شهدت المحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 10 جانفي 2023، حدثا استثنائيّا وحركيّة خارقة للعادة داخل أسوارها. فقد مثل في ذلك اليوم المحامي العياشي الهمامي أمام التحقيق من أجل تهمة “الترويج لإشاعات كاذبة بهدف الإضرار بالأمن العام” والتشهير بموظف عمومي. جاء التّتبّع الجزائيّ المُثار من قبل وزارة العدل على خلفيّة التصريحات الإعلاميّة التي قام بها الهمامي فيما يخصّ ملفّ القضاة المعفيين بجرّة قلم من قبل الرئيس قيس سعيّد نفسه، الذي لا يزال يرفض التّراجع على الرغم من إصدار المحكمة الإدارية قرارات يإيقاف تنفيذ أوامر بإعفاء 49 منهم (من أصل 57). فقد فضّل سعيّد ووزيرة العدل ليلى جفّال، عوض الالتزام بقرارات المحكمة، إثارة تتبّعات جزائيّة عبثيّة ضدّ القضاة المعفيين، ممّا اقتضى تكوين لجنة للدفاع عنهم يقوم الهمامي بتنسيقِها. وإذ سعى العياشي إلى عرض قضيّة القضاة المعفيين أمام الرأي العامّ، سارعتْ وزارة العدل إلى طلب تحريك الملاحقة ضدّه بالاستناد إلى الفصل 24 من المرسوم عدد 54 الذي كان أصدره سعيّد منذ أربعة أشهر، وأثار رفضا واسعا من قبل المجتمع الحقوقي والسياسي والمدني.
معطيات هذه الملاحقة تعكس تصعيدا خطيرا في أساليب القمع. فوزيرة العدل اليوم تُثير دعوى جزائيّة ضدّ محامٍ معارض لسلطة سعيّد، على خلفية دفاعه عن القضاة المعفيين والمستمر إعفاؤهم خلافا لقرارات المحكمة الإدارية المبرمة، بهدف حرمانه من حقه في التعبير وحرمان هؤلاء من حقّ الدفاع، كل ذلك على أساس مرسوم قمعيّ بطبيعته أوجد جرما مطّاطا سارع إلى إخضاعه لعقوبات في منتهى القسوة.
محاكمة العياشي الهمامي: انزلاقة أخرى تُحسب على النظام
لم تُثر الدعوى الجزائية ضدّ الهمامي بصفة تلقائية من النيابة العمومية، وإنّما بطلب مباشر من وزيرة العدل. فقد دعت الأخيرة الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 30 ديسمبر 2022، بتعليمات موجّهة من من رئيس ديوانها، للقيام بالتتبعات الجزائية اللازمة ضدّه على خلفية تصريحاته الإعلامية بتاريخ 29 ديسمبر على إذاعة شمس. في اليوم ذاته، تمّت إحالة ملفّ الهمامي على التحقيق من قبل المساعد الأوّل للوكيل العام وإعلام رئيس فرع المحامين بذلك طبقا للإجراءات الخاصة المعمول بها بالنسبة للمحامين. على إثر ذلك تمّ إقرار فتح بحث تحقيقي ضدّ الهمامي بعد تكييف “الجريمة” طبقا للفصل 24 من المرسوم 54 المذكور أعلاه.
