محاكمة المتهمين بالإرهاب و”التآمر” عن بُعد: أسئلة حول شرعيتها وأخرى عن خلفياتها


2025-03-01    |   

محاكمة المتهمين بالإرهاب و”التآمر” عن بُعد: أسئلة حول شرعيتها وأخرى عن خلفياتها
رسم رائد شرف

بتاريخ 26 فيفري 2025، أبلغ فرع الهيئة الوطنية للمحامين بتونس مذكّرة عمل إدارية صدرت عن رئيسة المحكمة الابتدائيّة بتونس ووكيل الجمهوريّة لدى نفس المحكمة تقرّر بمقتضاها اعتماد المحاكمة عن بُعد فيما تعلّق بالقضايا المنشورة بالدائرة الجنائيّة المتخصّصة في القضايا الإرهابيّة طيلة شهر مارس من ذات السنة مع مواصلة ذات الإجراء فيما تعلق بتلك القضايا بعد ذلك طيلة أمد نشرها لوجود خطر حقيقيّ. ويفرض هذا المقرّر على المُتّهمين الموقوفين في القضايا المشمولة به وعددها حسب كشف أرفق به 149 متابعة جلسات محاكمتهم من سجونهم وباعتماد تقنيات التواصل عن بُعد المُعدّة للغرض.

الإجراء الذي يشمل جانبا ممن تتم ملاحقتهم في قضايا جنائية توصف بالإرهابية (منها قضايا التآمر التي يمثل فيها عدد من الشخصيات السياسية في 4 مارس القادم)، يفرض طرح السؤال في مرحلة أولى حول شرعيته قبل المضي للتساؤل عن أثر فرضه على الثقة العامة في القضاء.

أزمة شرعية المحاكمات عن بعد

سنة 2020 وبفعل انتشار جائحة الكورونا، وبموجب القانون عدد 19 لسنة 2020[1]، فوّض مجلس نواب الشعب لمدة شهرين رئيس الحكومة إصدار مراسيم بهدف “مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) وتأمين السير العادي للمرافق الحيوية” بشرط أن “تُعرض المراسيم التي سيتمّ إصدارها في أجل عشرة أيام من انقضاء المدة المحددة على مصادقة مجلس نوّاب الشّعب…” أو في حالة عدم مبادرة الحكومة ينظر فيها مجلس النواب تلقائيا. وقد شمل التفويض المؤقت في مدته الزمنيّة أربعة أغراض هي:

  • الميدان المالي والجبائي والاجتماعي،
  •  الحقوق والحرّيات وضبط الجنايات والجنح والمخالفات والعقوبات والإجراءات أمام المحاكم، 
  •  الميدان الصحي والبيئي والتعليمي والثقافي،
  •  تسيير المرافق العمومية والقطاع الخاص والضمانات الأساسية للأعوان العموميين والشغالين. 

كما حدد ما يمكن للمراسيم أن تتدخّل فيه في كل غرض ومنها. وفيما تعلق بإجراء المحاكمات – وهذا ما يهمّنا – أوضح التفويض المؤقت أن أي مرسوم يصدر يجب أن يتعلّق ب “إقرار أحكام استثنائية في الآجال والإجراءات في الدعاوى والطعون أمام مختلف أصناف المحاكم وبصفة عامة في كل الإجراءات والآجال المتعلقة بالالتزامات المدنية والتجارية وغيرها” أو “تنظيم الحقوق والحرّيات بما يتلاءم مع التدابير الوقائية المستوجبة لمقاومة تفشّي فيروس كورونا وانتقال العدوى به وبما يتماشى مع مقتضيات الفصل 49 من الدستور”.

تاليا، بالاستناد للتفويض التشريعي، أصدر رئيس الحكومة عددًا من المراسيم منها المرسوم عدد 12 لسنة 2020[2] المتعلّق بإضافة الفصل 141 مكرر لمجلة الإجراءات الجزائيّة المكرّس لآليّة المحاكمة عن بعد[3]، وهو النصّ الذي اعتمده المسؤولان القضائيّان في مقرّرهما للمحاكمات عن بعد.

