محاكمة خضر أنور في قضية “غرافيتي الخارجية”: أين الجريمة التي رأتها النيابة العامّة؟ 


2025-01-28    |   

محاكمة خضر أنور في قضية “غرافيتي الخارجية”: أين الجريمة التي رأتها النيابة العامّة؟ 

قبل أكثر من عام، في كانون الثاني 2023، حرّك الغضب من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة الناشط السياسي خضر أنور وعدد من الناشطين لكتابة شعارات على جدار مبنى وزارة الخارجية المهجور في الأشرفية: “الصهاينة غير مرحب بهم” و”وزارة الانبطاح”. ما بدأ يومها كتعبير احتجاجي على زيارة وزيرة الخارجية الألمانية إلى لبنان، في ظلّ دعم بلادها الثابت لإسرائيل في حربها على غزّة والذي لا تزال تخضع بسببه للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية، سرعان ما تحوّل إلى قضيّة تُسلّط الضوء على حريّة التعبير فيما يتعلّق بالاعتراض السلمي ضدّ حرب إسرائيل على غزّة. 

حينها سارعت النيابة العامة التمييزية (القاضي صبوح سليمان) إلى توقيف خضر في 12 كانون الثاني 2023، لتدّعي عليه النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت (القاضي زياد أبو حيدر) بجرائم الشغب والتخريب والقدح والذم بحق وزارة الخارجيّة اللبنانيّة (المواد 346 و733 و386 و388 من قانون العقوبات). وأحالته موقوفًا أمام قاضي التحقيق في بيروت (بلال حلاوي) الذي أخلى سبيله بعد أسبوع بكفالة مالية. 

وبعد صدور القرار الظّني في حقّه والذي أيّد مواد الادعاء وفق وكيلة خضر، المحامية فداء عبد الفتّاح، أُحيل خضر للمحاكمة أمام القاضية المنفردة الجزائيّة في بيروت عبير صفا. مسار قضائي اتسم بتشدد من قبل النيابة العامّة في التعامل مع ناشط يعترض على الإبادة الجماعية في غزّة مستخدمًا الوسائل السلمية (غرافيتي) التي سبق للمحاكم اللبنانية أن رفضت تجريمها ووضعتها تحت حماية حرية التعبير، من ضمنها محكمة القاضية صفا في قضايا ناشطي حراك 2015. . 

يوم الخميس في 23 كانون الثاني 2025 مثل خضر أنور أمام القاضية صفا لمحاكمته في هذه القضية في حضور وكيلته فداء عبد الفتّاح. فنّدت عبد الفتّاح مواد الادعاء، واحدة تلو الأخرى، في مرافعتها التي تلتها عقب استجواب خضر، مؤكدةً عدم انطباقها على أفعاله، ومتسائلةً عن دور النيابات العامّة في حماية الحرّيات: “هل الحق العام هو حق الشعب أم حق السلطة أم كلاهما معاً؟ وهل بات دور النيابات العامّة الاقتصاص من منتقدي السلطة السياسية أم أنّها حامية حقوق المجتمع؟”. وأنهت مرافعتها بالمطالبة بكفّ التعقّبات في حق خضر لأنّ “كتابة الغرافيتي خلال تحرّكات مطلبية تندرج ضمن حرّية التعبير عن الرأي ولا تعتبر جرمًا يعاقب عليه القانون”. وحدّدت القاضية صفا تاريخ 31 آذار 2025 موعدًا للنطق بالحكم. 

أين الجرم الذي ارتكبه خضر أنور؟

حين استدعي خضر أنور إلى التحقيق في 13 كانون الأوّل 2023، لدى تحرّي بيروت في ثكنة بربر الخازن في فردان، توجّه إلى هناك متوقّعًا أن يكون حضوره وجيزًا، لكنّه فوجئ بصدور قرار توقيفه من قبل النيابة العامّة التمييزية. وبقي خضر حينها موقوفًا لأكثر من أسبوع قبل أن يُفرج عنه بعد مثوله أمام قاضي التحقيق الأوّل في بيروت بلال حلاوي الذي استجوبه من دون أن يسمح لوكيلته بالحضور بذريعة عدم وجود وكالة قانونيّة. 

واستعادت المحامية عبد الفتاح في مرافعتها التي اطلعت عليها “المفكّرة” وقائع التحقيق، مشيرةً إلى أنّ خضر تعرّض للضغط المعنوي والنفسي خلال التحقيق معه. وذكرت أنّ القاضي توجّه إليه بالقول “شو جاية تعلّم الدولة شغلها” مستخفًّا بآرائه ومتهكّمًا على عمله قائلًا لخضر الذي تمسّك بأقواله، “شكلك مش رح تتربّى” (يبدو أنّك لن تتربّى). وسألت المحامية عبد الفتاح ما إذا كان القاضي “قد حمى بذلك مؤسّسات الدولة وحافظ على كرامتها؟  وإن كان قد قام بتربية خضر أنور وكلّ الشباب الذين يمثلهم؟”. 

وشرحت المرافعة أنّ خضر “واحد من عشرات الشبان الذّين نزلوا إلى الشوارع مرارًا وتكرارًا ليصرخوا اعتراضًا في وجه منظومة فاسدة باتت متجذّرة في معظم مفاصل حياتنا، حتى كدنا نقتنع، بسبب ممارساتها، أنّ الباطل حق، وأنّ القاعدة هي مخالفة القوانين والقفز فوقها”. وأوضحت أنّ “كلّ هذا بسبب غياب المحاسبة العادلة والشفافة وبسبب عدم احترام الأنظمة والقوانين من القيّمين عليها قبل هؤلاء الشباب”. 

وسألت ما إذا كانت كتابة عبارة “وزارة الانبطاح” على جدار المبنى المهجور لوزارة الخارجية ينطبق عليه توصيف الجرائم التي ادعت بها النيابة العامّة. وأضافت، “في الدعوى الراهنة أين الاعتداء؟ أين هو التخريب؟ أين القدح والذم؟ وأين هي أعمال الشغب؟ هل كتابة شعار سياسي أو مطلبي على حائط أو باب أو رصيف أو لافتة بات جرمًا يحاسب عليه القانون وفق أهواء السلطة السياسية؟”. واعتبرت أنّ “ما قام به خضر أنور ليس شغبًا ولم يكن يومًا وهو شكل من أشكال التعبير عن الرأي الذي يكفله الدستور وتحميه القوانين في لبنان”.

ولفتت عبد الفتاح في مرافعتها إلى أنّ “أنور قد أوقف عشرات المرّات أقلّه في السنوات العشرة الأخيرة لأنّه رفع شعارات مندّدة عديدة تناول فيها قضايا تعني كلّ واحد فينا”، ومن بينها قضايا تتّصل بالجامعة اللبنانية، والسياسة المصرفية، والقضايا العمّالية، والمدرسة الرسمية، وقضية المناضل جورج عبدالله، والفساد والفاسدين وأزمة النفايات. وفي إشارة منها إلي تعدّد الملفات التي يُلاحق فيها خضر على خلفية نشاطه السياسي، أكّدت أنّ “النيّة الجرمية غير متوفّرة لدى المدّعى عليه لا في هذا الملف ولا في أيّ ملف آخر ليس خوفًا ولا تهذيبًا مبالغًا فيه، بل إيمانًا بدولة المؤسسات وبأنّها حبل النجاة الوحيد من مصابنا في منظومة الفساد”. وشددت على أنّه “لا خيار لنا إلّا النضال بالطرق الديمقراطية والسلمية للتخلص منها”. 

وفي اتصال مع “المفكرة” بعد الجلسة، أكدّت المحامية عبد الفتاح على براءة خضر من الجرائم التي ادّعت فيها النيابة العامّة، مؤكدّةً أنّه “لا يوجد عنصر جرمي ينطبق على ما قام به خضر”.  ومن جهة ثانية، تنتقد ما يقوم به بعض القضاة في النيابة عبر “إسقاط مواد قانونيّة على أفعال تتّصل بالحريّات، ولا هدف من ذلك سوى القمع”. وتؤكد أنّه “من غير المقبول توقيف الناشطين بسبب تحرّكات مطلبية أو احتجاجية، فلو كان هناك أي جرم، يُمكن للنيابة العامّة أن تدّعي أمام القاضي المنفرد” مباشرة. وتعتبر أنّ التوقيف في هذه الحالات هو بمثابة حكم مسبق على الفرد، لا تمتلك النيابة صلاحيات إصداره. وتُشدّد على أنّ النيابة لها حق التوقيف فقط حين يكون هناك خشية من هروب المشتبه به أو كونه يُشكل خطرًا على المجتمع أو على المدّعي، وفي حالة خضر لم تكن أي من هذه الأسباب متوفّرة. وتعتبر أنّ النيابة العامّة باتت مثل “ضابط المخابرات الذي يعمل حصرًا لحماية النظام السياسي، لا لحماية المجتمع”.

