بداية الشهر العاشر من سنة 2019، وبمناسبة مشاركته في عدد من البرامج الحوارية التلفزية، أدان الصحافي والناشط السياسي توفيق بن بريك[1] استمرار إيقاف نبيل القروي رغم نجاحه في المرور للدور الثاني من الإنتخابات الرئاسية. وقد اعتبر أن إيقافا كذاك يواجه “في بلدان أخرى برفع الناس السلاح للدفاع عن رجالهم”. وانتهى إلى وصف القضاة “بالكلاب”. كما شهّر بعدد ممّن نظروا في ملف القضية ورفضوا الإفراج عن حليفه السياسي بأن عدّد أسماءهم متّهما إياهم بالفساد والإنتماء لمنظومة قضاة التعليمات[2].
اعتبرت الهيئة العليا المستقلّة للإعلام السمعي البصري أن خطاب بن بريك “تحريضي على العنف والكراهية تضمن عبارات ثلب وشتم وقذف وإهانة ومسّ من اعتبار وسمعة أشخاص والمؤسسة القضائية”. وتولّت في إطار ما لها من صلاحية قانونية تسليط خطية مالية على قناة نسمة. كما أخطرت النيابة العمومية لدى المحكمة الإبتدائية ببن عروس به وطلبت منها تتبعه من أجل التحريض على الكراهية والعنف[3]. في ذات التاريخ، دعت هياكل القضاة إلى تفعيل القانون حياله لإيغاله في التحريض على القضاء.
وجهت النيابة العامة لمن ذكر تهم التشهير وأحالته للدائرة الجناحية بالمحكمة الإبتدائية ببن عروس لمقاضاته لأجلها. وهنا اختار بن بريك أن يتغيّب عن إجراءات البحث الأولي والمحاكمة بما انتهى لأن صدر في حقه حكم غيابي يقضي بسجنه مدة سنتين مع النفاذ العاجل. اعترض عليه ومثل أمام المحكمة حيث تمسّك بذات أقواله ومواقفه. فقضي في حقه من ذات المحكمة بسنة سجن مع النفاذ العاجل، وهو الحكم الذي نفذ بإيداعه بالسجن المدني بالمرناقية بتاريخه الموافق ل 23-07-2020.
نقابة الصحافة تتحدث عن ديكتاتورية القضاة
أثار الحكم وتنفيذه ردّ فعل معارض في الوسط الحقوقي. فكان أن اعتبرته نقابة الصحافيين في بلاغ صدر عنها بتاريخ 24-07-2020 فضيحة قضائية وإنحرافا خطيرا في المعالجة القضائية يؤدي إلى “إقحام الصحفيين في الصراعات السياسية” ويؤشر على “تنامي دكتاتورية القضاة لضرب حرية الرأي والتعبير والصحافة” ويؤول إلى تعزيز الخشية على حرية نقد المؤسسات ومنها القضاء”[4] والتي تعترف المجتمعات الديمقراطية للجميع بحق نقدها. كما وصفته 35 جمعية حقوقية في بيان صدر عنها بتاريخ 27-07-2020 “بالحكم الظالم” الذي يتحمّل من أصدره ومن يحاول أن يبرره المسؤولية التاريخية عنه.
الوسط القضائي يرحّب
في نقيض ذلك، وجد ذات الحكم قبولا وصل حدّ الترحاب في الوسط القضائي. وقد انتقدت جمعية القضاة التونسيين في بلاغ صدر عنها بتاريخ 25-07-2020 ما تضمّنه بلاغ نقابة الصحافيين لجهة أن ما صدر عن بن بريك يندرج في إطار حرية التعبير. وقد رأت أنه ارتكب “خلطا متعمدا بين خطاب العنف حدّ التحريض على حمل السلاح والإقتتال وحرية التعبير” وهو أمر “يشجّع غيره من الصحفيين على تبني هذا الأسلوب”[5].