ويستخلص من صريح نصّ القانون وممّا سبق ذكره من وقائع أن المرسوم المذكور سنّ في سياق “أحكام استثنائية” غايتها “مقاومة تفشّي فيروس الكورونا”، وهو وكما بيّن المشرع لا نفاذ له بعد نهاية تلك الجائحة وخارج الأجل القانوني للتفويض المسند منه إذا لم يصادق عليه مجلس نواب الشعب بموجب قانون.

واعتبارا لكون مجلس نواب الشعب التونسي لم يصادق على مرسوم المحاكمة على بُعد ولم يصدر قانونا يؤطرها ويجيزها، وبالنظر لكون كل مؤسسات الدولة تؤكد سلامة الوضع الصحي بتونس وبالسجون، وباعتبار ما تمّ سابقا من رفع لكل الإجراءات الاستثنائية المتعلقة بمجابهة تفشّي فيروس كورونا، يبدو من المهمّ التنبّه إلى أن مرسوم المحاكمة عن بعد بات في حكم المعدوم لغياب علّة اعتماده أولا ولفوات أجل نفاذه ثانيا. وهو ما يطرح السؤال عن دستورية مواصلة اعتباره نصا قانونيا نافذا.

لا دستورية المحاكمات عن بُعد: مساس بالحق في المحاكمة العادلة خارج ضوابط الدستور

أوجب نص التفويض التشريعي أن تكون مراسيم الكورونا محددة في غرضها وعلى علاقة بمجابهة جائحتها دون سواها. لكن وخلافا له أرسى المرسوم المُحدث للمحاكمة عن بعد قواعد عامّة غير محدّدة، إذ نصّ على أنه يمكن الالتجاء لتلك الآلية بطلب من النيابة العمومية أو بمبادرة من المحكمة بشرط قبول المتهم المودع بالسجن بها أو بقرار من المحكمة لا يتوقّف على موافقته في حالة “الخطر الملمّ أو لغاية التوقّي من أحد الأمراض السارية”.

وربما تفسّر صياغة النصّ بما فيها من تعميم يتجاوز حدود التّفويض مواصلة اعتماد عدد من المحاكم المحاكمات عن بُعد طبق أحكامه وإعلان وزارة العدل مزيد اعتماد شكل تلك المحاكمات هدفًا لاستراتيجيات عملها على العدالة. إلا أنه يبقى أن تلك الممارسات تغفل أن حضور المتهمين بالجلسات بما فيه من ضمان لحقهم في الدفاع عن أنفسهم في محضر قاضيهم ومن تمكين لهم من مواكبة فعليّة لجلسة محاكمتهم بما يخولهم مراقبة شفافية إجراءاتها ويعزز ثقتهم في عدالة محاكمتهم، وهي تتناقض تاليا مع مبادئ المحاكمة العادلة وتشكّل خرقا جسيما للدستور الذي يفرض ألا يُقيّد الحق إلا للضرورة وبما يناسبها وبنصّ قانون.

في هذا يمنع عدم تركيز السلطة الحاكمة للمحكمة الدستورية من مناقشة عدم دستورية مرسوم المحاكمة عن بُعد أمام قاضي الدستورية على أن ما حمّله الفصل 33 من الدستور النافذ لكلّ الهيئات القضائيّة من واجب حماية “الحقوق والحرّيات من أيّ انتهاك يطالها” يفرض على القضاة المتعهدين بالقضايا المعنية بإجراء المحاكمة عن بعد التصدّي للدفوع التي تناقش دستوريته، وهو ما يؤمل من قضاة الدائرة الجنائية المتعهدة وربّما أيضا قضاة المحكمة الإدارية إذا ما تمّ الالتجاء إليها ممن لهم المصلحة أي المتهمين.

