محاكمة شبّان قابس: النضال ضدّ التلوّث يقود إلى السجن


2025-05-28    |   

محاكمة شبّان قابس: النضال ضدّ التلوّث يقود إلى السجن

أصدرت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بقابس، أول هذا الأسبوع، بطاقات إيداع بالسجن في حق ثلاثة شبان تم إيقافهم إثر الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها حركة stop pollution وعدد من مكونات المجتمع المدني والأهالي يوم الجمعة 23 ماي، للمطالبة بتفكيك الوحدات الملوثة التابعة للمجمع الكيميائي ووقف مشروع الهيدروجين الأخضر في مدينة قابس (جنوب شرق تونس). ومن المنتظر أن تتم اليوم الأربعاء 28 ماي إحالة الشبان الثلاثة على أنظار الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بقابس. ويواجهون تهمًا متعلقة بـ “التواجد ضمن جمع من أجل إقلاق الراحة العامة وكان القصد منه ارتكاب جريمة و الاعتداء بالعنف الشديد على موظف عمومي حال مباشرته لوظيفته” على معنى الفصلين 79 و127 من المجلة الجزائية. 

كان محمد علي رتيمي، الناشط في الحراك البيئي بمدينة قابس وعضو جمعية دمج، أحد الشبان الثلاثة الذين تمّ إيداعهم السجن. ووفقًا لبيان مشترك نَشرَته عدد من منظمات المجتمع المدني في تونس، فإن الرتيمي تم اعتقاله إثر تدخّله لحماية أحد المواطنين الذين تعرّضوا للاعتداء بالعنف من قبل قوات الأمن. وأضاف البيان ذاته أنّ الرتيمي وشابًّا آخر تعرّضا للاعتداء بالعنف وسوء المعاملة والتعذيب مما خلف آثارًا جسدية ونفسية جسيمة تمّت معاينتها من قبل محاميهم. 

أصدرت حركة “stop pollution” التي تعتبر الحركة البيئية الأبرز في مدينة قابس، هي الأخرى بيانًا بخصوص الاعتقالات، أشارت فيه إلى أن الاعتقال جاء “إثر انتهاء الوقفة، حيث تمّ الاعتداء بالعنف الشديد على أحد الشابّين في الطريق العامّ، ليحاول الشابّ الثاني – الذي صودف وجوده في المكان – التدخّل لوقف الاعتداء، فيتمّ ضربه هو الآخر بعنف واقتيادهما معًا إلى منطقة الأمن الوطني والاحتفاظ بهما”. وطالبت الحركة بإسقاط التهم المنسوبة للشابين و”فتح تحقيق جدي ومستقل ومحاسبة كلّ من تورّط في ممارسة العنف والتعذيب”. 

تحرّك البيئة المواطني الذي انتظم يوم الجمعة 23 ماي في مدينة قابس

تضييق على المحتجّين والمتضامنين

نَظَّمَ يوم الإثنين 26 ماي، عدد من النشطاء وقفة احتجاجية أمام المحكمة الابتدائية بقابس، للمطالبة بإطلاق سراح الشبّان الموقوفين. وفي السياق نفسه، انتظمت أمس الثلاثاء وقفة تضامنية وسط العاصمة تونس دعت إليها جمعيّة دمج وشارك فيها عدد من النشطاء والمدافعين عن الحقوق والعدالة البيئية.  

بسبب مشاركتهم في الوقفة التضامنيّة في مدينة قابس، تَعرَّضَ النشطاء سيف العيادي وعلي كنيس وشاكر بكّوش، إلى الاحتجاز مساء أول أمس الإثنين في مركز حرس محطة الاستخلاص في منطقة مساكن، عندما كانوا في طريق العودة إلى العاصمة تونس، إثر تفتيش سياراتهم والعثور على لافتات كتبت فيها شعارات تندّد بالتلوث والتعذيب والعنف البوليسي. وقد تمّ إطلاق سراحهم بعد حضور محاميهم. 

قَال سيف العيادي، أحد النشطاء الذين طالهم الاحتجاز والناشط في جمعية دمج، لـ “المفكرة القانونية”: “تم إيقافنا في البداية من قبل حرس المرور ضمن إجراء روتيني بخصوص التثبت في الهويات ووثائق السيارة. ولكن بعد تفتيش السيارة والعثور على اللافتات، طُلِبَ منّا الانتظار وتمّ عمليّا احتجازنا. وقع استنطاقنا بطريقة مستفزّة من بعض الأعوان، وأعلمونا أنهم بصدد استشارة النيابة العموميّة من أجل البتّ في وضعيتنا. ثم أعلمنا عونٌ آخر أنه سيتم فتح بحثٍ عدليّ ضدّنا. وقد تواصلت المماطلة بعد قدوم محامينا. ليتم إطلاق سراحنا بعد حوالي ثلاث ساعات من الاحتجاز”. 