ويؤشر الخلاف والجدل الدائر حول هذا الحكم على ما بات له من أهمية في تعريف الحق في نقد القضاء وممارسته ولكونه يبرز فيما قرر من عقاب الإشكاليات التي تطرح في قضايا التشهير المتعلق بالقضاء والقضاة.
الخطاب حول القضاء: حدود النقد المباح للقضاء والقضاة
يكرس الفصل 31 من الدستور التونسي “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر” وهو يفرض ألا تمارس عليها أي رقابة مسبقة. بالمقابل، يجيز الفصل 49 منه تدخل القانون للحدّ من الحقوق الأساسية ومنها هذه الحقوق بشرط أن يكون ذلك “لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة” وأن يحترم فيه “التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها” وألا “ينال من جوهر الحق”. ويظهر عند هذا الحدّ السؤال عن حق نقد القضاء والقضاة سؤال عن حق أساسي يجوز بشروط تنظيم ممارسته.
تصدّى المشرع الفرنسي لهذا السؤال فخصص في المجلة الجزائية فصولا[6] جرمت التشهير بالقضاة وسلط عقوبات تصل للسجن النافذ لمدة سنة كاملة على كل من تثبت عليه. وتحضر في فقه القضاء الفرنسي والخاص بمحكمة الإنسان الأوروبية أمثلة متعددة لمؤاخذات جزائية صدرت فيها أحكام بالإدانة لأجل هذه الجرائم. ويجد هنا تخصيص القضاء في منظومة ديمقراطية عريقة بحماية خاصة من التشهير مبرره فيما يمكن أن يؤول له خطاب التشهير من آثار سلبية تتمثل أساسا في كونه:
- يصنع الخوف في وسط القضاة من التعرض لمراكز النفوذ أو الاشخاص الجريئين في خطابهم، بما يؤثّر على قدرتهم على اتخاذ القرار القضائي في ظروف موضوعية ويمنعهم بالتالي من الفصل الموضوعي في المنازعات،
- يمكن أن يعتمد لصناعة حصانة موضوعية لمن يخشى القضاة من تشهيرهم،
- يمس بالثقة العامة في المؤسسة القضائية بما يشكل إضراراً بسلطة تحتاج في عملها لتلك الثقة.
بدوره، وضع المشرّع التونسي غداة الثورة في إطار المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بالصحافة[7] الأحكام الواجب مراعاتها في الشؤون القضائية. وفيما وضع جملة من المحظورات، (مثلا منع نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية)، فإن النفس الثوري الذي طغا على المرسوم حال دون تخصيص القضاء أو القضاة بأحكام تبيّن الحدود المسموح بها في نقدهم. فتكون حرية نقد القضاء والقضاة من من الحريات المكفولة بصريح نص الدستور التي لا يحدها إلا ما نصت عليه القوانين من تحجير للتشهير.
تجريم التشهير
يجرم الفصل 128 من المجلة الجزائية نسبة أمور غير قانونية لموظف عمومي أو شبهه متعلقة بوظيفة لدى العموم أو عن طريق الصحافة أو غير ذلك من وسائل الإشهار من دون أن يدلي بما يثبت صحة ذلك ويسلط عقابا بالسجن مدّة عامين وبخطية قدرها مائة وعشرين دينارا على من يثبت في حقه ذاك الجرم.
في ذات السياق، يعرف المرسوم 115 لسنة 2011 الثلب بالفصل 55 منه بكونه “كل ادعاء أو نسبة شيء غير صحيح بصورة علنية من شأنه أن ينال من شرف أو اعتبار شخص معين بشرط أن يترتب عن ذلك ضرر شخصي ومباشر للشخص المستهدف” ويحدد له عقوبة بموجب الفصل 56 منه “خطية من ألف إلى ألفي دينار”.
