفة والمصلحة، ملتمسا عدم قبول الدعوى شكلا.
أما في الموضوع فقد ركز دفاع مجلس الهيئة على اعتبار قرارها صادرا في إطار القانون، مادامت المادة 20 من قانون الهيئة تشترط لقبول طلب المرشح للتسجيل بجدول الهيئة أداء واجب الانخراط، فضلا عن أن كل ملتحق بالمهنة يستفيد بمجرد قبوله من مجموعة مشاريع أنجزت من طرف الهيئة طبقا لمقتضيات النظام الداخلي، ملتمسا أساسا رفض الطعن.
موقف المحكمة
استجابت المحكمة للطعن المقدم من طرف النيابة العامة وقضت ببطلان قرار مجلس هيئة المحامين القاضي برفع مبالغ واجبات الانخراط المفروضة على الراغبين في الالتحاق بالمهنة، معتمدةً على العلل التالية:
- لا وجود لمقتضى قانوني يستلزم توفر النيابة العامة على المصلحة لتقديم طعنها ضد مقررات مجلس هيئة المحامين متى تبيّن أنها مخالفة للقانون، لكونها شخصا معنويا عاما يحرص على تطبيق القانون في مختلف المجالات حفاظا على النظام العام ومصلحة المجتمع والنظام العام المهني المرتبط أساسا بما تقدمه مهنة المحاماة كباقي المهن المساعدة للقضاء من خدمات للمجتمع ترتبط بإنتاج العدالة وتوفير مناخ الاستقرار المعاملاتي للأفراد بغية تحقيق الأمن القضائي.
- التمييز بين واجبات الانخراط وواجبات الاشتراك من حيث الاصطلاح وهو ما تحدده وضعية الملزم بها، فإذا كان ينتمي بتاريخ أدائها للهيئة فهي تسمى واجبات اشتراك، وإذا كان خارج هذه الهيئة فهي تسمى بواجبات الانخراط، لأن بموجبها يتمّ الانخراط في الهيئة وطلب الولوج اليها هي سبب أدائها، لذلك فإن أول واجب مالي يؤديه المرشح للعضوية يسمى واجب الانخراط، والقول بأن واجبات الانخراط تختلف عن واجبات الاشتراك مقدارا أو طبيعة لا يجد أيّ سند في القانون، ذلك أنّ سنّ قواعد تحدد رسوما أو مكوسا أو مبالغ تلزم المواطنين إنما جعله الدستور باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة من الاختصاصات الحصرية للمشرع دون غيره.
- الأسس المبررة لتحديد ووجود واجبات الانخراط والاشتراك في مهنة المحاماة هي نفسها الأسس المبررة لهذه الواجبات في باقي الهيئات والجمعيات والمهن الحرة، ومنها القوانين المنظمة لمهن المهندسين المعماريين، والأطباء، والمحاسبين المهنيين، والمفوضين القضائيين، وغيرها من المهن المنظمة قانونا، والتي تحدد من طرف الهيئات المسيرة للمهنة انطلاقا من حاجيات التدبير المهني للمهنة، على شكل “إتاوات” دورية وجدت لتسهيل التسيير الذاتي لهذه الهيئات انسجاما مع استقلالها الإداري، ومن ثمّ، لا يمكن لنطاقها أن يتجاوز ما هو مستلزم للتسيير المالي للهيئة، ولا أن يشكل أية عرقلة للولوج الى المهنة عن طريق إضافة شروط غير منصوص عليها قانونا من قبيل أداء مبالغ “ضخمة” غير التي يلزم بها باقي أعضاء الهيئة كرسم اشتراك.
- من خلال استقراء الاختصاصات المخولة لمجلس الهيئة يتضح أنه مخول سنّ قواعد النظام الداخلي، هذه القواعد تطبق على المنتمين للهيئة ولا يمكن لما يتخذه من قرارات أو قواعد أن يتجاوز الأعضاء المكونين للهيئة على اعتبار أن الجهة المخول لها اتخاذ القواعد العامة المجردة لتطبيقها على كافة المواطنين هي الجهة التشريعية عبر القواعد القانونية، طبقا للمادة السادسة من الدستور، ومن ثمّ، فإن مجلس الهيئة يحدد رسوم انخراط خاصة تطبق على كل من يود ولوج مهنة المحاماة بالدائرة المذكورة سيكون من قبيل تمكين المجلس المذكور من اختصاصات يتجاوز نطاق القانون التشريعي.