إحالة الهمامي على معنى هذا المرسوم تندرج ضمن المواجهة الطويلة التي تُصرّ السلطة على مواصلتها ضدّ القضاة المعفيين. فبعد التعنّت في عدم تطبيق قرارات المحكمة الادارية القاضية باسقاط قرارات الإعفاء، وبعد غلق مكاتب القضاة المعنيين ومنعهم من الالتحاق بها، وبعد إثارة التتبعات الجزائية ضدّهم بملفّات يصرّ محاميهم على تكييفها بالفارغة والمفبركة، تأتي إحالة منسّق هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين كفصل جديد من المواجهة. مبادرة السلطة لمحاكمة لسان الدفاع لا تُترجم فقط مدى تعنّتها وانعدام مرونتها على مستوى الفعل السياسي، بل تعبّر أيضا عن مدى عبثية قراراتها وسوء تقديرها وسط التخبّط الواضح وعدم قدرتها على حسم هذا الملفّ لصالحها. ففي ظلّ عدم تقدّم الأبحاث التحقيقية المثارة ضدّ القضاة وعدم تحقيق أيّ مكاسب تساهم في إدانتهم وبالتالي تبرير قرار الإعفاء أمام الرأي العام، تسعى السلطة للتعتيم عن فشلها في غلق هذا الملفّ. في الجانب الآخر، تستميت هيئة الدفاع عن القضاة في مقاومة التعتيم بالتداول في آخر مستجدّات الملفّات والتواصل مع الإعلام لتقديم المعطيات وللتبليغ عن أهمّ التجاوزات التي طالت الضحايا. وهو على ما يبدو أصبح يُثير غضب السلطة ويستفزّها نظرا لعدم قدرتها على تقديم إجابات واضحة على ما يقدّمه المحامون.
على المستوى السياسي، مثّلت ملاحقة الهمّامي، خطوة ليس فقط عبثيّة بل خطوة يرجّح أن ترتدّ على السلطة وأن تؤدّي مفعولا معاكسا لما توخّته منها. يتأتى هذا الأمر من كون الهامي إحدى أيقونات النضال في تونس الذي يحظى باحترام وتقدير واسع لرصيده النضالي التّاريخي وإحدى الشخصيات المعارضة لسعيّد المجمّعة لكلّ الأطياف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وعليه، فإن تتبعه لا يستفزّ وحسب مجتمع المحامين الذين سارعوا للتوحّد في الدفاع عنه، إنّما يستفزّ فئات واسعة من القوى الحقوقية والسياسية والاجتماعية. دفع سوء اختيار الخصم إلى توسيع دائرة المستنكرين والمندّدين بهذه الملاحقة القضائية. فتمّ تنظيم وقفة احتجاجية أمام عتبات قصر العدالة بمناسبة الجلسة التحقيقية التي أُستدعي لها جمعت ولأوّل مرة أهمّ الفرقاء السياسيين وأشدّهم اختلافا منذ انقلاب 25 جويلية. وقفة احتجاجية شارك فيها طيف واسع من السياسيين الممثلين على سبيل المثال لحزب العمّال، وحركة النهضة والحزب الجمهوري وحزب التيار وممثلين عن جبهة الخلاص وشخصيات سياسية أخرى مستقيلة من الأحزاب. شارك فيها أيضا عدة حقوقيين وناشطين بالمجتمع المدني على رأسهم نقابة الصحفيين وجمعية النساء الديمقراطيات والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. أمّا على مستوى الفاعلين بالشأن القضائي، فقد تقدّمت جمعية القضاة صفوف المحتجّين وأحاط القضاة المعفيون محاميهم في صورة تضامنية تقلب الموازين وتدفع الضحايا لتصدّر الدفاع عن لسان الدفاع عنهم. أمّا عن المحاماة، فقد انضمّ العديد من المحامين المنتمين لتيارات إيديولوجية مختلفة (من المشاركين بلجنة الدفاع في قضية اغتيال شكري بلعيد إلى المحامين المنخرطين بحركة النهضة) إلى جانب غالبيّة العمداء السابقين (باستثناء إبراهيم بودربالة) للوقفة الاحتجاجية، وللدفاع عن زميلهم أمام قاضي التحقيق. جلسة تحقيقية، قدّم فيها ما يقارب 140 محاميا ومحامية إعلام نيابتهم لتمثيل العياشي الهمامي والدفاع عنه وفي مقدّمتهم عميد المحامين حاتم المزيو، الذي تفادى في المقابل، في إطار حسابات العلاقة مع السلطة، الحضور في الوقفة الاحتجاجية التي غطّتها وسائل الإعلام.
لقاء القضاة والمحامين: تحالف استراتيجي أم التقاء ظرفيّ؟
دفاع العميد المزيو عن محامي القضاة المعفيين بعيدا عن أضواء الكاميرات لم يكن الموقف الخافت الأوّل للعمادة في هذا السياق. ففي مقابل تهاطل بيانات الفروع الجهوية للمحاماة رفضا للمرسوم 54 ومساندة لزميلهم، صمت مجلس هيئة المحامين ولم يُصدر أيّ بيان في علاقة بقضية الهمامي. وهو ما يُؤكّد موقف عمادة المحامين المتذبذب إزاء سعيّد ونظام حكمه في سياق معارضتها القويّة لقانون الماليّة، ودخولها، صحبة الاتحاد العامّ التونسيّ للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية، في مبادرة سياسيّة للخروج من الأزمة، لم تتّضح معالمها بعد.
دفاع العمادة المحتشم عن أحد المعارضين العلنيين لسعيّد والمدافعين عن وحدة الصفّ لمقاومة سلطته، تنافى تماما مع المساندة المطلقة التي عبّر عنها القاضي أنس الحمادي، رئيس جمعية القضاة. فبالاضافة لبيان جمعية القضاة الصادر على إثر الإحالة القضائية ولوقوف رموزها جنبا إلى جنب مع الهمامي أمام كاميرات الإعلام ومرافقته أثناء دخوله للمحكمة، عبّر رئيس جمعية القضاة، في كلمته التي ألقاها خلال الوقفة الاحتجاجية على “ضرورة توحيد الصفوف للدفاع عن مقومات الدولة الديمقراطية”. كما وجّه دعوة مباشرة للقضاة “للتمسّك باستقلاليتهم وبالتطبيق السليم للقانون وعدم الرضوخ لتعليمات السلطة التنفيذية”. لئن كان اللقاء حول قضية العياشي الهمامي على خلفية دفاعه عن القضاة المعفيين خطوة فارقة ساهمت في تقارب المحامين والقضاة بعد أشهر من الجفاء، إلا أنّه لا يعني إلى حدّ الآن قيام تحالف استراتيجي معارض لسعيّد بين شقّي العدالة، ولا انخراطا واضحا من عمادة المحامين في معركة الدفاع عن استقلالية القضاء. فاللقاء بين الطرفين إنّما حصل بفعل شخصيّة الهمامي نفسه والمصداقية والمقبولية التي يحظى بها في صفوف كلّ من المحامين والقضاة وحتى السياسيين والحقوقيين وارتباط ملاحقته بملف المعفيين، إنما يصعب الجزم في آفاق هذا اللقاء، خصوصا في ظلّ عدم وضوح موقف عمادة المحامين وتموقعها المتأرجح بين التصعيد والتبرير في علاقة بسلطة سعيّد. فعند سؤال عميد المحامين حول أهمية اللقاء بين القضاة والمحامين في الدفاع عن الهمامي، صرح للمفكرة أنّه “من المهمّ أن يتواجد بعض القضاة المؤمنين بحرية التعبير وبأهمية توفير الضمانات للمحامي في التعبير وفي الدفاع (بالوقفة الاحتجاجية)”، في محاولة منه للتقليل من أهمية المشاركة القضائية في الوقفة الاحتجاجية.
رغم الشتات، اتفق الجميع على رفض المرسوم 54
فيما يتأخّر التحالف على المستوى السياسي، قد تتقارب المواقف على قاعدة القراءة الرافضة للمرسوم 54 وإن كانت متفاوتة بشكل طفيف. هذا المرسوم المرفوض من عدد كبير من مكونات المجتمع المدني، بات يمثّل القطرة التي أفاضت الكأس وجمع بذلك كلّ المتناقضات والخصوم. فقضية العياشي الهمامي ما هي إلاّ نموذج عن طريقة استعمال أجهزة السلطة لهذا المرسوم بهدف التضييق على المواطنين وعلى حقّهم في التعبير. بالاضافة للهمّامي، تمّ استعمال هذا المرسوم للتضييق على كلّ من الصحفيين والمشاركين بالحركات الاحتجاجية كما تمّت إحالة العشرات من المواطنين بمقتضى هذا المرسوم على خلفية تعبيرهم عن آرائهم بمواقع التواصل الاجتماعي في علاقة بالشأن العام وفشل قرارات سعيّد ومساره. تقاطع أكّده علاء الطالبي، المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حيث صرّح للمفكّرة القانونية أنّه “هناك إجماعا على عدم مشروعية المرسوم 54 وعلى ضرورة إسقاطه، (..) لقد أصبحت الرسالة واضحة اليوم، إنّ هذه السلطة باتت تحفر قبرها بنفسها عبر تصليتها سيفا قاطعا على رقاب المواطنين محاولة في ذلك سلبهم أكبر مكسب تمّ تحقيقه منذ الثورة ألا وهو حرية التعبير وتأسيسها (بذلك) لدكتاتورية ناشئة”. رفض المرسوم وضرورة إسقاطه، عبّر عنه أيضا رئيس جمعية القضاة خلال الكلمة التي ألقاها أمام المحتجين بالمحكمة، معتبرا أنّ “الهدف من هذا المرسوم بات واضحا جدّا. هذه السلطة تستعمل هذا النصّ لتكميم الأفواه الحرّة ولا يهمّها إن كان المعبّر عن رأيه منتميا (سياسيّا) لليمين أو لليسار أو للوسط، ولا يهمّها أيضا إن كان قاضيا أو محاميا أو إعلاميّا، ما يهمّها فقط هو إن كان الشخص مواليا لها أو ضدّها”.