يكشف نظر الفصلين القانونيين أن التشهير فعل محجر بقوة القانون ولا يندرج بالتالي في خانة حرية التعبير. بالمقابل، تطرح مقاربة نصيهما السؤال حول المنطبق منهما على من يشهر بالقضاء والقضاة. وهنا يبرز موقفان:
أولهما: حقوقي ويتبناه مجتمع الصحفيين ويعتبر أن مرسوم الصحافة نسخ ما قبله من نصوص تجريم تعلقت بالتشهير وهو نص يستجيب للمعايير الدولية في المجال، خلافا لما كان سابقا له لكونه لا يسلّط عقوبات سجنية على من يثبت في حقه ذاك الجرم،
ثانيهما: يجد تطبيقات له في الممارسة القضائية ويعتبر أن النص الوارد بالمرسوم 115 يخص ثلب الأشخاص عموما في حال أن الفصل 128 يخص الثلب الموجه للموظف العمومي وبالتالي يظل ساريا متى توفرت شروط تطبيقه. ويقدم القائلون بهذا الرأي كدليل عليه أن المرسوم 115 ذاته يحيل في الفصل 14 منه وفيما يتعلق بجرائم الثلب التي يكون المتضرر فيها صحفيا للفصل 128 من المجلة الجزائية بما يؤكد أنه لم ينسخ[8].
يبدو اختلاف القراءات هذا للنصوص الجزائية إشكاليا ولا يتلاءم مع ما هو واجب في النصوص الجزائية من وضوح ويستدعي بالتالي تدخلا تشريعيا يوضح نطاق التجريم والعقوبة المستوجبة. ويفترض هنا أن يؤول هذا التدخل لتكريس نهائي لمبدأ عدم اعتماد العقوبات السجنية في جرائم التشهير بما يلائم التشريعات التونسية مع المعايير الدولية في المجال. ولكن، وبانتظار تحقيق ذلك، يترتب على القضاء الذي أوكل له المشرع مهمة السهر على حماية الحقوق والحريات أن يتحمل مسؤولية تحقيق التناسب بين الحفاظ على تلك القيم والضرورات التي تجيز تقييدها.
قاضي الحريات حين يكون خصما وحكما
يُعرّف الدستور التونسي في الفصل 102 منه القاضي وظيفيا بكونه حامي الحقوق والحريات. ويبدو الاضطلاع بهذا الدور صعبا متى كان القاضي كمؤسسة أو القضاء كسلطة هو الذي أدت ممارسة إحدى الحريات به. إذ يخشى حينها أن يندفع القضاة نصرة لأنفسهم للتوسع في نطاق الحدّ من “الحرية” بما ينتهي لمنع أيّ نقد لهم ولإصدار أحكام قاسية تفرض هالة خوف منهم وتستعمل كبديل عمّا هو مطلوب منهم من جهد في صناعة الثقة بهم. ونخشى هنا أن يكون الحكم الذي صدر في حق بن بريك، باعتبار معيار مدة السجن والنفاذ العاجل لمنطوقه وما تخلله من ردع وقساوة، من هذا القبيل. حان أن تعي جميع القوى الاجتماعية في تونس، وفي مقدمتها القضاء، أن ثمة حاجة جماعية للتدرّب على أصول ممارسة الحرية، تلك الحرية التي لا يجب أن يكون بحال التعسف فيها سببا لاستهدافها.
[1] صحفي عرف في عهد بن علي بانتقاده اللاذع للنظام كما عرف بأسلوب خطابه العنيف، خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 ساند المرشح نبيل القروي وقاد حملته الانتخابية .
[2] حررت الهيئة العليا المستقلة للاعلام السمعي البصري ثلاث استمارات عاينت فيها تلك الخروقات وذكرت تلك الهيئة أنها تعلقت ب:-حلقة 17 سبتمبر 2019 من برنامج سياسي تحت عنوان “هات الصحيح”، تم خلالها بث خطاب تحريضي يهدف الى تاجيج الرأي العام والتجييش لإثارة البلبلة.حلقة 30 سبتمبر 2019 من برنامج حواري إخباري تحت عنوان “ناس نسمة” تم فيها استضافة “توفيق بن بريك” وهو أحد مساندي نبيل القروي في حملته الانتخابية، وتم خلالها بث خطاب فيه دعوة للعنف وتحريض على الكراهية وحمل السلاح. حلقة 01 اكتوبر 2019 من برنامج “ناس نسمة” استمر فيها الضيف نفسه في بث خطاب تحريضي على العنف والكراهية تضمن عبارات ثلب وشتم وقذف و اهانة ومس من اعتبار وسمعة أشخاص والمؤسسة القضائية.
[3] ورد في بلاغ صدر عن الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري بتاريخ 03-10-2019 ” أحالت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري على وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية ببن عروس تقريرا يتعلق بخروقات جسيمة تمّ رصدها على القناة الخاصة غير الحاصلة على إجازة “نسمة” تتضمن بث خطابات تدعو للعنف والتحريض على الكراهية وحمل السلاح بما يهدد السلم الاجتماعي في وضع عام يشوبه التوتر، علاوة على ما تم بثه من عبارات ثلب وشتم وقذف وإهانة فيها مس من اعتبار وسمعة أشخاص وهيئات ومؤسسات رسمية.
[4] ورد بلاغ النقابة الوطنية للصحافيين الذي حمل عنوان ” سجن توفيق بن بريك فضيحة قضائية، ويجب إطلاق سراحه فورا ” للاطلاع عليه من موقع النقابة انقر هنا
[5] ورد في البلاغ الصادر عن جمعية القضاة التونسيين تحت عنوان “عندما تتحول الدعوة إلى حمل السلاح والاقتتال الأهلي إلى حرية تعبير”
[6] Les articles 434-24 et 434-25 du Code pénal
Article 434-24
« L’outrage par paroles, gestes ou menaces, par écrits ou images de toute nature non rendus publics ou par l’envoi d’objets quelconques adressé à un magistrat, un juré ou toute personne siégeant dans une formation juridictionnelle dans l’exercice de ses fonctions ou à l’occasion de cet exercice et tendant à porter atteinte à sa dignité ou au respect dû à la fonction dont il est investi est puni d’un an d’emprisonnement et de 15 000 euros d’amende.
Si l’outrage a lieu à l’audience d’une cour, d’un tribunal ou d’une formation juridictionnelle, la peine est portée à deux ans d’emprisonnement et à 30 000 euros d’amende. »
Article 434-25
« Le fait de chercher à jeter le discrédit, publiquement par actes, paroles, écrits ou images de toute nature, sur un acte ou une décision juridictionnelle, dans des conditions de nature à porter atteinte à l’autorité de la justice ou à son indépendance est puni de six mois d’emprisonnement et de 7 500 euros d’amende.
Les dispositions de l’alinéa précédent ne s’appliquent pas aux commentaires techniques ni aux actes, paroles, écrits ou images de toute nature tendant à la réformation, la cassation ou la révision d’une décision.
Lorsque l’infraction est commise par la voie de la presse écrite ou audiovisuelle, les dispositions particulières des lois qui régissent ces matières sont applicables en ce qui concerne la détermination des personnes responsables.
L’action publique se prescrit par trois mois révolus, à compter du jour où l’infraction définie au présent article a été commise, si dans cet intervalle il n’a été fait aucun acte d’instruction ou de poursuite. »
[7] مرسوم عدد 115 لسنة 2011 مؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
[8] ورد بهذا الفصل ” يعاقب كل من يخالف الفصول 11 و12 و13 من هذا المرسوم وكل من أهان صحفيا أو تعدى عليه بالقول أو الإشارة أو الفعل أو التهديد حال مباشرته لعمله بعقوبة الاعتداء على شبه موظف عمومي المقررة بالمجلة الجزائية.