بخصوص التعطيلات والتضييقات الأخرى التي حرمت الشبان الموقوفين من حقوقهم، أكد العيادي لـ “المفكرة” أنّ “التقارير الطبية التي تثبت تعرضهم للعنف الشديد والتعذيب لم تصل إلى وكيل الجمهورية، في حين أن الملف تَضمَّنَ شهادة طبية تُفيد تعرّض عون أمن لاعتداء جسدي. كما أن عدول الإشهاد في مدينة قابس رفضوا تسجيل شهادات بعض المواطنين التي تُؤكد تعرّض الشبان للعنف البوليسيّ أثناء اعتقالهم”.   

وقفة احتجاجية تضامينة أمام المحكمة الابتدائية بقابس، يوم الاثنين 26 ماي، للمطالبة بإطلاق سراح الناشط محمد علي الرتيمي وشابين آخرين

قابس: التلوّث القاتل والاستعمَار البيئيّ

بسبب التدمير البيئي والصحّي الذي عاشتْه طيلة خمسة عقود، شهدت مدينة قابس بعد ثورة 2011 حراكًا بيئيًّا مناهضًا للتلوث، تُوِّج بقرار وزاريّ صدر في جوان 2017 يقضي بتفكيك الوحدات الكيميائيّة الملوّثة. لكن هذا القرار لم يجد طريقه إلى التطبيق، وأصبح تقريبًا قيد الإلغاء بعدما أعلن المجلس الوزاري خطّة لتطوير أداء المجمّع الكيميائي من خلال الترفيع في نسب نشاط المصانع لتبلغ 80% من الطاقة التصميميّة في غضون سنة 2028. كما تمَّ حذف الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة وإدراجه كمادة منتجة. هذا علاوة على شروع وزارة الصناعة والطاقة والمناجم في إبرام اتفاقات متعلقة بتنفيذ مشاريع الهيدروجين الأخضر

وقد أكّد صابر عمّار عضو حملة stop pollution والباحث في السياسات البيئية والفلاحية، لـ “المفكّرة” أنّ “الدولة لم تُطبّق فقط قرار وزاري سابق، وإنما تُواصل في منوال التنميّة الاستخرَاجيّ الذي يستغلّ دون الأخذ بعين الاعتبار التكلفة البيئية والاجتماعية”.

وبخصوص مشاريع الهيدروجين الأخضر، قال عمّار: “الدّولة ماضية بخصوص إمضاء اتّفاقات في مشاريع الهيدروجين الأخضر التي تتمَاهى مع حاجيات أوروبا الطاقية وخاصة ألمانيا، والذي سيتمّ تركيزها أساسا في الجنوب التونسي في ولايات قابس وتطاوين ومدنين وقبلي. وهو ما سيُلحق ضررًا بالحياة البحرية لأنهم سيستعملون تقنية تحلية مياه البحر (حسب الاستراتيجية الوطنية سيتمّ تقريبًا استعمال 250 ألف مليون متر مكعب من مياه البحر سنويا في أفق 2050). وهكذا فإن المياه شديدة الملوحة التي تَنتج عن عملية التّحليَة سيتمّ الإلقاء بها في البحر، وهو ما سيَقضي على الاقتصاد الأزرق وعلى نشاط الصيد البحريّ الذي يشكّل مورد رزق لآلاف الصيادين”.

وأضاف عمّار: “يندرج هذا أيضًا ضمن سيّاسات التّصدير المناخي، ويعدّ مواصلة في نمط الاستحواذ على أراضي الأهالي بحجّة أنها غير مُنتجة، وهي آليّة استعمارية. هذا التمشي يُضيّع فرصا حقيقية لخلق نموذج تنموي بديل وخلق ثروة من مواردنا، وليس تسخيرها لخدمة مصالح الاستثمار الأجنبي”. 

وبخصوص مشروع الأمونيا الخضراء الذي أعلنت عنه الحكومة منذ شهر مارس الفائت، أشار عمّار إلى أنّ “الحكومة ووزارة الصناعة والطاقة والمناجم تتحدث عن مشروع الأمونيا الخضراء، التي ستُبَاع للمجمع الكيميائي. ولكن في تقديرنا هذا المشروع الذي يُسوَّق له كإنتاج محلي يُعوض التوريد هو مشروع تجريبي وذرّ رماد في العيون ومغالطة، ولن تذهب فيه الدولة لأن هدفها هو تصدير الهيدروجين الأخضر كمادة خام، وهو محور رئيسي في استراتيجيتها. وهدف الشركات الأجنبية ليس خلق تنمية محلية وصناعة، وإنما الهدف تركيز مشروع الهيدروجين الأخضر الذي سيكون أساسًا في الجنوب التونسي”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، قرارات قضائية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني