كانت جنوب أفريقيا تعي جيّدًا أبعاد الدّعوى التي قدّمتها ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة لوقف ما اعتبرتْه إبادة جماعيّة ضدّ جزءٍ من الشّعب الفلسطيني. ففي وقت حاصرتْ فيه سلطات الشّمال السياسي أيّ تحرّك أو انتقاد ضدّ إسرائيل بتهم “التّرويج للإرهاب” و”مُعاداة السامية”، رمتْ الدعوى إلى مطالبة المحكمة بالانقلاب على كل ذلك من خلال إعلان مسؤولية إسرائيل في ارتكاب الجريمة الأكثر جسامة في القانون الدوليّ الإنسانيّ أي الإبادة الجماعيّة. وما زاد من أهميّة هذه الدعوى أقلّه من الناحية الرمزيّة، هو أنّ المدعيّة فيها هي دولة رزح شعبها لعقود طويلة تحت نظام الأبارتهايد قبلما يتحرّر منه، وأنّ المدّعى عليها فيها تستمدّ سبب وجودها من تعرّض اليهود لإبادة جماعية في أوروبا “الهولوكوست” وهي بدورها في معرض ارتكاب إبادة أخرى ضدّ شعبٍ آخر. وبفعل ذلك، سرعان ما وجدت المحكمة نفسها في قلب صراعٍ عالميّ يتعدّى الأطراف الماثلين أمامها: فهل هي حربٌ تشنُّها إسرائيل دفاعًا عن نفسها كما يدّعي أغلب قادة الشمال ذي التاريخ الاستعماريّ، أم أنّها حربٌ هدفها إبادة الشّعب الفلسطيني بهدف الاستيلاء على أرضه، كما ترى جنوب أفريقيا والعديد من الدول التي ما تزال ذاكرة هذا التاريخ حيّة فيها؟
وعليه، تباينت التكهّنات بشأن القرار الذي ستصدرُه المحكمة. بل ذهب البعض إلى افتراض مواقف أعضائها انطلاقًا من مواقف الدول التي ينتمون إليها رغم أنّ نظام المحكمة يكرّس استقلاليّتهم إزاء دولهم. في المقابل، بقيتْ جنوب أفريقيا ومعها مرجعيّات أمميّة وحقوقيّة عدّة تأمل أن ينتصر غالبية قضاة المحكمة لأحكام القانون الدوليّ وبخاصّة في ظلّ جسامة الجريمة المرتكبة، حفاظًا على مصداقيّتها. وفيما انتعشت هذه الآمال بفعل إعلان المحكمة صلاحيّتها للنظر في الدعوى وتأكيدها وجود احتمال حصول إبادة جماعية ضدّ الشّعب الفلسطينيّ (26/1/2024)، فإنّ قرارها عكس في المقابل حذرًا شديدًا تمثّل في إغفال مطلب جنوب أفريقيا في إلزام إسرائيل وقف عمليتها العسكرية في غزّة. فكأنّما المحكمة بنتْ قرارها على توازن دقيق بين ضرورة إثبات مصداقيّتها في تطبيق القانون الدولي وتحديدًا اتفاقية حظر الإبادة الجماعية من جهة وتجنُّب شبهة أو تهمة التحوّل إلى سلاح سياسيّ من خلال اتخاذ قرار بمنع الحرب بحدّ ذاتها من جهة أخرى (وهي تهمة سبق وأثارتها الولايات المتحدة الأميركية في وجهها وبخاصّة في القضية التي رفعتها ضدّها نيكاراغوا في 1984). إلّا أنّ التدقيق في مفاعيل هذا القرار والتطوّرات اللاحقة به يبيّن أنّ المحكمة ضمّنت قرارَها آليّات تسمح لها بتجاوز حدود حذرها لاحقًا، في اتّجاه توجيه أوامر أكثر وضوحًا وصرامةً ضدّ إسرائيل، إذا رأت حاجة إلى ذلك. وهذا ما سأُحاول تبيانه على طول هذا المقال.