لا مشروعية مقرّر اعتماد المحاكمة عن بعد: أيّ جزاء لخرق إجرائي جسيم

كما سلف بيانه، فإنّه وحسب ما نُشر من وثائق قد صدر قرار اعتماد المُحاكمات عن بعد فيما تعلق بالقضايا المنشورة بالدائرة الجنائيّة المتخصصة في القضايا الإرهابية عن مسؤوليْن قضائيّيْن إداريّيْن وبصفتهما تلك. وتمّ الاكتفاء في تسبيبه بقول أنّ مبرره “خطر حقيقيّ”. في المقابل، نلاحظ أنّ المرسوم المنظّم لتلك المحاكمات وبصرف النظر عن المُؤاخذات المُثارة في شأنه يسند صلاحية اتخاذ قرار إجراء المُحاكمة عن بعد للمحكمة ويفرض أن يكون قرارها في ذلك معلّلا.

ويبدو من غير المختلف فيه أن المقصود بالمحكمة في المرسوم ليس المشرفين عن المحاكم في اضطلاعهم بمهامهم الإدارية وانما الدائرة الحكمية في إطار ممارستها لوظيفتها القضائية. كما يكون من الواضح أن رئيسة المحكمة الابتدائية بتونس ووكيل الجمهورية بها باتخاذهما – كما توحي بذلك صيغة المراسلة الصادرة عنهما – قرار إجراء محاكمات شهر مارس 2025 للدائرة الجنائية المتخصصة في الجرائم الإرهابية مارسا صلاحيّة إدارية يمكن وصفها بالترتيبية لم يسندها لهما المشرع بنصّ قانوني.

وفي سياق السؤال عن الجزاءات المحتملة لما يبدو أنه خلل إجرائي يجب أن نلاحظ أن المرسوم حصّن القرارات التي تصدرها المحاكم أي الهيئات الحكمية بإجراء المحاكمات عن بعد وهي حصانة فيها قيد لحق التقاضي لا يمكن التوسع في تأويلها وتحديد مناطها. ويحتم حسن تطبيقها القول بكون المقرر الصادر من جهة غير مختصة بإجراء المحاكمة عن بعد لا يمكن أن يشمله منع التقاضي ويقبل بالتالي الطعن في مشروعيّته أمام قاضي الشرعية أي القاضي الإداري في مادة تجاوز السلطة لكونه مقرّرًا إداريّا وصدر من جهة مارست صلاحيّة إداريّة لا قضائيّة.

ويستخلص من كل ما سلف أنّ فرض محاكمات عن بُعد في قضايا جنائيّة على درجة من الخطورة ويواجه فيها المتهمون في عديد الحالات عقوبات مشددة قد تصل للإعدام يمسّ بالحق في المحاكمة العادلة. يُخشى أن يؤدي الإصرار على المضي فيه لتوريث الملاحقات القضائية مبطلات لا يمكن تلافيها زيادة على مسّه بالثقة العامة في القضاء بفعل التشكيك في خلفياته الحقيقيّة.

المحاكمات عن بعد في انعكاساتها: توظيفٌ جديد للقضاء 

شملت قائمة المحاكمات عن بُعد المزمع اجراؤها قضايا سبق نشرها ولم تثرْ جلساتها العلنية أيّة إشكالية أمنية أو صحية بما يدفع للريبة في ادّعاء أن هناك خطرُا يبرّر منع جلب المتهمين فيها للمحكمة. وعلى فرض وجود تهديدات أمنية تتعلق بكل تلك القضايا، كان يمكن عملا بالفصل 73 من القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب[4] الاذن بعقد جلسات المحكمة بغير مقرّها من دون أن يؤدّي ذلك إلى حرمان المتهمين من حقهم في محاكمة يحضرونها وتكون علنية.

خلافا لهذا، لم يكن خافيا عمّن يتابعون مجريات المحاكمات السياسية التي تشغل الرأي العامّ المحليّ إنّ السلطة اهتمّت بالتعتيم عن قضايا معينة منذ طورها الاستقرائيّ ومنها القضية التي يصطلح عليها بملف المؤامرة المشمول بإجراء المحاكمات عن بعد بما  يعزز الريبة في الأسباب الحقيقية لاعتماد اجراء المحاكمة عن بعد ويؤدي لافتراض  أن الغاية الحقيقية منه هي منع المتهمين في قضية المؤامرة من الموقوفين  وهم من الشخصيات السياسية التونسية  من فرصة لتحقيق ما سبق وتعهدّوا به هم ومحاميهم من كشف لما قالوا أنه تآمر من السلطة عليهم في ملف قضيتهم. وربما يجب انتظار جواب السلطة عن السّؤال حول مدى سماحها بحضور الإعلام والملاحظين بقاعة الجلسة ليتابعوا المحاكمة وينقلوا للرأي العامّ مجرياتها للتأكّد ممّا إذا كانت فعلا تريد إجراء المحاكمة الكبرى “خِفيَة”[5] وفي صمت أم أنها ستكتفي ببعض تشويش يفسد أجواءها.


