في سبتمبر الماضي ضرب إعصار دانيال مدينة درنة وتسبّب في كارثة إنسانية كبيرة نتيجة للأمطار الغزيرة المصاحبة له والتي أدّت إلى تجميع أكثر من مائة مليون متر مكعب من المياه خلال أقلّ من اثنتيْ عشرة ساعة خلف سدّيها الركاميين القديمين (سد درنة وسد بومنصور) اللذين أقيما على بعد كيلومترات قليلة من وسط المدينة لحمايتها وشكلا سببا مباشرا في مضاعفة الكارثة وإلحاق ضرر فادح طال عشرات الآلاف من سكانها وآلاف المباني وبنيتها التحتية.
بعد مرور قرابة عام على الكارثة وبعدما أعلن مكتب النائب العام أنّ التحقيقات والأدلة والقرائن التي جمعتها النيابة العامة قد أثبتت وجود إهمال وتقصير في صيانة هذين السدّين وتقديم المتهمين للمحكمة، أصدرت دائرة الجنايات بمحكمة استئناف درنة حكمها القضائي في هذه القضية. وقد انتهى الحكم إلى إدانة 12 مسؤولا وتبرئة 4 آخرين من مجموع 16 متّهما قدّمتهم النيابة العامة في قرار اتهامها. وتراوحت العقوبات في القضية بحقّ الموظفين والمسؤولين عن الموادر المائية والسدود بين عقوبة الحبس والسجن لمدد مختلفة تبدأ من ستة أشهر لتصل إلى عشرين عاما كما ألزمت المحكمة بعض المتهمين بدفع الدية المحكوم بها. ويفسر تفاوت العقوبات بين المتهمين بالجرائم التي أدينوا بها، حيث أدين بعضهم بجنحة وبعضهم بجناية وبعضهم الآخر بالاثنين معا.
ومن أبرز المتهمين الذين طالتهم الإدانة المتهم العاشر وهو عميد بلدية درنة السابق وابن أخت رئيس مجلس النواب. وقد حكم بالسجن سبع سنوات عن تهمة التقصير والإهمال في حفظ وصيانة المال العام مع حرمانه من حقوقه المدنية وستة أشهر عن التسبب خطأ في إيذاء الغير وستة أشهر عن الإهمال الوظيفي وثلاث سنوات عن التسبب خطا في حدوث كارثة وكذلك الحكم عليه بالديّة بتهمة القتل الخطأ. كما شملت العقوبة المتهم الثالث عشر وهو محافظ مصرف ليبيا المركزي السابق ورئيس لجنة إعادة الاستقرار بدرنة؛ وقد صدر الحكم ضدّه غيابيا لعدم مثوله أمام المحكمة ولا أمام النيابة العامة في التحقيقات وتمّت عقوبته بالسجن خمسة عشر عاما عن تهمة الإهمال في حفظ وصيانة المال العام وثلاث سنوات عن تهمة التسبب خطأ في حدوث كارثة وستة أشهر عن تهمة التسبب خطأ في إيذاء الغير وستة أشهر أخرى عن الإهمال الوظيفي وطالت العقوبة متهين اثنين آخرين وهم أعضاء قي لجنة إعادة الاستقرار لمدينة درنة ولكن بمدد سجن أقل. كما أن بعض المتهمين صدرت أحكام ضدهم بالبراءة في بعض التهم والإدانة في تهم أخرى ومنهم موظفين في مكتب مشروعات درنة والهيئة العامة للمياه حيث تمّت تبرئتهم من تهم الإضرار الجسيم بالمال العام والحصول على كسب غير مشروع وإدانتهم بتهم التسبب خطأ في حدوث كارثة والقتل الخطأ. كما أدانت المحكمة سبعة متهمين بارتكاب جريمة القتل الخطأ ملزمة إياهم بدفع الدية من دون أن يبيّن الحكم آليّة احتساب الدية ولا كيفية تحديد عدد الضحايا. ويتأتى ذلك من كون منطوق الحكم لم يبيّن ذلك ولم تودع أسباب الحكم حتى كتابة هذا المقال لمعرفة كيفية تأسيس المحكمة وتقديرهما لعقوبة الدية.
وتقبل الأحكام الطعن أمام المحكمة العليا التي تنتهي إما بتأييد الحكم أو بإعادة النظر فيه إذا كان هناك خطأ في تفسير القانون أو تأويله باعتبار المحكمة العليا محكمة قانون وليست محكمة وقائع كما أن الاحكام الغيابية هي احكام تهديدية تسقط بالقبض على المتهم أو تسليم نفسه وتعاد محاكمته من جديد.
قرار الاتهام المقدم من النيابة العامة
يجدر الذكر أنّ مكتب النائب العام كان شكّل بعد الكارثة مباشرة لجنة تحقيق في حادثة انهيار سدّي وادي درنة، وتم توجيه الاتهام إلى 16 شخصا وحبس 14 منهم، من أبرزهم عميد بلدية درنة وعدد من المسؤولين بالموارد المائية وهيئة السدود بالمدينة. كما تم إصدار نشرتين حمروين وبطاقة جلب في حقّ اثنين من المتهمين خارج الحدود الليبية. وأعلن مكتب النائب العام أنّ التحقيقات والأدلة والقرائن التي جمعتها النيابة العامة قد أثبتت وجود إهمال وتقصير في صيانة هذين السدّين. فعدا عن عدم وجود منظومة إنذار في السدّين وإهمال عمليات تنظيف الفتحات وإهمال الصيانة الدورية، كشفتْ التّحقيقات أنّ نظام التّصريف في الوادي لا يعمل بالصورة التصميميّة لتراكم الطمي منذ عام.
كما أوضح النائب العام أن في السدّين تشققات تسبّبت في تسريبات كبيرة للمياه. وعليه، تمّت إحالة القضية تحت رقم 81/2023 بحث جنائي درنة إلى غرفة الاتهام في محكمة درنة الابتدائية للتحقيق معهم في مجموعة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات والقوانين المكملة له بشأن أحكام القصاص والدية، وأجكام التطهير وأحكام إنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد. وهي تهم تشمل الإهمال الناتج عنه خطأ والقتل الخطأ والإيذاء الخطير بالإضافة للإهمال والتقصير في حفظ وصيانة المال العام والإهمال الوظيفي. كما شملت التهم أيضا إلحاق الضرر عمدا بالمال العام وإنفاق المال في غير الأغراض المخصّص له وتهم فساد تتعلق بتنفيذ عقود المقالات والتعاقد مع شركات محددة دون غيرها وإساءة استعمال سلطات وظيفتهم وتحقيق منافع للغير والحصول على كسب غير مشروع. وقد تضمنت قائمة الاتهام في قضية انهيار سدي درنة رئيس هيئة الموارد المائية الحالي والسابق، ومدير إدارة السدود الحالي والسابق، ورئيس قسم تنفيذ مشروعات السدود والصيانة، ورئيس قسم السدود بالمنطقة الشرقية، ورئيس مكتب الموارد المائية في درنة، وعميد بلدية درنة.
استمرار الضبابية بشأن عدد الضحايا والمفقودين
لا يعني صدور الحكم القضائي غلق ملف الكارثة، فلا زالت العديد من تساؤلات الضحايا من دون إجابات وافية، بحيث تمّ حصر المتهمين في مجموعة من الموظفين ولم تشمل مسؤولين في مناصب عليا تدور حولهم شبهات فساد وإهمال في صيانة السدود، وتجاوزهم كل الأبحاث والدراسات التي تشير إلى خطورة وضعية السدود وأهمية الصيانة.[1]
كما أن الملاحقات القضائية انحصرت في الإهمال الحاصل في ترميم السدّين، من دون أن تشمل المسؤوليات الناجمة عن الإهمال في اتخاذ إجراءات تحسّبا للإعصار (كإخلاء المدن الأكثر تعرضا) أو عن التخبّط في الإجراءات المتخذة أو أيضا المسؤوليات المتصلة بسوء عملية الإنقاذ وتأخرها، وكلها أمور أسهمت في مضاعفة عدد الضحايا. ومن المهم التذكير بتخبّط مؤسسات الدولة في التعامل مع الكارثة قبل حدوثها والارتباك بين قرارات حظر التجول والإخلاء المبكر، وهو تخبّط أسهم في زيادة عدد الضحايا.[2]
كما يستمر الغموض بشأن أعداد الضحايا التي لازالت غير نهائية، في ظل تقديرات بمقتل ما لا يقل عن 6000 شخصا وفقدان ما لا يقل غن 10000 شخصا (وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر). كما يتجاوز العدد التقديري للنازحين 30,000 شخص من إجمالي عدد السكان الذي يزيد عن 200,000 نسمة. ومنذ أسبوعين صدر كتاب جديد يؤرّخ ويوثق الكارثة كتبه الكاتب عبد الفتاح الشلوي وقد تضمّن الكتاب إحصائية بأسماء الضحايا بلغت 11300 شخص. ويعكس التباين في الارقام أمرين مهمين: أولها حجم وفداحة الكارثة وحجم الأضرار على المستوى الإنساني ومن ناحية أخرى ارتباك الحكومة ومؤسسات الدولة وعشوائية عملها والتي تعاملت مع الأزمة بطريقة انعدمت فيها الشفافية والوضوح، بخاصة إذا ما عرفنا أن المنطقة المتضررة من السيول هي أحياء وسط المدينة بمحاذاة الوادي تتميز بكثافة سكانية عالية.
[1] مقال نشر بالمفكرة القانونية إعصار دانيال وكارثة انهيار سدّي درنة (2): توقيفات قضائية وسط مخاوف من تدخلات سياسية وقبلية 8/2/2024
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.