- أغلب الأنظمة القانونية المشابهة للقانون المغربي لا تفرض شروطا مالية خاصّة كواجبات للانخراط منفصلة عن واجبات الاشتراك الخاصة بهيئة أو نقابة أو جمعية للمحامين، منها القانون الفرنسي باعتباره مصدرا تاريخيا للقانون المنظم للهيئة بالمغرب، اذ لا يتضمّن أي شرط من هذا القبيل، وكذلك القانون السنغالي الذي لا يستلزم أيّ مبلغ كواجب للانخراط في المهنة، ونفس الأمر بالنسبة للانضمام لبعض هيئات المحامين بالولايات المتحدة الأمريكية الذي لا يشترط أيّ واجب ماليّ كمقابل للولوج الى مهنة المحاماة، وأنه حتى بالنسبة للقوانين التي نصت على هذا الشرط فإنها قيدته سواء من حيث الجهة التي لها صلاحية تحديد مبلغ واجب الولوج للمهنة، وأعطت صلاحية تحديده للسلطة الحكومية ممثلة في وزير العدل أو من حيث مقدار المبلغ الذي يجب ألا يتجاوز ما هو متطلب لدراسة طلب القيد.
- تمكين مجلس الهيئة من تحديد مبالغ تفرض على من يود الولوج الى المهنة سيكون من قبل تمليك المهنة للمهنيين وترك الحبل على الغارب وإعطائهم للمهنيين خارج القانون صلاحية اقتصار الولوج إليها على فئة من يتوفّر على هذه المبالغ لا غير ضدا على فلسفة الدستور الذي يجعل المواطنين سواسية أمام القانون.
تعليق على الحكم
يعيد هذا الحكم الذي تنفرد المفكرة القانونية بنشره الى الواجهة إشكالية مبالغة عدد من مجالس هيئات المحامين بالمغرب في فرض رسوم مرتفعة على المرشحين الراغبين في التسجيل بالهيئة لممارسة المحاماة، ففي الوقت الذي تبرر فيه مجالس الهيئات موقفها بحماية المهنة من إغراقها بعدد كبير من المرشحين، خاصة بعد لجوء الدولة إلى فتح مباريات الأهلية لممارسة مهنة المحاماة لامتصاص الأعداد الكبيرة من خريجي كليات الحقوق، من دون الالتزام بتعهداتها السابقة بإنشاء معاهد لتكوين المحامين، فضلا عما توفره واجبات الانخراط من مداخل مالية مهمة تنعش ميزانية مجالس الهيئات وتمكنها من النهوض بالجانب الاجتماعي للمهنة من خلال إنشاء نوادي ومراكز اجتماعية، وبناء مقرات لائقة.
في المقابل يرفض المعارضون لهذه الخطوة رفع رسوم التسجيل في مجالس الهيئات باعتبارها تحول دون ولوج أبناء الطبقات الاجتماعية غير الميسورة، وتؤدي الى احتكار المهنة، وهو ما أدى في وقت سابق إلى ظهور حركات احتجاجية تمثلت في تنسيقية وطنية للحاصلين على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة والتي حددت مطلبها الأساسي في إلغاء رسوم الاشتراك، أو على الأقل تأجيل موعد أدائها وتقسيمها إلى أقساط، ونظمت عدة مظاهرات أمام البرلمان للمطالبة بالأخذ بعين الاعتبار بهذا المطلب في مسار مراجعة القانون المنظم لمهنة المحاماة.
كان لافتا في الحكم أنه اعتمد على حجج متنوعة من الدستور الذي يكرّس مبدأ المساواة أمام القانون، ويجعل للبرلمان صلاحية التشريع في فرض الضرائب وغيرها من التكاليف المادية بشكل حصري، ومن قانون المهنة والقوانين الداخلية لمجالس الهيئات، وكذا من خلال الانفتاح على قوانين مقارنة متنوعة من أفريقيا (التجربة السنغالية)، وأوروبا (التجربة الفرنسية كمصدر تاريخي لقوانين مهنة المحاماة بالمغرب)، وأمريكا (من خلال قوانين الهيئة بعدد من الولايات).