حدود الحذر: مصداقيّة المحكمة
كما سبق بيانُه، ورغم توجّس المحكمة من إصدار أمرٍ بوقف العمليّات العسكريّة في غزّة، أظهر قرارَها الأول في هذه القضية حرصها الواضح على تأكيد مرجعيّتها في تأمين الحماية لأيّ شعبٍ تُحدق به مخاطر إبادة جماعيّة. وقد بدتْ المحكمة بذلك وكأنّها تقطع مع مواقف سابقة لها أثّرت سلبًا على مصداقيتها وتاليًا على مرجعيتها، وبشكل خاصّ مع قرارها الصادر في 1966 في القضية التي تقدّمت بها أثيوبيا وليبيريا ضدّ جنوب أفريقيا على خلفيّة تنكّرها لحقّ شعب غرب أفريقيا (ناميبيا) في تقرير مصيره وممارستها سياسات الأبارتهايد ضدّه. فقد ردّت المحكمة هذه الدعوى بعدما اعتبرتْ أنّه ليس للدّولتين المذكورتين أيّ صفة في الدفاع عن الشعب الناميبي، وأنّه ليس بإمكانها قبول الدعاوى الشعبية. ويلحظ أنّ قرارها المذكور صدر بأرجحيّة صوت رئيسها بعدما انقسم أعضاؤها مناصفة 7 ضدّ مقابل 7 مع، بما يعكس انقسامًا عالميًا يشبه بدرجة أو بأخرى الانقسام الحاصل اليوم بشأن ما يحصل في غزة. وإذ غلّبت المحكمة من خلال هذا القرار الشكليات القانونية على الدور المُرتقب منها في ضمان التزام دول العالم بمقتضيات القانون الدولي، فإنّها دفعتْ من جرّاء ذلك ثمنًا باهظًا من مصداقيّتها وبخاصّة في دول الجنوب و”ذلك لأكثر من 20 سنة”[1]. وعليه، وبِهدف استعادة هذه المصداقية وتحت وطأة التحوّلات الحاصلة في الأمم المتحدة نتيجة زيادة عدد الدول التي كانت مستعمرات سابقًا، راجعت المحكمة موقفها المذكور لتكرّس على نقيضه مفهوم “المصلحة المشتركة” الذي يخوّل عند توفّره، أي دولة اللجوء إليها للدفاع عن دولة أخرى أو شعب آخر. وهذا ما قادَها إلى الاعتراف بصفة جنوب أفريقيا في تقديم هذه الدّعوى لضمان حماية الشّعب الفلسطيني، مغلّبةً بذلك واجبها في منح الحماية القضائية لأيّ شعب أو فئة معرضة للإبادة الجماعية على مجمل الحجج الشكلية الرامية لنفي اختصاصها.
في الاتّجاه نفسه، نقرأ تمسّك المحكمة في سرد الحقائق الثابتة لديها مستندةً بشكل خاصّ على تقارير الأمم المتحدة، بما يناقض تمامًا السرديّة الإسرائيلية وإلى حدّ كبير سرديّة حكومات دول الشمال المناصرة لها ووسائل الإعلام التقليديّ فيها، وصولًا إلى الخلاصة التي كان لها مفعول القنبلة في إسرائيل وفي هذه الدول وقوامها أنّ جزءًا من الشعب الفلسطيني مهدّد لاحتمال التعرّض لإبادة جماعية.
وعليه، وإذ تمسّكت المحكمة بتثبيت مرجعيّتها في تطبيق القانون الدولي في النزاعات الدولية وفي تثبيت الحقائق من دون أيّ مواربة، انحصر حذرها في المقابل بتحديد إجراءات الحماية المتخذة منها وتاليًا الأوامر التي وجّهتها إلى إسرائيل. وهذا ما تُرجم في إغفالها النظر في طلب توجيه أمر إلى إسرائيل بوقف العمليات الحربية في غزّة من دون أي مناقشة حتى، عند إصدار قرارها الأول. إلّا أنّه وعلى الرغم من حذرها المذكور، فإنّ قرارها تضمّن ما يخوّلها لاحقًا التخفيف من تبعاته في اتّجاه توسيع التدابير المتخذة منها لتأمين مزيد من الحماية للشعب الفلسطيني. وهذا ما يقودنا إلى النظر في ما أسميناه في عنوان هذا المقال “سياسة الحذر الفاعل”.
سياسة الحذر الفاعل
عند التّدقيق في قرار المحكمة والتفاعلات حولَه، يتبدّى لنا مؤشّران على ما اعتبرناه “الحذر الفاعل”.
