بعد أشهر قليلة من الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة الابتدائية بطنجة والذي أقر ولأول مرة في تاريخ القضاء المغربي بحق الطفل الطبيعي في بنوته لأبيه اعتمادا على تحليل الحمض النووي، وحق أمه في التعويض في إطار قواعد المسؤولية التقصيرية[1]، ألغت محكمة الاستئناف بطنجة بتاريخ 09/10/2017[2] هذا الحكم في محاولة لوأد الاجتهاد القضائي الذي بدأ يشقّ طريقه في عدد من المحاكم الابتدائية المغربية[3].
قصة الحكم التاريخي الذي اعتبر ثورة
تعود فصول القضية إلى شهر ديسمبر/كانون الأول من السنة الماضية حينما تقدمت سيدة بدعوى أمام قسم قضاء الأسرة بطنجة (شمال المغرب)، تعرض فيها بأنها أنجبت بنتاً من المدعى عليه، خارج إطار الزواج، ورفض الاعتراف بها، رغم أن الخبرة الطبية أثبتت نسبها إليه، ملتمسة من المحكمة، الحكم ببنوة البنت لأبيها، وأدائه لنفقتها منذ تاريخ ولادتها. المدعى عليه، رد على دعوى الأم، بكون طلبها غير مؤسس قانوناً، على اعتبار الخبرة الطبية المدلى بها في الملف، وإن أثبتت العلاقة البيولوجية بينه وبين البنت، فإنها لا تثبت العلاقة الشرعية، وأضاف بأن النسب في مدونة الأسرة يثبت بالزواج الشرعي، وبأن البنوة غير الشرعية ملغاة للأب، ولا يترتب عليها أي أثر. وقد أدلى بحكم محكمة سبق أن قضى بإدانته من أجل جنحة الفساد[4] (علاقة غير شرعية) طبقاً للفصل 490 من القانون الجنائي.
وقضت المحكمة الابتدائية بطنجة ببنوة البنت الطبيعية لأبيها، اعتمادا على نتائج الخبرة الجينية، وتطبيقا لعدد من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب من بينها اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية ستراسبورغ. كما حكمت لصالح أمها بتعويض في إطار قواعد المسؤولية التقصيرية.
الحكم التاريخي لابتدائية طنجة يفتح نقاشا عموميا حول وضعية الأطفال الطبيعيين
ولّد الحكم الذي أصدرته المحكمة الابتدائية بطنجة في وقت سابق جدلا قانونيا أسهم في إعادة فتح النقاش العمومي حول موضوع واقع الحماية القانونية للأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج. فمدونة الأسرة التي وصفت حين صدورها بالثورة الهادئة[5]، انفردت بين مثيلاتها في المنطقة العربية بأنها الوحيدة التي نصت على حق الأطفال المزدادين خلال فترة الخطوبة في إثبات نسبهم[6] اعتمادا على كافة وسائل الإثبات بما فيها تحليل الخبرة الجينية، لكنها أغفلت التنصيص على مقتضيات مماثلة بالنسبة لباقي الأطفال المزدادين خارج مؤسسة الزواج .
وفي هذا الصدد انتقد الدكتور أحمد الخمليشي أحد أبرز الفقهاء المجددين في الساحة المغربية ومدير دار الحديث الحسنية بالرباط، وعضو اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية سابقا، الموقف المحافظ لمدونة الأسرة من موضوع نسب الأطفال المزدادين خارج مؤسسة الزواج، معتبرا أن آراء الفقهاء القدماء كانوا أكثر انفتاحا من موقف التشريع الحالي، مؤكدا في السياق ذاته أن حكم ابتدائية طنجة طبق فقط مقتضيات المادة 142 من مدونة الأسرة حينما أقر ببنوة طفلة طبيعية لأبيها البيولوجي[7] .
منظمات المجتمع المدني تعيد فتح ملف الأمهات العازبات
حكم ابتدائية طنجة جعل عددا من الجمعيات تمني النفس بأن يشكل بداية ميلاد اجتهاد قضائي جديد يعترف بحق الطفل الطبيعي في انتسابه لأبيه بغض النظر عن الحالة العائلية لوالديه، في تأويل جديد لنصوص مدونة الأسرة. لكن إلغاء هذا الحكم بعد أشهر قليلة من طرف محكمة الاستئناف بنفس المدينة خلّف ردود أفعال قوية من طرف بعض منظمات المجتمع المدني التي نددت بالمقتضيات القانونية الحالية التي تشجع التمييز بين الجنسين، وتكرس تهرب الرجال من تحمل نتائج سلوكاتهم الجنسية.
من جهة أخرى أطلقت جمعية "إنصاف" عريضة الكترونية موجهة لرئيس الحكومة والبرلمان المغربي على هامش تقديم نتائج الاستعراض الدوري الشامل لسنة 2017، تحمل عنوان "براكا[8] من التمييز ضد الأطفال المولودون خارج إطار الزواج". واعتبرت فيها أن الحكومة والبرلمان المغربيين يحملان الطفل المولود خارج إطار الزواج مسؤولية خطأ والديه. وأضافت أنه "من الواجب رفع كل أشكال التمييز عن هذه الفئة من الأطفال، احتراما للمادة 32 من الدستور، التي تؤكد على أن الدولة تكفل الحماية القانونية المتساوية لجميع الأطفال، مهما كان وضعهم العائلي". كما ذكرت بنتائج دراسة أنجزتها تفيد بأن سبعة من كل عشرة آباء مستقبليين يتم إبلاغهم بحالات حمل خارج الزواج، لكن معظمهم يرفض الاعتراف بالمولود. كما أن 30 ألف حالة حمل لعازبات تسجل سنوياً في المغرب يعانين من الإقصاء والرفض والتمييز وحتى الاستغلال[9].
وكان تحالف ربيع الكرامة[10] قد طالب في وقت سابق بمراجعة مدونة الأسرة في اتجاه إقرار مقتضيات قانونية تبيح للطفل الطبيعي حقه في النسب اعتمادا على الخبرة الجينية.
وفي انتظار صدور قرار محكمة النقض حول هذه القضية التي احتلت حيزا هاما داخل الإعلام الوطني وحظيت باهتمام منظمات حقوقية وطنية ودولية تبقى آمال فئات واسعة من الأمهات العازبات والأبناء غير الشرعيين معلقة على إيجاد حل منصف وعادل يغير من حالة التجاهل القانوني لأوضاعهم.