“تربيّت على الاستمرار في المواجهة”

في اتصال مع “المفكرة” يصف خضر أنور جلسة الاستجواب أمام القاضية صفا بأنّها كانت جلسة هادئة، وأنّ القاضية توجّهت بأسئلة تفصيلية حول الوقائع وكذلك حول النيّة الجرمية لديه. ويستعيد خضر وقائع جلسة الاستماع إليه أمام قاضي التحقيق في بيروت في كانون الثاني 2023، الذي توجّه إليه بعبارة “إنت ما رح تتربّى”، ليؤكّد اليوم أنّه “بالفعل تربيّت، لكنّ ليس على ما أراده القاضي، بل تربّيت على الاستمرار في العمل تجاه القضايا التي أؤمن بها”. ويؤكّد أنّه مقتنع بالمسار الذي يتّخذه، علمًا أنّه يتحمّل أعباء ثقيلة بسبب هذه الملاحقات المتعدّدة جرّاء تعرّضه للتوقيف لعشر مرّات في آخر عشرة أعوام، من بينها ثلاثة توقيفات في عامي 2023 و2024. ويُشدد خضر على أنّ “كلّ محاولات التضييق علينا تُعزّز عزيمتنا على الاستمرار في هذه المواجهة الشرسة مع المنظومة”. 

وفي عامي 2023 و2024 أوقف أنور ثلاث مرّات، فعدا عن توقيفه بسبب رش الغرافيتي على جدار وزارة الخارجية، أوقف أيضًا في آذار 2024 لأسبوع على خلفية دعوى رفعتها ضدّه شركة طيران الشرق الأوسط على خلفية تحرّكات نظّمها الاتحاد ضدّ الشركة احتجاجًا على عدم تسديدها عائدات فحوصات الـ PCR المقدّرة بـ 52 مليون دولار للجامعة اللبنانية.  وكان قد أوقف قبلها في 12 تشرين الأوّل 2023، بسبب رفع علم فلسطين فوق مبنى السفارة الفرنسية. ويتوقّع أنور أن تستمرّ ملاحقته في هذه القضايا وأن يتمّ إعادة استدعاؤه فيها. 

استمرار محاكمات الناشطين

بالإضافة إلى خضر أنور، كان ثلاثة ناشطين آخرين على موعد محاكمة هذا الأسبوع، يوم الاثنين في 20 كانون الثاني أمام القاضية المنفردة الجزائية في بيروت لارا عبد الصمد، وذلك في دعوى رفعها بنك الموارد عليهم على خلفية تظاهرة نُفذت أمام أحد فروعه في شارع الحمرا في بيروت في نيسان عام 2020، وجرى تأجيلها إلى 17 حزيران 2025 لاستكمال التبليغات. 

وهذا يشير إلى أنّ استمرار قضاة النيابة العامّة في ملاحقة المشاركين في تظاهرات 17 تشرين بعد التحقيق معهم في المخافر، كما حدث في السنوات الماضية مع عشرات المتظاهرين الذين خضعوا لمحاكمات مشابهة أمام القضاء العسكري والمحاكم العادية. ويشمل ذلك أيضًا محاكمات المشاركين في حراك 2015، حيث امتدت الإجراءات القضائية ضدّهم لسنوات أمام المحكمة العسكرية والقضاة الجزائيين. هذه الملاحقات القضائية تُعيق حياة الناشطين الذين يكتشفون فجأة استدعاءهم إلى المحاكم أو صدور أحكام غيابية في حقّهم. 

كما تُظهر تحدّيًا مستمرًّا أمام المحاكم في التعامل مع ادعاءات النيابات العامّة التي تُضفي طابعًا جرميًا على ممارسات مرتبطة بحرية الرأي والتعبير. وكما تنصّلت المحاكم من قمع ناشطي حراك 2015، كذلك صدرت عشرات أحكام البراءة في حق ناشطي 2019، وذلك بعد ثبوت غياب الأدلّة على ارتكاب الجرائم وتاليًا عشوائية التوقيفات خلال التظاهرات. وقد رصدت “المفكّرة” صدور أحكام وجاهية في حق أكثر من 112 شخصًا على خلفية تظاهرات حراك 2019، حيث تمّت تبرئة 77 منهم أيّ ما نسبته 69%. هذا الواقع يُعزز القناعة بأنّ ممارسات النيابة العامّة لم تهدف سوى إلى تأديب المتظاهرين وقمع المعارضين السياسيين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني