تبين خلال المقابلات مع المحامين أنه ليس للأغلبية منهم تجارب سابقة في التعاون مع محامين آخرين. وبالرجوع للدراسة المعدّة عام 2013 حول المحامين المناصرين في لبنان، نجد أن تجارب العمل الجماعي بين المحامين في لبنان قليلة ومتواضعة جداً[1]. ونجدها بشكل شبه حصري في أطر حزبية وسياسية معينة، كالدفاع عن الموقوفين في تظاهرات التسعينيات ضد الوصاية السورية. من هنا، فإن تجربة محامي الحراك فريدة من نوعها أولا، لجهة التعاون بين المحامين، وثانيا، لكون هذا التعاون قد جاء وفرض نفسه خارج أي إطار تنظيمي سابق. في هذا الشأن، نناقش في ما يأتي تجربة لجنة المحامين من حيث نشأتها، وتقسيم العمل في داخلها وتطور أعمالها وأبرز النقاشات التي دارت بين المحامين فيها. فكيف كان التعاون بين المحامين، خاصة وأن لكل منهم خلفيات وأهداف متناقضة؟
أ. كيف نشأت اللجنة (أو اللجان)؟
تختلف ظروف تطوع كل من المحامين للدفاع عن موقوفي الحراك. ففي حين يروي عدد من المحاميات تطوعهن بشكل عفوي في بداية التظاهرات، يروي قسم آخر تلقيه إتصالات من قبل الناشطين المتواجدين في المظاهرة مع بدء التوقيفات وبروز الحاجة لمحامين.
"بدأ يجينا اتصالات من قبل الناس يلي كانت متواجدة بالمظاهرة، يلي شافو الناس عم تتوقف وراحوا أمام المخافر. انا إجاني إتصل لأنزل. حاول المعتصمون يفوتوا على المخفر بس ما كانوا يقبلو يفوتوهن، كان عم ينقلهن لأ، إذا في محامي بيقدر يفوت. بيطلعوا يلي كانو جوا ويصرخوا "بدنا محامين". صار كل شخص موجود وبيعرف محامين يتلفن. انا اتصلوا فيي الساعة 1 الصبح".
"في 25 آب، كنت في تظاهرة وعلى أساس أن التظاهرة خلصت وذهبت إلى البيت. عندما وصلت شاهدت التلفاز ورأيت أن القوى الأمنية تعتدي على المتظاهرين لفض المظاهرة ورأيت أن عدداً من رفاقي مدممون ومكلبجون. تلقائيا، كانت الساعة 11 بالليل، نزلت إلى رياض الصلح والتقيت بالضباط هناك وقلت لهم أنني أريد أن أعرف أين ذهب رفاقي. ومن ليلتها بدأت أبرم على المخافر والفصائل، ولم نكن بعد قد تواصلنا كمحامين. كنت وحدي ليلتها، فقمت باستراتيجية أن أبرم على الفصائل والأعداد ومحاولة تأمين أطباء للأشخاص الذين ضربوا. تم إطلاق سراح حوالي 70% من الموقوفين وبقيت مجموعة في ثكنة الحلو ووعدونا أن يتم إطلاق سراحها الساعة 5 الصبح. خلال النهار أصبح هنالك تواصل بين المحامين واتصلت بي محامية من المفكرة القانونية وقالت لي إتضح أن هنالك ضرورة لرسم إطار لمشاركة المحامين لأنك كنت بمفردك في الليلة السابقة ويجب أن يشارك المحامون. بدأنا تنظيم إطار عملنا كمحامين".
بموازاة ذلك، ومع إزدياد حدة التوقيفات، وتحضيراً للمظاهرة الكبرى في 29 آب 2015، بادرت المفكرة القانونية إلى إنشاء لجنة محامين للدفاع عن موقوفي الحراك وإنشاء خط ساخن.
"بس كان عم يصيرو التوقيفات، طلعت الفكرة أنه صرنا بحاجة للخط الساخن (hotline) ليتواصلوا الناس معنا، ومع فكرة ال hotlineصار في دعوة للمحامين ليصير في تنسيق. المفكرة حكيت المحامين يلي بتعرفهم، وكل محامي أخذ على عاتقه يدعي المحامين يلي بيعرفهن. ناس دعوا محامين عندهن خبرة بالجزاء أو محامين متحمسين وناشطين”.
إذا، فإن نشأة لجنة المحامين قد جاءت كردة فعل عفوية على التوقيفات من جهة، وعلى الحاجة لوجود المحامين وطلب الناشطين لذلك من جهة أخرى، فضلاً عن ذلك، بدأ المحامون تلقائيا بالتطوع، وبالتالي كان من الأفضل إيجاد إطار للتنسيق فيما بينهم.
لجنة "بدنا نحاسب"
من ناحية أخرى، ـأنشأت مجموعة "بدنا نحاسب" وهي إحدى مجموعات الحراك، لجنة للمحامين فيها. تختلف هذه اللجنة من حيث إنشائها عن لجنة الدفاع عن المتظاهرين، حيث تتألف من المحامين الذين يعملون ضمن حملة بدنا نحاسب فقط، كما وأنها شكّلت من أشخاص منخرطين في إحدى حملات الحراك، على عكس لجنة الدفاع عن المتظاهرين التي شكلت من محامين خارج الإطار التنظيمي للحراك.
"أخدنا دورنا كمحامين لحظة يلي صار توقيفات… أنا كنت ناشط ببدنا نحاسب. إنطلقت على أساس أني ناشط بهذه الحملة. حتى ضمن الحملة ما كنا منظمين كمجموعة محامين بل عند بدء التوقيفات بدأنا بتنظيم الأمور فيما بيننا".
كان هنالك فصل معيّن بالعمل بين لجنة الدفاع عن المتظاهرين ولجنة المحامين التي شكلت من قبل حملة "بدنا نحاسب". فلكل من اللجان مقاربة مختلفة للأمور. فلجنة بدنا نحاسب مؤلفة من ناشطين بارزين في الحراك وبالتالي لم تكن، كما اللجنة الأخرى، مستقلة في عملها عن الحراك. ومن أبرز الخلافات بين اللجنتين مسألة نشر أسماء الموقوفين.
"خلاف أساسي بينا وبينهم هو نشر الأسماء. نحن كنا رافضين قطعا نشر الأسماء، هني كانو يطلعوا وينشرو ونحن "ناكل البهدلة" من الأهالي. كان في متظاهرين من طبقات فقيرة ما عندها القدرة على ان تنزل تتظاهر بوجه الحكومة ، كل خدماتها واصلتلها عبر الزعماء، مثلا كان في شخص كان والده موظف في مجلس النواب. يعني في كثير خوف. أهالي الموقوفين ما كان بدهن ابدا يطلعوا عالاعلام. (محامي من لجنة الدفاع عن المتظاهرين)".
كما أن ضعف التنسيق في البداية بين اللجان كان يقلل من فاعليتها ويضعف مواقفها. فمثلا في حين كانت محامية من اللجنة تحاول تهدئة الأمور مع القوى الأمنية في المخفر، كان يظهر محامون من المجموعة الأخرى على التلفاز يهاجمون القوى الأمنية فيعرقل عمل الآخرين.
"كل حدن عندو رأي ووسيلته بالموضوع، فمثلا حدن بقول من مصلحتنا نصعد حدن بقول مش من مصلحتنا نصعد".
كما أنه بفعل النقص في التنسيق، كان محامون من اللجنتين يتوجهون إلى مخفر لمتابعة المحتجزين، فيما يبقى عدد من المخافر من غير محام. وفي فترة لاحقة، تم وضع آلية لتقسيم العمل بين اللجان.
ب. العمل داخل اللجنة: التخصص سيد الموقف؟
بعيدا عن "تعدد اللجان" الذي أشرنا إليه سابقا، نخصص هذه الفقرة لطرق وديناميات العمل داخل لجنة الدفاع عن المتظاهرين وبين المحامين، وذلك لفهم نشاطهم عمليا.
كما ذكرنا، تم تخصيص خط ساخن لتلقي شكاوى المتظاهرين وابلاغاتهم عن الاعتقالات. وقد وضع هذا الخط بمتناول لجنة المحامين. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء وحدة توثيق في المفكرة القانونية تعمل عن كثب مع لجنة المحامين وتهدف لتوثيق الإنتهاكات التي يتعرض إليها الموقوفون والمحامون وإحصاء أرقام الموقوفين وأعمارهم وظروف اعتقالهم. فبدا إذا عمل اللجنة متكاملا ومنظما بشكل دقيق، حيث تمكنت وحدة التوثيق من مساعدة المحامين في تقسيم العمل والتنسيق بينهم وبين الموقوفين، بالإضافة إلى تجميع المعلومات الصادرة عن المحامين بحال احتاجها محامٍ آخر.
في ما يتعلق بالعمل الداخلي للجنة، تمّ تقسيم العمل بين المحامين. ففي الاجتماع الأول، وضعت خطة العمل وتم الاتفاق على وضع نظام مناوبة (système de permanence)، حيث حدد كل محامٍ الأيام والأوقات التي يكون فيها جاهزاً للعمل (on call)، وأنشئت خلية طوارئ تعمل في حال حدثت حصول توقيفات مفاجئة. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى لجوء المحامين إلى التطبيقات الهاتفية كال Whatsapp، حيث أنشأوا مجموعة لهم ليتواصلوا ضمنها. وقد شكل ذلك مشهدا جديدا وحديثا لطرق التنسيق بين المحامين.
تم تقسيم الملفات بين المحامين، فإنقسم المحامون إلى مجموعات تتألف كل منها من أربعة منهم على الأكثر وتتولى ثلاثة ملفات أو أكثر. أما على صعيد العمل "على الأرض"، تم توزيع المحامين على المخافر لضمان وجود محام(ية) في كل مخفر.
في هذا الإطار، شكّل موضوع التخصص عاملا مهما في تقسيم العمل. فنشأت دينامية معينة بين من لديه الخبرة، في الدعاوى الجزائية والمحاكمات العسكرية ومن ليس له خبرة في هذا المجال. وقد شكل الحراك مناسبة للعديد من المحامين للتعلم واكتساب خبرة.
"هذه إشكالية مهمة حصلت، بين من لديه خبرة في الجزا ومن ليس لديه ولكنه متحمس ومهتم وناشط، صار في قدوة للعندو خبرة جزا."
من أبرز أعمال اللجنة كان التنسيق مع كل من كتاب العدل والأطباء الشرعيين، ففيما تجاوب كتاب العدل بشكل إيجابي وأصدروا قراراً بإجراء جميع التوكيلات عن موقوفي الحراك مجانا، تم الإتفاق مع الأطباء الشرعيين على إجراء الفحوصات بكلفة أقل من الكلفة المعتادة.
في مرحلة لاحقة، وبعدما هدأت وتيرة التظاهرات، تم تقسيم العمل بين المحامين حسب إهتماماتهم. فقد عبّر كل محامٍ عن ماهية الملفات التي تهمه، ومن هنا تم تخصيص كل واحد بالعمل الذي يفضله.
"عملت جردة شخصية بكل محامي لأعرف شو بيهمّو، في ناس قالوا المخافر، ناس المحكمة العسكرية، ناس دعاوى المحاسبة، ناس قالوا General supportنحن تركنا الحرية التامة لكل محامي. في البداية لم يكن هنالك نقص في المحامين ولكن من بعدها استمرارية جلد المحامين تضاءلت. وفي ناس حست ان ما عندها قيمة مضافة ، وناس ما عادت قانعة بتطور الحراك".
وكما يتضح مما ذكر سابقا، عدد من المحامين لم يعد مهتماً بالعمل، لأسباب أهمها تراجع زخم الحراك.
ت. نقاشات أيديولوجية في اللجنة: خيارات واضحة منذ البداية
من أهم النقاشات التي حصلت بين المحامين داخل اللجنة كانت تلك المتعلقة بالعلاقة مع الحراك. فقد أجمع المحامون أن اللجنة غير مرتبطة بأي من مجموعات الحراك. وقد بدا واضحا من أحاديث جميع المحامين تشديدهم على استقلاليتهم عن الحراك وعن أي جمعية أو منظمة، وحتى في ما بينهم حيث كان لكل محام الحرية بإدارة ملفه كما يشاء. كما واتفق المحامون أن اللجنة لا تتدخل عند وجود وكالة خاصة لمحامٍ.
