بتاريخ 12 شباط 2019، يفترض أن تصدر محكمة التمييز اللبنانية حكمها في قضية القدح والذم المقامة ضد د. ناجي كرم (وهو أستاذ محاضر بمادة الآثار في الجامعة اللبنانية)، على خلفية مداخلاته الإعلامية دفاعا عن الآثار والمباني التراثية في لبنان وتنديدا بالسياسات المتبعة في هذا المجال. وكانت هذه القضية بدأت فصولا حين تقدم المدير العام السابق لمديرية الآثار أسعد سيف بدعوى قدح وذم وأكاذيب وتشهير ضد كرم أمام محكمة مطبوعات بيروت. وإذ قبلت هذه المحكمة دعوى سيف من دون التحقيق في مدى صحة الانتقادات، فإن كرم عاد واستأنف الحكم أمام محكمة التمييز الناظرة بدعاوى المطبوعات بصفتها مرجعا استئنافيا، على أساس أنه يستحق مكافأة لدفاعه عن الدولة والذاكرة الجماعية، وليس عقوبة.
وما يزيد من أهمية هذا الاستحقاق ويعزز من آمال الوصول إلى نهاية سعيدة، هو أن محكمة المطبوعات في بيروت، كانت عدلت تبعا لتغير هيئتها، عن مواقفها السابقة بمعاقبة أي قولٍ مُجافٍ لقاموس الأدبيات الاجتماعية، بمعزل عن الدوافع النبيلة أو الضرورات الاجتماعيّة التي قد تبرّره. وهذا ما أشارت إليه “المفكرة” في تعليقها على الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات بتاريخ 4/12/2018 في قضية مشابهة، كان أقامها وزير الثقافة السابق غابي ليون ضد د. كرم على خلفية مداخلاته الإعلامية بشأن سوء إدارة ملف الآثار. وكانت الدعوى المذكورة اتصلت تحديدا بهدم المنزل الذي كان يسكنه الكاتب أمين معلوف والتعديات على المرفأ الفينيقي. وبعدما رأت المفكرة أن هذا الحكم “يشكل من دون ريب أحد أبرز الأحكام الصادرة عن محكمة مطبوعات بيروت في العقدين الأخيرين”، أملت أن “يشكل منعطفا ومبعث أمل في انتهاج محكمة المطبوعات وبشكل أعم القضاء اللبناني دورا حمائيا لحرية التعبير” وأن “يشكل محفزا لكل المدافعين عن حقوق المجتمع (والدولة)، والذين غالبا ما يجدون أنفسهم موضع اتهام وملاحقات على خلفية تعرضهم لأصحاب النفوذ، للمضي قدما في الدفاع عن قضاياهم. فمن شأن أحكام كهذه أن تعيد للقانون وتاليا للقضاء دوره الأساسي في إرساء عدالة تنسجم مع الصالح العام والمنطق: فلا يكون سلاحا بيد الفاسد ضد من ينتقده، إنما أولا سلاح بيد المجتمع ضد من يعتدي عليه”. وقد جاء عنوان تعليق “المفكرة” آنذاك والمستمد من حيثيات الحكم نفسه جدّ معبر ومفاده: “لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب على الفساد والخلل بشكل موضوعي”.
وكانت “المفكرة” أجرت مقابلات مع د. كرم ومع وكيله المحامي ميشال عازار بشأن هاتين القضيتين، ننشرها لاحقا في ملف خاص عن آثار لبنان. أثناء المقابلة معه، حدثنا د. كرم مطولا عن ألمه وحاجته ودوافعه للدفاع عن الآثار. “أنا أتكلم بقلب مجروح. تبيّن في إحدى الحفريات وجود آثار تعود لما قبل التاريخ، تطوعت للكشف على الموقع مع أربعة من طلابي بعد أخذ موافقة مديرية الآثار، ذهبنا في اليوم التالي إلى الموقع وجدنا أنه قد تمّ جرفه. مرة أخرى، أتتني طالبة تخبرني أنها اكتشفت وهي تعمل في موقع أثري ساحة البرج، موزاييك بطول 19 متر، وقتها ركضت إلى الموقع، لكنهم كانوا باشروا بتدميره ورفعه بالبوكلين وطالبتي تصرخ طالبةً أن يتاح لها تصوريها لكنهم لم يسمحوا. عندما يرى دكتور في الآثار، خصص حياته للدفاع عن هذه الأمور، ماذا يتوقع منه أن يقول؟” ويتابع كرم: “هم يخشون من اكتشاف الآثار خوفا من أن تعطل مشاريع عقارية وإذا وجدوها سارعوا إلى جرفها. حتى بالنسبة لأسوار بيروت لم يسمحوا لنا أن ندرسها كلّها، بيروت كانت محاطة بأسوار مثل جبيل، وهو دلالة أن المدينتين كانتا تتطوران بطريقة متشابهة. بالنتيجة، 90% من تاريخ بيروت القديم لا نعرفه. وقد تمّ إخفاء هذه الحقائق بشكل منهجي”.
في الاتجاه نفسه، يذهب المحامي عازار الذي لا يكف عن التأكيد على اختياره الدفاع عن موكله في إطار المناصرة لقضية عامة (حماية الآثار والذاكرة الاجتماعية) وليس عن دعوى شخصية. “أنا رفضت الذهاب إلى معاجم اللغة العربية لكي ألطّف من كلام موكلي أمام المحكمة، فتنتهي القضية وكأنها إعتذار. إنما أصررت معه أن يكون دفاعنا في القضية دفاعا عن “آثار بلادنا وتاريخها”. ويتابع عازار: “…أحاسبك وهذا حق لي، عندما يكون من يوجه الإنتقاد دكتور في علم الآثار ومدرس هذه المادة لسنين طويلة ورئيس قسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية لأكثر من 23 سنة وقد خرّج أجيالاً من علماء الآثار”، ثم يضيف: “في هذا الملف موكلي متهم من أجل كلمة أو عبارة أو تعبير فيما المهم لا بل الخطير الجريمة الوطنية أو أقلّه الفضيحة ليس هذه العبارة أو الجملة إنما التدمير الممنهج وجرف آثارات البلاد القديمة دون حسيب أو رقيب”.
تبعا لذلك، وإذ يتعين على محكمة التمييز النظر في الدعوى المقامة أمامها، فإنها في الوقت نفسه ستجد نفسها يوم الثلاثاء المقبل، في محضر الحكم الذي أصدرته محكمة المطبوعات في القضية الثانية والتي ذهبت فيه في اتجاه معاكس تماما. فأي اعتبارات عساها تغلّب؟ هل تتصرف كحارس أصول الأدب فتعاقب هذه الكلمة أو تلك أو أي خروج عنها بمعزل عن أي اعتبار آخر، أم أنها على العكس من ذلك تماما، ستذهب على غرار ما فعلته الهيئة الجديدة لمحكمة المطبوعات في اتجاه الاعتراف بأهمية حرية التعبير في الدفاع عن المصالح الاجتماعية تمهيدا للموازنة بين حق المدّعي (سيف) بالسمعة والكرامة وواجب كرم في الدفاع عن هذه المصالح؟ هذه هي أبرز الأسئلة التي ستجيب عليها محكمة التمييز صراحة أو ضمنا الثلاثاء المقبل. فلنتابع…
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.