المؤشّر الأول يتمثّل في الديناميّة التي ولّدها قرار المحكمة في اعتماد سرديّة لحربِ إسرائيل ضدّ غزة تركّز على استهداف إسرائيل مقوّمات الحياة في غزة وتاليًا على ما يتعرّض له الفلسطينيون من مآسٍ وصولًا إلى تأكيد احتمال انخراط إسرائيل في ارتكاب إبادة جماعيّة في حقهم. فقد أدّت خلاصات المحكمة في هذا الخصوص إلى وصم إسرائيل بارتكاب أفظع جرائم الحرب، وتاليًا إلى تعزيز مشروعيّة الحركات الاحتجاجيّة ضدّها وتحصين هذه الحراكات بدرجة كبيرة حيال ترسانة الملاحقات التي كانت وما برحت تحدق بها على خلفية هذه التهمة أو تلك. كما تحوّلت هذه الخلاصات إلى حجّة سارعت العديد من المنظمات الحقوقية إلى استخدامها في إقامة دعاوى ضدّ إسرائيل وداعميها أمام المحاكم الوطنية المختلفة أو أيضًا إلى حجّة استندتْ إليها بعض هذه المحاكم لقبول هذا النوع من الدعاوى. وقد تكلّلت التحوّلات الحاصلة في الخطاب العام في هذا الشأن في انطلاق حِراكات الجامعات في أميركا الشمالية وأوروبا وفي اتخاذ عدد من الدول إجراءات في حقّ إسرائيل تراوحت بين وقف تزويدها بالأسلحة وقطع العلاقات الدبلوماسية أو التجارية معها. ومن هذه الوجهة، بدا قرار المحكمة وكأنّه يحتوي النواة التي تسمح بتجاوزه، بمعنى أنّه يمنح حصانةً لحراكات عالمية من شأن تطوّرها أن يظهر أيّ تدبير لاحق قد تتخذه المحكمة بمثابة انعكاسٍ للوعي العالمي، بما يحصّنها حيال أيّ شبهة أو اتّهام قد يوجّه إليها في هذا الخصوص.
في الاتجاه نفسه، نقرأ التدبير بإلزام إسرائيل بتقديم تقارير شهرية عن الخطوات المتخذة منها للتخفيف من مخاطر الإبادة الجماعية وبتمكين جنوب أفريقيا من التعليق عليها وتاليًا من تقديم مطالب جديدة على ضوء التطوّرات الحاصلة. ففيما يعكس هذا التدبير التزامًا من المحكمة بمواكبة تطوّرات الحرب في غزة وتاليًا استعدادها لاتخاذ مزيد من التدابير الحمائية عند الاقتضاء، فإنّه فتح الباب أمام جنوب أفريقيا لسلوك نهج غير مسبوق تمثل في تقديم 3 مطالب لاحقة للمحكمة هدفت إلى اتخاذ إجراءات حمائية إضافيّة.
وبنتيجة هذه الطلبات المتلاحقة وتبعًا لتنامي الحراك العالمي ضدّ حرب إسرائيل، عمدت المحكمة فعليًّا مرّة تلو المرّة إلى تجاوز حذرها. وفيما وصلت غالبية أعضاء المحكمة في قرارها المؤرّخ في 24 أيار 2024 حدّ إصدار أمر صريح بوقف الأعمال الحربية في رفح، فإنّه سرعان ما برز غموضٌ في تفسير هذا القرار وتحديدًا فيما إذا كان يُطبّق بصورة مطلقة أم يشمل فقط الأعمال الحربيّة التي قد تشكّل إبادة جماعية. غموض سرعان ما فُهم أنّه لم يحصل سهوًا إنّما أتى نتيجة تجاذب غير معلن بين أعضاء باتوا على اقتناع بعدم إمكانية الفصل بين الغاية من هذه الحرب ومخاطر الإبادة أو على الأقل بعدم إمكانية درء هذه المخاطر من دون وقف الحرب، وأعضاء آخرين ما زالوا يرون أنّ على المحكمة أن تفصل بين مسألة ضمان تطبيق اتفاقية حظر الإبادة الجماعية (وهو واجب عليها) ومسألة أحقيّة إسرائيل في الاستمرار في حربها ضدّ غزة.
وهذا التجاذب وما نتج عنه، إنْ عبّرا على شيء فعلى انحسار حذر المحكمة حيال اتخاذ قرار بشأن وقف الأعمال الحربية من دون أن يقع زواله، أقلّه لدى العديد من أعضائها. لكن ومع استمرار نزيف الشعب الفلسطيني، من المستبعد أن تنتهي القضية عند هذا الحدّ. فلنراقب.
نشر هذا المقال في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
[1] عن كل هذه الأمور، يراجع فيليب ساندز، المستعمرة الأخيرة، Weidenfeld & Nicolson, Orion Publishing Group
2022.