وفي هذا الشأن أيضا، طرحت إشكالية التعامل مع المظاهرات أمام المخافر (أي عند التوقيفات). وإذ اعتبرت إحدى المحاميات أن وجود المتظاهرين أمام المخفر قد يزعج القائمين عليه ويعيق تاليا مساعي المحامي طالبة التدخل لدى مجموعات الحراك لفكّ التظاهرات أمام المخافر، اعتبر أغلبية المحامين أن وجود المتظاهرين خارج المخافر كان على العكس من ذلك يعزز قدرتهم على التفاوض:
"إحدى المحاميات إقترحت أنو نحكي مع لجنة التنسيق في الحراك لما يعملو الإعتصامات امام المخافر. نحن كان عنا موقف مختلف، أولا، نحن لا نتحكم بالإعتصام ولكن نستفيد منه خاصة أن المحامي يصبح بموقع أقوى بس يكون في اعتصام برا وهو وعم يتفاوض. كنا نوضّح للمخفر انو نحن ما فينا نفض الاعتصام بس فينا نروّق الناس، إذا كنت بالمقابل عم تشوف الموقوف وعم بتوصل الدواء…. وهيك كان عم يصير، كنا نقلهن" انا ما خصني بالمتظاهرين ، بس إذا بدك ياهن يروقو عطيني شي قلهن ياه."
كما طرحت إشكاليات أخرى للنقاش، منها ما إذا كانت اللجنة ستدافع عن أشخاص قاموا فعلا بأعمال شغب أو موقوفين مدعى عليهم بتهم أخرى كتعاطي المخدرات مثلا[2]، أو كانت ثمة أدلة على أنهم "مندسون" اي مدفوعون للمشاركة في المظاهرة بهدف إثارة الشغب وتشويه سمعة الحراك. وقد اتفق المحامون على أنه يقتضي في المرحلة الأولى عدم التمييز بين المحتجزين والتمسك بقرينة البراءة، على أن يترك لكل محامٍ بعد انتهاء التحقيقات حرية الاختيار في التوكل عن هذا الشخص أو ذاك.
ومن ضمن الأسئلة التي طرحت، موقف اللجنة من محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية، فكان لبعض المحامين مواقف مبدئية رافضة لهذه المحاكمات، فيما فضّل البعض الاخر ترك هذه الإشكالية لأوقات أخرى (راجع: المحاكمات العسكرية).
إلا أنه من الواضح أن اللجنة لم تأخذ مواقف سياسية أو أيديولوجية واضحة، فمراجعة بياناتها تشير إلى وجود سقف معين للبيانات، وهو المضمون التقني الحقوقي. ففيما يعتبر البعض أن ذلك شكل "انتصاراً" من حيث عدم إثارة أي مواضيع خلافية، يرى البعض الاخر أن ذلك أدى لأن تكون اللجنة خافتة الصوت.
"أول بيان طلع من اللجنة كان كتير تقني، رايق واخذ موقف بس ضد الاندساس وتوقيف القاصرين، يعني المواقف القانونية de base … اللجنة لم يكن لديها systeme لاتخاذ القرار. كان العمل تنسيقيا، ما كان في حدن راس… بالنهاية طلعت اللجنة من دون صوت وهذا بإرادة المحامين في اللجنة… بالمفكرة، كنا مفكرين أن اللجنة رح يكون عندها صوت عالي يطلع من تلقاء نفسه وتبيّن ان المحامين ما كان عندهم هيدي الرغبة فصارت اغلب الأمور الخلافية تطلع باسم المفكرة".
يتضح إذا أن إنشاء اللجنة حصل كردة فعل على التوقيفات العشوائية التي حصلت في 22-23 آب 2015 وتحضيراً للمظاهرة الكبرى في 29 آب 2015. إلا أنه وبالرغم من زخم العمل والتوقيفات، برهنت اللجنة عن قدرة تنظيمية واضحة، إن في العلاقة بين أعضائها أو في تقسيم الملفات وتوزيع العمل بين المحاميات أو في التواصل مع وحدة التوثيق في المفكرة القانونية. وفيما أن الإختلاف في "هويات المحامين" يبدو كعقبة للعمل، إلا أن النقاشات التي نشأت في هذه اللجنة شكلت فرصة مهمة لتبادل الأفكار وإعادة التفكير بطرق المناصرة. فبدا وكأن هنالك تبادل خبرات بين المحامين: من لديه خبرة في المحاكم العسكرية أو المخافر وصولا للخبرة في أساليب المناصرة وقضايا الشأن العام.
[1]كانت الدراسة قد أشارت لتجربة جمعية "عدل"، إضافة لتجارب محامين منتمين إلى أحزاب معرضة في التسعينيات
[2]طرحت إشكالية تعاطي المخدرات تبعا لقيام المخافر بإرغام الموقوفين على الخضوع لفحصوات بول للتأكد من عدم تعاطيهم مواد مخدرة