يثير الحكم إشكالية تأويل عدد من النصوص الواردة في قانون مهنة المحاماة والنظام الداخلي لمجالس الهيئات، فبينما تنص المادة 20 من قانون المهنة على أن مجلس الهيئة يبتّ في طلبات التسجيل في الجدول بعد استكمال عناصر البحث داخل أجل أربعة أشهر من تاريخ إيداع الطلب وأداء واجبات الانخراط، فضلا عن المادة 91 التي تجعل من بين اختصاصات مجالس الهيئات إدارة أموالها وتحديد واجبات الاشتراك، وتعتبر مجالس الهيئات أن هذه النصوص هي سندها في فرض واجبات الانخراط، إلا أن النيابة العامة ترى أن مقتضيات قانون المهنة لا تنص على تقييد قبول طلبات الانخراط في الهيئة على شرط أداء مبلغ مالي، وأن مجالس الهيئات تخلط بين واجبات الاشتراك المفروضة على المحامين، وواجبات الانخراط في المهنة لأول مرة، والذي يمكن استرجاعه في حالة عدم قبول طلب التسجيل.
كان لافتا في الحكم أنه استند على البعد الاجتماعي للقول بعدم قانونية رفع واجبات الانخراط في الهيئة حينما اعتبر أن فرض رسوم “ضخمة” من شأنه أن يحصر الولوج الى المهنة على أبناء الفئات الميسورة، وكان واضحا أن المحكمة استحضرت الدور الاجتماعي للنيابة العامة في تقديم طلب الطعن، حينما أشارت إلى دورها في الحفاظ على النظام العام، بل وعلى دور مهنة المحاماة كمدافعة على الحقوق والحريات وعلى انتاج العدالة، وهو ما لا يجوز معه أن تصبح فضاء لتكريس التمييز بين الفئات الاجتماعية.
يتزامن صدور هذا الحكم القضائي مع نقاش عمومي واسع حول مراجعة قانون مهنة المحاماة أمام تقديم أكثر من مشروع ظل عالقا أمام البرلمان، بعد تعثر الحوار بين وزارة العدل ومجالس الهيئات والجمعيات المهنية المختلفة في ظل تزاحم مشاريع اصلاح القوانين المتعلقة بالعدالة والولوج الى القضاء.
للاطلاع على مقال النيابة العامة بالطعن في مقرر مجلس هيئة المحامين بمراكش
قرار غرفة المشورة بمحكمة مراكش ببطلان قرار مجلس هيئة المحامين برفع واجبات الانخراط في المهنة
مواضيع ذات الصلة
محكمة النقض بالمغرب تفصل في الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة
عشــرون مقترحــا من أجل قانون حديث لمهنة المحاماة بالمغرب
قرار قضائي يرفض مبدأ الكوتا النسائية في انتخابات محامي أكادير
إلغاء قرار تشطيب محامٍ من جدول هيئة مكناس على خلفية تدوينة
واجبات الإنخراط في المحاماة تصل مستويات هائلة في المغرب: حين تصبح مهنة المحاماة حكرا على الفئات الميسورة
مقترح قانون حول مهنة المحاماة في المغرب: وحدة المهن القانونية لا تقنع الجميع
بوادر مواجهة بين إدارة الضرائب والمحامين الشباب بالمغرب
نقيب محامي الدار البيضاء يستنكر تصرفات بعضهم ويدعو إلى احترام وقار المهنة
بلاغات متتالية لهيئات محامي المغرب صونا لأعراف المحاماة: هيئة الدار البيضاء تستدعي المحامين في قضية بو عشرين
الفصل الأخير من قضية قاضي الرأي المعزول في المغرب: استئناف تطوان تقرّ حق الهيني بممارسة المحاماة
للقاضي المعزول بسبب الرأي ممارسة المحاماة: قرار مبدئي لمحكمة النقض
بعد عزل الهيني، هل يحق لقضاة الرأي المعزولين ولوج مهنة المحاماة؟
حرية المحامين في التداول في قضاياهم العالقة إعلاميا: قرار مبدئي لنقيب المحامين في تطوان
قرار قضائي بالمغرب يمنع الحجز على أموال هيئة المحامين
محامو المغرب ينتقدون تقليص دور الدفاع في مقترح المسطرة المدنية
[1] قرار غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف بمراكش رقم 146 صادر بتاريخ 24 أبريل 2024، في الملف 86/1124/2024.