[1]  قانون عدد 19 لسنة 2020 مؤرخ في 12 أفريل 2020 يتعلق بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)

[2]  مرسوم من رئيس الحكومة عدد 12 لسنة 2020 مؤرخ في 27 أفريل 2020 يتعلق بإتمام مجلة الإجراءات الجزائية

[3]   نص الفصل 141 مكرر  على انه ” يمكن للمحكمة أن تقرّر من تلقاء نفسها أو بطلب من النيابة العمومية أو المتهم، حضور المتهم المودع بالسجن بجلسات المحاكمة والتصريح بالحكم الصادر في شأنه، باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري المُؤمّنة للتواصل بين قاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة والفضاء السجني المجهز للغرض، وذلك بعد عرض الأمر على النيابة العمومية لإبداء الرأي وشرط موافقة المتهم على ذلك.ويجوز للمحكمة في حالة الخطر الملم أو لغاية التوقي من إحدى الأمراض السارية أن تقرر العمل بهذا الإجراء دون التوقف على موافقة المتهم المودع بالسجن.يكون القرار الصادر عن المحكمة باعتماد وسائل الاتصال السمعي البصري كتابيا ومعللا وغير قابل للطعن بأي وجه من الأوجه، ويُعلم به مدير السجن المعني والمتهم ومحاميه عند الاقتضاء بكل وسيلة تترك أثرا كتابيا في أجل لا يقل عن خمسة (5) أيام قبل تاريخ الجلسة، وللمحامي في هذه الحالة الخيار بين الدفاع عن منوّبه بقاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة أو بالفضاء السجني الحاضر به منوبه.ويُعتبر الفضاء السجني المخصّص والمجهّز لغرض التواصل السمعي البصري بين المحكمة والمتهم ومحاميه عند الاقتضاء، امتدادا لقاعة الجلسة وتنطبق به نفس القواعد المنظمة لتسيير الجلسة وحفظ النظام بها وزجر كل إخلال به وفقا للتشريع الجاري به العمل.وفي كلّ الحالات يتمتع المتهم المودع بالسجن والواقع محاكمته باعتماد وسائل الاتصال السمعي البصري بكلّ ضمانات المحاكمة العادلة وتسري على محاكمته نفس الإجراءات المنطبقة على وضعية المتهم الحاضر شخصيا بقاعة الجلسة كما تترتب عنها نفس الآثار القانونية.في صورة اختيار المحامي الحضور إلى جانب منوّبه بالفضاء السجني المخصص للتواصل السمعي البصري مع المحكمة، فإنه يُمكّن من المرافعة عن منوّبه وتقديم ملاحظاته وطلباته طبق القانون، على أن توجه التقارير الكتابية والمؤيدات للمحكمة المتعهدة قبل تاريخ الجلسة بيوم واحد على الأقل.ولرئيس الجلسة في صورة حصول خلل فني أو انقطاع الربط والإرسال السمعي البصري تعليق الجلسة لمدة لا تتجاوز الساعتين أو تأجيلها لموعد لاحق بعد أخذ رأي ممثل النيابة العمومية.وفي صورة اتخاذ قرار بتعليق الجلسة فإنها تُستأنف من حيث توقفت.”

[4]   قانون أساسي عدد 26 لسنة 2015 مؤرخ في 7 أوت 2015 يتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال

[5]  مصطلح قضائي ارتبط بجرائم  القانون عدد 64 لسنة 1966 المتعلق   بذبح حيوانات المجزرة  ويقصد به  ذبح الحيوانات بعيدا عن سلطة القانون .

انشر المقال



متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني