“
نازلة فريدة عرضت مؤخرا على محكمة النقض بالمغرب على إثر صدور قرارين قضائيين مختلفين بشأن المحكمة المختصة للنظر في الأفعال الجرمية المتعلقة باختلاس صندوق ودائع المحامين. وهي القضية التي هزت الرأي العام المغربي، حيث أصدرت محكمة النقض قرارا[1] وصف بالمبدئي على أساس أنه تضمن مقتضيات ترسخ المبادئ التي ترتكز عليها مهنة المحاماة.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى سنة 2015 حين اهتزّ الجسم القضائي على وقع ما وصف بأكبر عملية فساد تطال مؤسسة حساب ودائع المحامين بالمغرب منذ إنشائها. فقد وقف مجلس هيئة المحامين بالقنيطرة صدفة على فضيحة اختلاس مبالغ مالية كبيرة، قاربت مليار سنتيم، من حساب ودائع وأداءات المحامين المسجلين بجدول الهيئة. وقد تبين فيما بعد، أنها سحبت بطرق غير قانونية وفي ظروف مشبوهة، من طرف محامٍ ينتمي إلى الهيئة نفسها. وبعد إلقاء القبض على هذا الأخير، أحيل على المحكمة الابتدائية حيث توبِع بتهمة المشاركة في التزوير في شيكات بنكية، واستعمال شيكات بنكية مزورة، والسرقة، وهي أفعال تعتبر جنحا تدخل ضمن اختصاص المحكمة الابتدائية.
المحكمة الابتدائية بالقنيطرة تحكم بعدم الاختصاص
خلص الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة، إلى عدم اختصاصه نوعيا للنظر في القضية، لكونها تعد جناية تدخل ضمن اختصاص قسم جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط معتمدا الحيثيات التالية:
-هيئات المحامين بالمغرب، تعتبر بمسكها لحساب ودائع وأداءات المحامين في إطار المادة 57 من قانون المهنة “كالأمين العمومي القضائي”، وأن تلك الودائع تعتبر أمولا عمومية؛
-هيئات المحامين في تدبيرها الودائع تقوم بتحقيق مصلحة ذات نفع عام خاضعة بحكم طبيعتها للمراقبة، إذ يتعين وفقا للمادة 91 من قانون المهنة أن تتم المصادقة على النظام الداخلي لحساب ودائع و أداءات المحامين، بما للنيابة العامة ومحكمة الاستئناف من دور تطبعه الرقابة على حسن التدبير؛
-الاجتهاد القضائي يجعل المحامي مساعدا للقضاء يساهم بدوره في تدبير مرفق العدالة كقطاع عام، والذي يستفيد في إطاره من الحماية المقررة للموظف العمومي، فكل من سب أو قذف أو هدد محاميا أثناء ممارسته لمهنته أو بسببها يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصل 263 من القانون الجنائي[2].
قرار قاضية التحقيق بغرفة جرائم الأموال
بعد إحالة القضية على غرفة جرائم الأموال، أصدرت قاضية التحقيق قرارها والذي قضى بدوره بعدم الاختصاص في النظر في القضية لكونها تعد جنحة وقد اعتمدت على الحيثيات التالية:
-صفة الموظف العمومي كما هي محددة في الفصل 224 من القانون الجنائي[3] تنتفي في حق المحامي استنادا للمادة الأولى من قانون المهنة المعتبرة بمقتضاها مهنة المحاماة مهنة حرة وكذا الاستقلالية في القيام بمهامها التي تقتضيها ممارسة المهنة؛
-صبغة المساهمة في تحقيق مصلحة ذات نفع عام تنتفي، لأن نقابات المحامين ليست مصالح ذات نفع عام لأنها من حيث أنشطتها ومواردها المالية تبقى خاضعة لقانون المهنة، وأن الرقابة التي تسلط على ماليتها منوطة بنقيب الهيئة وأعضاء مجلسها؛
-المتهم ليس نقيبا ولا عضوا في الأجهزة التسييرية للنقابة، ولم تكن المبالغ المالية المستولى عليها بين يديه.
قرار محكمة النقض المتعلق بالبت في تنازع الاختصاص
بعد إحالة القضية على محكمة النقض للبت في تنازع الاختصاص، خلصت المحكمة إلى تأييد قرار قاضية التحقيق بغرفة جرائم الأموال. وقد شكل القرار مناسبة فريدة لتحديد الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة باعتبار ذلك مؤشرا جوهريا في تحديد اختصاص النظر في القضية.
واعتمد قرار محكمة النقض على العلل التالية:
–المشرع حدد الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة، والمتجلية في الحرية والاستقلال، سواء للمؤسسات المهنية أو بالنسبة للمحامين، وهي الطبيعة التي تتنافى وضوابط الوظيفة العمومية، القائمة على السلطة الرئاسية والتسلسل الإداري؛
-ان تدبير وتسيير هيئة المحامين لحساب ودائع وأداءات المحامين يتم تنفيذا لنص المادة 57 من القانون 28.08، كما أن مسك الهيئة للحساب المذكور لا يجعل منها مصلحة ذات نفع عام، ما دامت الصبغة الأساسية للمهنة هي الاستقلالية، من جهة، ومن جهة ثانية، لكون موارد الحساب ليست متأتية من أموال عمومية، ما دام من الثابت أنها مملوكة للمحامين ولموكليهم، أي لخواص.
-قانون المهنة نص على أن الحساب المذكور يقع تحت المراقبة المستمرة لنقيب الهيئة وأعضاء مجلسها عند الاقتضاء، من دون أن يكون النقيب في ممارسته لهذه المهمة محاسبا ماليا.
– طريقة تنظيم الحساب المذكور حددت بالنظام الداخلي طبقا للفقرة الثامنة من المادة 91 من دون أن يكون للأجهزة العمومية أي دور. فالنقيب و بمجرد توصله بالودائع يقوم بواسطة معاونيه بإشعار أصحابها و السهر على تمكين كل منهما أسوة بين المحامي وزبونه بما يستحق من دون أن تكون له أية صفة عمومية في ما يقوم به، بل يغلب عليها الطابع المهني المتسم حسب فلسفة قانون مهنة المحاماة بالاستقلالية
-اعتبار ما يتعرض له المحامي أثناء تأدية واجبه المهني من اعتداء يشكل إهانة بمفهوم الفصل 263 من القانون الجنائي لا يصلح أساسا قانونيا للقول بأن المحامي يدخل في زمرة المعنيين بمفهوم الموظف العمومي لأن هذا المقتضى إنما هو مقرر للتدليل على تحصين حق الدفاع الذي يمارسه المحامي و لم يتم إيراده ليعتبر موظفا عموميا تسري عليه أحكام الفصل 224 و 241 من القانون الجنائي.
وتأسيسا على ما سبق قضت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض و”هي تبت في قضية تنازع الاختصاص اعتبار الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة في الملف الجنحي رقم 4037/2103/16 لاغيا وغير نافذ المفعول فيما قضى به من عدم الاختصاص النوعي. وتصرح نتيجة لذلك بأن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة هي المختصة نوعيا للنظر في القضية. وتأمر باحالة المتهم وملف القضية على المحكمة الابتدائية بالقنيطرة لمواصلة المحاكمة وتحميل الخزينة العامة الصائر”.
يُنتظر أن يثير هذا الحكم الكثير من النقاشات بين مؤيد ومعارض. تفتح المفكرة صفحاتها لهذه الآراء بالنظر إلى أهميتها على صعيد المنطقة العربية ككل.
[1] -قرار محكمة النقض عدد 1331/8، المؤرخ في 16/08/2018، في ملف جنحي عدد: 15490/6/8/2018، غير منشور.
[2] – ينص الفصل 263 من القانون الجنائي على ما يلي: “يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من رجال القضاء أو من الموظفين العموميين أو من رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم.
وإذا وقعت الإهانة على واحد أو أكثر من رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين في محكمة، أثناء الجلسة، فإن الحبس يكون من سنة إلى سنتين.“
[3] -ينص الفصل 224 من القانون الجنائي على أنه: ” يعد موظفا عموميا، في تطبيق احكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد اليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة او مهمة ولو مؤقتة باجر او بدون اجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة، او المصالح العمومية او الهيئات البلدية، او المؤسسات العمومية او مصلحة ذات نفع عام.
وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ومع ذلك فان هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، اذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة او مكنته من تنفيذها”.
“