مقابل الرفض القاطع للمرسوم والمطالبة باسقاطه، عبّرت المحاماة عن رفضها لطابعه الخارق لكل معايير حرية التعبير والرأي عن طريق عميدها بشكل مختلف. فقد أكّد حاتم مزيو، عميد المحامين، في تصريح للمفكّرة القانونية على ضرورة “مراجعة وتعديل المرسوم 54 خصوصا في فصليه 24 و25” اللذين، حسب تعبيره، وقع تضمينهما بشكل مسقط بنصّ المرسوم المتعلّق بالسلامة المعلوماتية والاكتفاء بذلك بالترسانة القانونية لمكافحة جريمة التشهير، ليصعّد ثلاثة أيام فيما بعد من حدّة الموقف. فقد أعلن خلال الندوة الوطنية المتعلقة بالحركات الاجتماعية والسياسات العمومية عن اصطفاف المحاماة إلى جانب بقية المنظّمات والحركات الاجتماعية في المطالبة “بإلغاء هذا المرسوم والتصدّي له والتصدّي (كذلك) لإحالة كافة النشطاء والحقوقيين والمحامين والمناضلين والمناضلات من أجل هذا المرسوم التعيس والرديء”.
في ظلّ تعمّق الأزمة المركّبة التي تمرّ بها البلاد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بات من الضروري أن تحسم عمادة المحامين موقفها خصوصا بعد الإعلان عن مشاركتها في المبادرة الوطنية للإنقاذ مع الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. لقد بات من الجليّ بأنّ واقع الأزمة اليوم ومدى خطورة آثارها لا يتحمّل مزيدا من الغموض أو عدم الوضوح، بل يتطلّب تحرّكات حاسمة لإنهاء حالة العبث التي تمرّ بها البلاد ولإيجاد حلول واقعية للخروج من الأزمة. كما أثبتت التجارب السابقة بأنّ المواجهة مع قيس سعيّد لا تكون على قاعدة مسك العصا من النصف على أمل تراجعه بخطوات والتقدّم فيما بعد للتفاوض معه. لقد أكّد قيس سعيّد طيلة فترة تولّيه الرئاسة بأنّه فاعل سياسي ماض في مشروعه، من دون تفاوض أو تشاور أو تراجع أو أدنى اهتمام بما يفكّر أو يطرحه شركاؤه بالوطن. وبالتالي ما على هؤلاء إلاّ أن يدركوا خصوصيات السياسي الذي يواجههم وطبيعة مشروعه خصوصا خلال رسم خطواتهم التي سيتخذونها.
في هذا الإطار، تبقى الآمال معلّقة على احتماليّة توحيد المواقف والتحرّكات كمنفذ طارئ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظلّ الوضعية الحرجة. وهو ما عبّر عنه علاء الطالبي بإيجابية، حين قال: “أعتبر هذا اليوم تاريخيا لما يمثّله من إجماع كامل حول ضرورة إسقاط سلطة المراسيم…هذا الأمر أصبح مسألة وقت لا غير”.